النخبة المثقفة بين الدين والدولة… أركون، الجابري، العروي وحميش 1/2
كيف يمكننا قراءة مواقف النخبة المثقفة من الدين في علاقته بالدولة؟
نقصد هنا تحديدا، المثقفين “التقليديين” الذين تتلمذنا على أيديهم في الجامعات، وطفقت مؤلفاتهم الآفاق، وطنيا وعربيا، بل ودوليا؛ على اعتبار أن هؤلاء كانوا هم السباقين إلى تشكيل وعي وضمير النخب التي تولت تسيير مقاليد الأمور فيما بعد، كل من موقعه. سيما وأن هؤلاء، ارتبطوا بالعمل السياسي، وعايشوا، عن قرب، مختلف المحطات النضالية التي عرفتها البلاد، منذ الاستقلال السياسي للمغرب إلى اليوم.
في هذا الملف، لن نضع قائمة محددة للقضايا التي نود مساءلتهم بخصوصها (إذ قد يتطلب ذلك لوحده بحثا أكاديميا مطولا)، بل سنسائلهم اعتمادا على ما ورد في بعض كتبهم أو مقالاتهم، أو بعض الحوارات الصحفية التي أجريت معهم، بخصوص تصوراتهم عن الدين، وعن دور الدين في الدولة المعاصرة.
من بين القضايا التي صارت تستأثر باهتمام أغلب شباب اليوم، ومعهم ثلة من المثقفين والمهتمين بالتراث الإسلامي، خلال العشرية الأخيرة على الأقل، قضية الدين في علاقته بالدولة والمجتمع المعاصرين.
هذا الاهتمام، ليس وليد اليوم طبعا، بل إنه غذى، على مر عشرات السنين، نقاشات كثيرة، لكنها كانت نقاشات نخبوية، لم تتجاوز ردهات الحرم الجامعي وقاعات الندوات المحدودة العدد والإشعاع، في أغلب الأوقات.
لكن معطيين رئيسيين فجرا، على حين غرة، وضعا جديدا، جثى بكل ثقله على المشهد العام، وبدأ في زرع الكثير من الشكوك والأسئلة الحارقة في أذهان الناس، والدفع في اتجاه تغيير القناعات الفكرية والقيم الأخلاقية لشباب اليوم؛ كما أضحى يشكل تهديدا مباشرا للبنيات المتوارثة، على الصعيدين الواقعي والفكري. هذان المعطيان يمكن تلخيصهما كالآتي:
1- بروز الإنترنت ووسائط التواصل الاجتماعي، وتحول العالم إلى قرية صغيرة، بالنظر إلى توفر المعلومة، وسهولة الوصول إليها وتقاسمها. مما أدى إلى تعاظم اهتمام الشباب، على الأخص، بمثل هذه القضايا التي كان الخوض فيها حكرا على المؤسسات الدينية والتعليمية المتخصصة، وثلة من حملة العلم الشرعي. ولم يعد بإمكان الوصفات الخطابية التقليدية إقناعهم بالجاهز، أو ثنيهم عن تكوين قناعات خاصة بهم، بعيدا عن أبصار وأسماع حراس المعبد القديم.
2- نجاح تنظيم داعش في إقامة دولة له، باعتبارها النواة الأولى، لدولة الخلافة التي سترخي بظلال مشروعها لاحقا (على الأقل في تصور عرابيها)، على كل بلاد المعمور. هذا المعطى، صدم المواطن المسلم “الوسطي” الذي رأى الدواعش يسبون النساء الإيزيديات، ويقطعون أيدي المخالفين لقوانينهم القديمة الجديدة، بل ويحرقون من اعتبروهم أعداء لهم، أحياء. وبين كل جريمة وأخرى، كانوا يرفعون القرآن عاليا ويصرحون، ملء حناجرهم، بأن كل ما فعلوه لا يحيد، قيد أنمله، عن كلام الله وسنة نبيه. وكان وقع الصدمة أقوى على من بذلوا مجهودا في العودة إلى المصادر الأصلية لتراثهم، وتأكدوا من صحة ادعاءات هؤلاء. وتأكدوا، في نفس الوقت، من أن سبب استنكاف الإسلاميين الطويل، عن الحديث عن مشروع دولة الخلافة، لم يكن قط بسبب مراجعات فكرية في العمق (كما ادعي في مصر التسعينات مثلا)، ولا بسبب استبشاعهم للجرائم التي ارتكبت، ويمكن أن ترتكب باسمه، بل فقط، بسبب حالة الضعف والهوان، التي يوجد فيها المسلمون اليوم.
لكن، رغم هذه المتغيرات الخطيرة، ظلت الأنظمة العربية والإسلامية تنتهج نفس الأساليب التقليدية في التعامل مع الدين، وظلت تتخذ منه مواقف رمادية، إذ ظل جزء منها، يتأرجح عبر التاريخ الحديث، بين محاولة التطبيق الكامل لتعاليم الدين الإسلامي فيما اختار جزء أخر المراوحة بين التقليد والحداثة، دون أن يفلح أي منهما في إرساء معالم واضحة، لنظام سياسي جدير بالتطبيق، وقادر على الاستمرار والتطور، وعلى تقديم حلول فعالة، للمشاكل المزمنة لساكنة هذه البقعة من الأرض.
على رأس الدول التي اختارت الاستمرار في تحكيم الشريعة بحذافيرها، في كل مناحي الحياة السياسية ولاجتماعية، هناك السعودية، التي متحت من الإيديولوجيا الوهابية لعقود طويلة، وأعملت تعاليم شيوخها في تشكيل نظام سياسي عشائري هجين، كان سيلامس الإفلاس حتما، لولا حقن ومراهم عائدات البترول التي كانت تنعشه كلما أوشك على الإفلاس. علاوة على تفريخ مؤسسات وظواهر اجتماعية، شكلت مواد دسمة لسخرية العالم: مجالس للحسبة، شرطة للأخلاق، جلد وإعدام على رؤوس الأشهاد، للمخالفين داخليا، وتعقب للمعارضين النشطاء حيثما حلوا وارتحلو…). (1)
في الجانب الآخر، اختارت دول أخرى كثيرة اعتماد قوانين وتشريعات وضعية، مستوحاة من تجارب دول غربية، لكنها أبقت على الشريعة الإسلامية كمصدر رئيسي للتشريع، وبالخصوص يما يتعلق بالحياة الاجتماعية للمواطنين (الأحوال الشخصية: وضعية المرأة، الزواج والطلاق، الإرث…)، وعطلت بعض مقتضياتها الأخرى، المتعارضة صراحة مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. بمعنى أنها أعملت انتقائية مقيتة للظهور، سياسيا، في شكل دول حديثة، تتماشى، ظاهريا، مع روح العصر ومقتضياته، لكنها تحافظ في العمق، على نفس الواقع التقليدي المتخلف، المكلف كثيرا للدولة وللمواطن على حد سواء.
وإن كان النظام الحاكم في السعودية والأنظمة المجاورة، قد اضطروا بالأمس القريب، إلى التخلص من أسواق النخاسة مثلا، بضغط مباشر من القوى الدولية الكبرى آنذاك، فإنها اضطرت اليوم، إلى إعمال المشرط في النصوص الدينية، المغذية لمختلف ظواهر التخلف المجتمعية المتناسلة لديها، بضغط من دولة خارجية، مرة أخرى. كما اضطرت الدول التي تلعب على الحبلين، إما إلى إلغاء أحكام شرعية واضحة، أو على الأقل تقليم أظافر بعضها، تحت ضغط المشاكل الاجتماعية المستفحلة، وتكتل القوى الحداثية.
فيما يتعلق بالمغرب، المنتمي للعينة الثانية، مع تمايزات نسبية، كانت الدولة أكثر مرونة من غيرها، وأكثر إنصاتا لنبض الشارع والجمعيات الحقوقية الفاعلة. لذلك بادرت، مثلا، إلى إقرار مدونة للأسرة أكثر تقدما بكثير مما هي عليه في أكثر البلدان العربية. لكن الترسانة القانونية في المغرب، مازالت موضع نقاش اجتماعي مستمر، وما زال بعض المثقفين يطالبون بتعطيل نصوص دينية معينة، أو تعديل مقتضيات تشريعية تجووزت بفعل الواقع العنيد (نقاش الحمض النووي لإثبات بنوة الطفل مؤخرا، كمثال).
هذا الوضع هو ما يدفع بنا إلى التسائل عن مواقف النخبة المثقفة من الدين في علاقته بالدولة. ونقصد هنا تحديدا، المثقفين “التقليديين” الذين تتلمذنا على أيديهم في الجامعات، وطفقت مؤلفاتهم الآفاق، وطنيا وعربيا، بل ودوليا. على اعتبار أن هؤلاء كانوا هم السباقين إلى تشكيل وعي وضمير النخب التي تولت تسيير مقاليد الأمور فيما بعد، كل من موقعه. سيما وأن هؤلاء، ارتبطوا بالعمل السياسي، وعايشوا، عن قرب، مختلف المحطات النضالية التي عرفتها البلاد، منذ الاستقلال السياسي للمغرب إلى اليوم، على اعتبار أنهم كانوا منظرين لأعتى حزب سياسي في المغرب: الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، والذي صار يحمل إسم الإتحاد الإشتراكي بعد المؤتمر الإستثنائي، سنة 1975.
لكننا في مقالنا هذا، لن نضع قائمة محددة للقضايا التي نود مساءلتهم بخصوصها (إذ قد يتطلب ذلك لوحده بحثا أكاديميا مطولا)، بل سنسائلهم اعتمادا على ما ورد في بعض كتبهم أو مقالاتهم، أو بعض الحوارات الصحفية التي أجريت معهم، بخصوص تصوراتهم عن الدين، وعن دور الدين في الدولة المعاصرة.
أ- محمد عابد الجابري
لا شك في أن المفكر المغربي محمد عابد الجابري ينطلق، في كل مواقفه وآرائه بخصوص الإسلام، كتاريخ وكممارسة يومية معاصرة مؤسس لها، من قناعاته الذاتية، باعتباره مسلما، كما يعلن عن ذلك هو نفسه بوضوح، في أكثر من موضع في كتبه ومقالاته. وهذا من حقه تماما. غير أن العمل الأكاديمي المحض يقتضي، في نظرنا، الانفصال التام منهجيا، عن كل حمولة ثقافية نفسية راكمها الباحث خلال تنشئته، لكي يضمن لعمله البحثي، أيا كان تخصصه، أقصى حد ممكن من الموضوعية ومن الصرامة العلمية اللازمتين، بصرف النظر عن مواقف هذه الجماعة أو تلك، أو عن رضى السلطة القائمة أو تبرمها، من النتائج التي قد يفضي إليها البحث الأكاديمي المعني بالأمر.
غياب الصرامة العلمية المطلوبة، مضاف إليها رغبة الباحث في الحفاظ على قاعدة واسعة من القراء الذين يشاطرونه نفس القناعات، وأحيانا مداراة للخطوط الحمراء المرسومة من قبل السلطة القائمة، غالبا ما يفضي كل ذلك إلى مقاربات تبريرية، لا تنويرية، ومواقف عاطفية لا علمية، تجاه الدين والسلطة والمجتمع في آن.
وللتدليل على دعوانا، نتناول فيما يلي بعض مواقف الفقيد من خلال كتابه “الدين والدولة وتطبيق الشريعة”.
1- دين أم دولة
في كتابه “الدين والدولة وتطبيق الشريعة” (2) يؤكد الدكتور محمد عابد الجابري أن الرسول في بداية الدعوة، لم يكن هدفه تأسيس دولة، بقدر ما كان يسعى إلى نشر الدين الجديد، بدليل أن أهل مكة عرضوا عليه رئاسة مكة فرفض (3) ولا شك أنه يرمي من وراء هذا، إلى أن بداية تكوين الدولة، مع ما رافق ذلك من مجازر، لم ينطلق إلا بعد وفاة الرسول، أي دون أمر مباشر منه.
والواقع أن الدين الجديد، استغرق، كما هو معلوم، 23 سنة لكي يكتمل، باكتمال القرآن نفسه. وقتذاك، كان المسلمون قد قادوا حوالي 73 سرية و 28 غزوة، كسبوها جميعا، ضد كل القبائل العربية المجاورة، بل كانوا قد بلغوا إلى ثغور ما يسمى اليوم بالأردن. علما بأن أول سرية للمسلمين، ضد قوافل قريش، كانت في السنة الأولى للهجرة، أي قبل حتى أن يشرع ثاني أهم ركن من أركان الإسلام: الصيام، مثلا.
وقبل ذلك حتى، وقيد حياة أبي طالب، كان حلم تأسيس دولة على أنقاض قبائل قريش المتفرقة، يراود الرسول بقوة. لنتأمل هذا النص مثلا: “قال أبو جهل بن هشام: ترفضنا من ذكرك، ولا تلزمنا ولا من آلهتنا في شيء، وندعك وربك. فقال رسول الله: إن أعطيتكم ما سألتم، أمعطي أنتم كلمة واحدة لكم فيها خير، تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم؟”.(4)
أخيرا، وبخصوص عرض قريش الرئاسة على الرسول، فأهل العلم يعتبرون الحديث برمته مما شاع ولم يثبت. وقد ضعفه الألباني في كتاب “سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة” (5).
2- لا حاجة للعلمانية
يقترح الدكتور محمد عابد الجابري “استبعاد شعار العلمانية من الفكر القومي العربي، وتعويضه بشعاري الديمقراطية والعلمانية. فهما اللذان يعبران تعبيرا مطابقا عن حاجات المجتمع العربي”(6) . ثم يستدل على صحة هذا الطرح بكون فكرة العلمانية “غريبة تماما عن الدين الإسلامي وأهله: فالدين الإسلامي قوامه علاقة مباشرة بين الفرد البشري وبين الله، فهو لا يعترف بأي وسيط، وليس فيه سلطة روحية من اختصاص فريق، وسلطة زمنية من اختصاص فريق آخر”(7).
ويبدو أن الجابري نسي مؤسسة الأزهر ودور شيوخ الدين المحوري، في حياة المسلمين قديما وحديثا. فعلاقة الفرد المسلم بربه لم تكن أبدا علاقة فردية. لا أدل على ذلك من أطنان الكتب الدينية المتضمنة لفتاوى، لم تترك شاذة ولا فاذة في حياة المسلم، إلا وأحصتها؛ وجعلت المواطن المسلم البسيط لا يقدم ولا يؤخر قيد أنملة، إلا إذا استشار إمام حيه. مما يجعل من كل حديث عن الكهنوت في الغرب، مجرد مزايدات لفظية قوامها الانحياز العاطفي الديني، ليس إلا.
كما أن التعذر بانعدام أقليات دينية (باستثناء مصر ولبنان) لإقرار عدم الحاجة للعلمانية، مجرد كلام مرسل. فالعلمانية، والديمقراطية والعقلانية اليوم، صارت مطلبا كونيا، ولم يعد هناك مجال للفصل بينها، ولا التمكين لإحداهما على حساب الأخرى.
العلمانية مجرد آلية للحكم، ودون ربطها بالديمقراطية، قد تفضي إلى نظام ديكتاتوري (العراق، سوريا مثلا) كما قد تفضي الديمقراطية المنبنية على التمثيل الديني في السياسة إلى الفوضى والحروب الأهلية. فلو كان النافذون في الحكم في لبنان، سنوات الثمانينات مثلا، أقروا العلمانية كآلية للحكم وأبعدوا الأديان والإثنيات عن الحكم، لما دمرتها الحروب الأهلية، وأوقفت الدولة اليوم على حافة الإفلاس.
والدين، أي دين كان، ليس وسيلة للحكم، ولا يستطيع أن يكونها حتى ولو توفرت أصدق الإرادات لتطويره، وأفضل الاجتهادات الفقهية لتأهيله. أما الحديث عن القومية فقد أثبتت الأحداث أنه مجرد لغو لا طائل من وراءه.
3- في تطبيق الشريعة
بعد أن يقر بأن الشريعة لم تطبق كاملة، لا على عهد الرسول ولا في عهد الخلفاء، وبأن الاجتهاد لم يبلغ الكمال “لا في مجال تطبيق الشريعة، ولا في غيره من المجالات”(8) يدعو الجابري إلى أن “ننظر إلى ماضينا كله نظرة تاريخية، نظرة تعتمد “أسباب النزول” فنأخذه في كليته ونعترف به كتاريخ للإسلام والمسلمين (..) ناظرين إلى المستقبل نفس النظرة، النظرة التاريخية التي ترى الكمال صيرورة، وليس معطى جامدا”(9).
النظرة التاريخية تعتمد التاريخ، بالمعنى العلمي للتاريخ، كمرجع رئيسي، لمنطلقاتها. والحال أن ما نسميه نحن بالتاريخ الإسلامي، هو عبارة عن تراث حكائي، عموده الفقري جملة حكايا خرافية، ليس عليها أي دليل علمي من أي نوع كان. لا عملات معدنية ولا أدوات طبخ أو صيد أو فلاحة، لا آثار ولا دلائل حفرية ولا حتى إشارات في المخطوطات التي كتبت في نفس الفترة من خارج المنطقة، للتاريخ الذي تدعيه الروايات، يمكن أن نستدل منها على أي شيء يدعم الروايات المتواترة، التي كتبت في العصر العباسي، أي بعد حوالي قرنين من الوفاة المفترضة لرسول الإسلام.
الجابري لم يجب على سؤال تطبيق الشريعة في زمننا الحاضر، أي بعد قرون من اكتمال كل أركانها (قرآن، حديث، سيرة، فقه، اجتهاد)! واكتفى فقط بالتعميم المشوب بالغموض، حيث ينبغي الوضوح. ما معنى النظرة التاريخية، حين يتعلق الأمر بتطبيق الشريعة من عدمه؟ هل المقصود بذلك هو تطبيقها حرفيا باعتبارها منتوجا تاريخيا مكتملا اليوم، أم التعامل معها على أنها جزء من الماضي، وجب الآن القطع معه، والاحتكام إلى القوانين الوضعية، أم أن على الدول “العصرية” المزاوجة في مصادر تشريعها بينهما، كما هو حاصل اليوم في كل الدول العربية الإسلامية تقريبا؟
واضح أن الجابري استشعر طبيعة المأزق الذي قد يجره إليه اتخاد موقف واضح من المسألة، وفضل تلافي ردود الفعل المتطرفة، الصادرة عن جهات حاكمة في بعض دول الخليج، وعن الإسلاميين عموما، بل وعن شريحة مهمة من قرائه أنفسهم. وفي الوقت ذاته مساكنة التيار الليبرالي على ضعفه، سيما وأن موقفه من العلمانية قد أخل بهذا التوازن الهش أصلا.
ب- بنسالم حميش
سبق للمفكر المغربي ووزير الثقافة السابق، الأستاذ بنسالم حميش، أن نشر مقالا، سنة 2016، في أحد المواقع المغربية (10)، يستعرض فيه جملة مؤاخذات منهجية، على المفكر والباحث، الراحل محمد أركون. وهو ما استدعى لاحقا ردود فعل متباينة، كان أبرزها رد أرملة الراحل، السيدة ثريا يعقوبي، المنشور بنفس المنبر الإعلامي (11).
تعميما للفائدة سنعمد إلى تقديم ملخص للأفكار الواردة في مقال حميش الأصلي، قبل الانتقال لمناقشة فكرة وجود بذور للعنف في الإسلام من عدمه، باعتباره الموضوع الذي يعنينا بالأساس في هذه الخصومة الفكرية التي فيها من الخصام أكثر بكثير مما فيها من التفكير الهادئ والرصين.
يمكن تلخيص مؤاخذات حميش على أركون كالتالي:
1- اعتماده على المنهج التفكيكي للنص القرآني، عوضا عن المنهج التحليلي، مما حذا به إلى اعتبار القرآن نصا تاريخانيا، دون الالتفات إلى عنصري الوحي والإعجاز. ولهذا اعتبر أركون حكايات مثل العنكبوت والإسراء وظهور جبريل والإنباء عن الغيب، مجرد أخبار عجائبية.
2- يعيب على أركون تأكيده على نهاية الفلسفة في الإسلام مع ابن رشد، بالرغم من وجود فلاسفة لاحقين له (يذكر حميش ثلاثة متصوفة ومؤرخ، وشيعي غنوصي). كما يعترض بعنف على التقليل من شأن “النهضة العربية” في القرن 19، واعتبارها غير ذات موضوع.
3- (وهذا هو ما يعنينا في المقال تحديدا) كون أركون يدفع بأن سورة “التوبة” وآيتها الخامسة خاصة (12) متضمنةً لبذور العنف الإسلامي!؟ حيث يعمد حميش إلى التماس مسوغات لهذا العنف، وأهمها “نكث المشركين للعهود المبرمة وإخلالهم بمبادئ السلم والأمان فيها”.
4- يعيب عليه كذلك، اعتماده اللوغوس كمقياس وحيد للنظر في مجال حياة الفكر والمفاهيم، دون الالتفات “للذائقة الفنية والجمالية” فيهما.
5- عودة إلى انتقاد نفي أركون ل “الأصل الإلهي عن القرآن وإرجاع كثير من أساسياته، كالوحي والغيوب والإعجاز (..) إلى العقلية الميثية والعجائبية”.
لنلاحظ أن بنسالم حميش، يستنكر على أستاذه التأكيد على أن الإسلام يحمل جينات العنف، مدللا على صحة اعتراضه، بكون أركون فصل الآية 5 من سورة التوبة، (والمسماة أيضا “براءة” و “الفاضحة”) عن سياقها، فقط ليخلص، بشكل متعسف، إلى وجود دعوة مفترضة واضحة إلى العنف. والحقيقة، وفق حميش، هي أن الآية المذكورة، دعت لاستعمال العنف فقط، ضد المشركين الذين نكثوا العهود المبرمة وأخلو بمبادئ السلم والأمان.
بمعنى آخر، فإن الإسلام لا يدعو إلى العنف ضد المخالفين لتعاليمه، إن ظلوا مسالمين للمسلمين، وسيوف هؤلاء تظل حبيسة أغمادها، ما لم ينكث عهد، ولا دعى كفار أو مشركون إلى الحرب ضدهم.
والواقع أن السيد حميش في هذا، لم يوضح لنا، من القرآن نفسه، المواضع التي تربط بشكل واضح، لا لبس فيه، بين نكث العهود واستعمال السيف. إضافة إلى كونه لم يعدد لنا تلك العهود والمواثيق التي أبرمها المسلمون مع الكفار والمشركين، قبل أن ينكثها هؤلاء. وللقارئ أن يتأكد بنفسه، على الشبكة أو من أمهات المراجع الإسلامية مباشرة، من أنه باستثناء صلح الحذيبية المبرم بين محمد ومشركي قريش فجر الدعوة، والذي لم يوثق تأريخيا هو نفسه، إلى اليوم، فإن كل ما يروج عن معاهدات لاحقة بين المسلمين واليهود، مجرد توليفات إنشائية مكرورة، تتغيى تبرير الاغتيالات السياسية الكثيرة، والحصارات الطويلة المتبوعة بمذابح، أفلت من الموت فيها من الذكور فقط، من لم ينبث شعر عانته بعد، فضلا عن الحروب المعلنة في كل اتجاه، والتي لم توقفها سوى الحرب الصليبية أواخر القرن الحادي عشر.
لكن لندع التاريخ المفترى عليه جانبا، ولنعد فقط إلى النص القرآني نفسه. فإن كان السيد حميش، قد سيج الآية المذكورة آنفا، باتفاقيات، انتهكها الكفار والمشركون، فإننا نهمس في أذنه، بأن تلك الآية ليست الوحيدة التي تدعو المسلمين لقتال الكفار. وسيجد القارئ في المرجع أدناه بعضا منها (13) لكن الآية التي لا تقبل الجدل من حيث وضوح الدعوة إلى قتال من ارتضى غير الإسلام ملة، وليس فقط من نكث منهم العهود والمواثيق، فهي بلا منازع، الآية 29 من سورة التوبة، أي نفس السورة التى متح منها السيد حميش مبررات إعمال المهند في من خفر العهد. تقول الآية حرفيا: “قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون”.
فالدعوة إلى قتال الكفار والمشركين هنا، لا تستهدفهم بسبب نكثهم لأية عهود كانت. بل لسبب واحد ووحيد هو: أن اليهود قالوا ” عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّه”، والنصارى قالوا “الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ”! أي لأن اليهود والنصارى أشركوا مع الله آلهة غيره. ليس المجال سانحا هنا، لمناقشة واقعية بنوة عزير والمسيح لله، لكن المؤكد هو أن العقاب نزل بسبب اعتقادهم.
ونحن إذ نؤكد على واقع دعوة الإسلام لإعمال العنف ضد المخالفين، فإننا لا نهدف البتة لتقديم الإسلام في صورة الدين الدموي الإقصائي، للتدليل على بطلانه وصحة غيره من الديانات مثلا. لأن المؤكد هو أن الديانات الإبراهيمية الثلاث، تتضمن الدعوة إلى العنف ضد المخالفين، وتتوعدهم بالويل والثبور، وعظائم الأمور. مع فارق واحد جوهري: هو أن اليهود والمسيحيين بالأخص، خلصوا في النهاية إلى ضرورة تعطيل تلك النصوص، لمسايرة ركب تطور المجتمعات الإنسانية الحديثة، وبروز قيم جديدة قوامها التنصيص على حرية المعتقد، والمساواة والتعايش المشترك، بصرف النظر عن فوارق الدين والجنس ولون البشرة وغيرها.
غير هذا، هناك قضايا أخرى في نفس السياق، تناولها الأستاذ حميش بالتفصيل في كتابه “في الاسلام الثقافي” (14)، نعرض منها على القارئ ما يلي.
6- حكم المرتد
حيث يوضح حميش بأن هذا الحكم كان مقصورا على “زمن الفتوحات والحروب، بحيث كان ينظر إلى المرتد والمنافق ويتعامل معهما كما الشأن بالنسبة للخائن والمتعامل مع العدو حتى في أحدث الحروب”(15). لكن في زمن السلم، فالقاعدة تقوم في هذه الآيات: لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي (البقرة 256) ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا. أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟ (يونس 99) فذكر، إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر. (الغاشية 21، 22).
والواقع أن مقارنة وضعية المرتد في الإسلام بوضعية المحارب الخائن، المتعامل مع العدو، مجرد مغالطة، تهدف إلى إظهار المرتد بمظهر من سيؤلب ويجيش الناس ضد المسلمين بمجرد ترك دينه. والواقع أن الإرتداد هو مجرد قرار شخصي بترك الإسلام، لا يستتبع بالضرورة إعلان حرب على أي كان، ولا إفشاء أسرار أي كان. وهو ما لا تستقيم معه مقارنة أشخاص عزل تركوا دينهم، بكتيبة من الجنود، أو بمسئولين عسكريين ذوي مناصب عليا في جيشهم الأصلي، ويمتلكون بفعل ذلك، اطلاعا كافيا على مخططاته وأسراره الحربية. هذه المقارنة عند أهل المنطق تسمى بمغالطة “وأنت أيضا” إذ لا يكفي التذرع بممارسات مشينة عند الآخر، لتسويغ ممارساتنا المشينة.
لا نحتاج هنا لإثبات أن حكم الردة في كل الفقه الإسلامي كان دائما سلاحا لمنع الناس من ترك الإسلام، سواء أكان المسلمون في حالة حرب أو لم يكونوا. وهذا ما يؤكده القرضاوي مثلا، حين يصرح بأنه لولا حكم المرتد، لما بقي هناك إسلام.
للإشارة، فالإسلام هو الدين الوحيد الذي يتضمن حكما من هذا القبيل.
أخيرا، نسجل بخصوص الآيات الثلاث التي استشهد بها الأستاذ حميش للاستدلال على أن التسامح مع المرتد هو القاعدة، هناك آيتان مكيتان، ونحن نعرف أن الآيات المكية كانت تدعو للسلم عموما، حين كان المسلمون مستضعفين. خلافا للآيات المدنية، حيث ساد خطاب آخر، من قبيل: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (محمد 35) أو وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (آل عمران 85) وغيرها كثير. إلى الحد الذي يمكننا معه الإستدلال على الشيء ونقيضه، بالاستشهاد بآيات منتقاة بعناية، ولو خارج سياقها العام، كما يفعل الأستاذ حميش.
7- المرأة
يورد الأستاذ حميش أحاديث نبوية لتبيان حرص الإسلام على الرفع من مكانة المرأة، وهي: “خذوا نصف دينكم من هذه الحميراء”، “ما أكرم النساء إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم” و “لا تكرهوا البنات، إنهن المؤنسات الغاليات”. (16). ويعرج على استعمال أبي حنيفة للآية 3 من سورة النساء “وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة”.
وفي الصفحة الموالية، يفترض الأستاذ حميش بأن من يآخذون الإسلام على امتهانه للمرأة، يستندون في ذلك إلى حديث “النساء ناقصات عقل ودين”(17). وإلى تحليل الإسلام لتعدد الزوجات، فيذهب إلى أن تعدد الزوجات عبارة عن “رخصة أو استثناء استدعته ظروف، منها تحديدا الفتوحات والمغازي، وما كانت تحدثه من تناقص في أعداد الرجال من العائلين والعزاب. أما القاعدة الثابتة فدليلها التعجيزي وعنوانها الأوضح قائمان في الآية 129 من السورة نفسها “ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم”(18). ثم ينتقل إلى الحديث عن نشوز المرأة وآية “وإن خفتم نشوزهن…” فيقول عن ضرب المرأة: “الضرب هو أخر ما يلجأ إليه في حالة نشوز الزوجة، على أن يكون الضرب خفيفا لينا، وقيل بالكم أو بحزام من حرير “(19). وهو ما لا يؤكده حديث خطبة الوداع الذي يستشهد به الأستاذ.
بخصوص حديث “خذوا نصف دينكم من هذه الحميراء”، نكتفي بعرض بعض من آراء من قاموا بتخريجه، دون تعليق:
– ابن عثيمين: ضعيف جداً أو موضوع
– ابن حجر: لا أعرف له إسناداً، ولا رأيته في شيء من كتب الحديث!
– ابن القيم: كل حديث فيه “يا حميراء” أو ذكر الحميراء فهو كذب مختلق مثل: يا حميراء لا تأكلي الطين فإنه يورث كذا وكذا وحديث: خذوا شطر دينكم عن الحميراء (20).
بخصوص حديث “ما أكرم النساء إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم”، نحيل القارئ إلى كتاب “سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة” للألباني ليتأكد بنفسه من كون الحديث وصف بالمرفوع والغريب والمنكر والضعيف، بل والمكذوب.
لم يتبق لنا إلا حديث واحد وصف بالصحة، وهو حديث “لا تكرهوا البنات…” والذي نتساءل بخصوصه: إكراه البنات علام؟ سيما وأن الآية القرآنية الوحيدة التي تحث على عدم إكراه الفتيات، تتحدث عن البغاء! وهذا نصها : وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ. (النور 33).
…فليتأمل القارئ.
لقراءة الجزء الثاني: النخبة المثقفة بين الدين والدولة… تجنب الاصطدام (فيديو) 2/2
مراجع وهوامش:
(1) أنظر تقرير الخارجية الأمريكية حول حقوق الإنسان في السعودية لسنة 2020 في هذا الرابط https://www.hrw.org/ar/world-report/2021/country-chapters/377365
(2) الناشر: مركز دراسات الوحدة الإسلامية. والكتاب من سلسلة الثقافة القومية، قضايا الفكر العربي – الطبعة الأولى، بيروت 1996
(3) الصفحة 65.
(4) تاريخ دمشق لابن عساكر، ج 66، ص 321.
(5) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وأثرها السيئ في الأمة. دار المعارف، الرياض – المملكة العربية السعودية – الطبعة: الأولى، 1412 هـ / 1992 م.
(6) الصفحة 108 من كتاب “الدين والدولة وتطبيق الشريعة”.
(7) المرجع السابق، الصفحة 110
(8) المرجع السابق، الصفحة 208 و 209.
(9) المرجع السابق.
(10) رابط مقال الأستاذ بنسالم حميش:
https://www.hespress.com/%D8%A8%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%AD%D9%85%D9%8A%D8%B4-%D9%8A%D9%83%D8%AA%D8%A8-%D8%B9%D9%86-%D8%A3%D8%B1%D9%83%D9%88%D9%86-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AE%D8%AA%D8%B2%D8%A7%D9%84-273024.html
(11) رابط مقال الرد لثريا اليعقوبي:
https://www.hespress.com/%D8%A3%D8%B1%D9%85%D9%84%D8%A9-%D8%A3%D8%B1%D9%83%D9%88%D9%86-%D8%AA%D8%B1%D8%AF-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%AD%D9%85%D9%8A%D8%B4-%D9%85%D9%82%D8%A7%D9%84%D9%83-%D8%AC%D8%A8%D8%A7%D9%86-%D9%88%D8%AA%D8%B5-274676.html
(12) الآية 5 من سورة التوبة ونصها: “فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد”.
(13) هذه فقط بعض الآيات المحرضة على العنف: أ- الآيات 193، 216، 244 و217 من سورة البقرة. ب- الآيات 74، 76، 84 و 89 من سورة النساء. ج- الآية 33 من سورة المائدة. د- الآية 12، 36 و 60 من سورة الأنفال. ه- الآية 35 من سورة محمد.
(14) الدار المصرية اللبنانية، الطبعة الأولى، ماي 2016.
(15) الصفحة 231.
(16) الصفحة 232.
(17) الصفحة 233
(18) الصفحة 234.
(19) الصفحة 236
(20) المصدر: إسلام ويب:
https://www.islamweb.net/ar/fatwa/12234/%D8%AD%D8%AF%D9%8A%D8%AB%D8%AE%D8%B0%D9%88%D8%A7-%D9%86%D8%B5%D9%81-%D8%AF%D9%8A%D9%86%D9%83%D9%85-%D9%85%D9%86-%D9%87%D8%B0%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%85%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D8%A1