عبد الكريم جويطي يكتب عن كرة القدم المغربية: الولد “محمد عياش” و غدر الدليمي… - Marayana - مرايانا
×
×

عبد الكريم جويطي يكتب عن كرة القدم المغربية: الولد “محمد عياش” و غدر الدليمي…

لم يواصل الولد مع المنتخب المغربي، لا لأنه لم يكن يستحق ذلك، بل لأنه كان يسبح في ماء غير مائه، وكان يتكلم لغة غير لغة المكر والسباب والاستقواء بالغير.
كان الولد سيشارك في مونديال 70. دخل معسكر اختيار اللائحة، التي ستمثل المغرب في كرة القدم، وقيل لهم في ختام المعسكر، بأن كل من اختير سيأخذ له الخياط مقاس إعداد بدلة رسمية له. كان الولد من بين من مر الخياط بغرفهم. عاد فرحا إلى بني ملال في انتظار نشر اللائحة، لكنه سيصدم حين لم يجد فيها اسمه، ووجد بدله لاعبا من فريق سيدي قاسم، لم يكن حاضرا في المعسكر. لم يقبل الدليمي ذهاب المنتخب للمكسيك بدون لاعب من فريق مدينته، وكان الولد هو الضحية المثلى لأنه من مدينة صغيرة وبلا صوت، ويمكن أن تداس كلها في صمت.

لعب للفريق سنة 1966 في سن السادسة عشر، بعد أن لعب مقابلتين فقط لفئة الشبان، ونودي عليه في سن الثامنة عشر للمنتخب الوطني الأول، رغم أن رجاء بني ملال كان آنذاك في القسم الوطني الثاني.

كانت حالة نادرة واستثنائية. سألت الكولونيل إدريس باموس، حين كان قائدا لسرية الدرك ببني ملال عن أحسن صانع ألعاب رآه في الملاعب المغربية، إن تركناه هو جانبا، فأجاب، وبدون تردد: الولد.

سألت المرحوم الحاج كبور من يكون أعظم لاعب أنجبته ملاعب بني ملال بعده هو، فأجاب: الولد. وحدثني كثيرا عن خاصية تفرد بها الولد منذ أن لعب إلى جانبه وهو فتى. لم يكن يسدد كثيرا للمرمى، لكنه حين يفعل ذلك، فعلى الحارس أن يلتقط الكرة من الشباك، فقط.

حكيت ما قال لي الحاج كبور للولد، ففسر لي بابتسامة واستحياء، بأنه لعب مع لاعبين يفوقونه كثيرا في السن، حتى أنه لم يكن يقدر على النظر في وجوههم. ولأنه كان صغيرا جدا، فقد كان يخاف إن هو أكثر من القذف نحو المرمى أن يوبخوه. لهذا لم يكن يجازف بالقذف أو المراوغات الزائدة إلا حين يضطر لذلك.

معظم أهدافه آنذاك أملتها الضرورة، فلو كان أحدهم بجانبه لسلمه الكرة. كان يلعب باقتصاد وتعقل ليضمن مكانة بينهم، ورغم أنه لعب في الجناح الأيسر الذي لا يناسب قدراته، فإنه تمكن من فرض نفسه على الجميع…

الولد، اللاعب العظيم، الذي كان حالة استثنائية في ترويض الكرة و توجيهها حيث شاء، وقراءة اللعب، نتاج خالص لملاعب الأحياء، ولذلك اللعب المرتجل لساعات في مساحات ضيقة لا تعلمك المكر فقط، وإنما تعلمك مراودة الكرة بين فكي ذئب، وتعلمك أيضا روح الانتصار حتى لو كنت تلعب من أجل شق تمرة.

… وككل أولاد القصبة، تعلم الولد كل شيء عن كرة القدم في ملعب التنس الصغير الذي يحاذي ساقية تامجنونت.

إنها أكاديمية البسطاء والغلابة التي يتشرب فيها الصغار تعاليم كرة القدم و فلسفتها والروح التي ينبغي أن تكون بداخل كل من يلعبها.
يعرف الولد أكثر من غيره، بأن الكرة تتعلم وتتقن حين تلازمها الحرية، الحرية في أن تنجز ما لا يتوقعه الخصم، الحرية في أن تجرب، وأن تسير إلى أقصى ما يتحمله جسدك، الحرية في أن تتعلم بدون معلم، تتعلم بالخطأ والمحاولة والتكرار والمجازفة.

في مدينة يستحيل فيها أن تستوي إجماعات، حتى لو بعث فيها نبي من الأنبياء السابقين، وسار بين الناس، فسيختلفون حوله، يعلي من شأنه البعض ويحط من قدره البعض الآخر…

في مدينة تقتل أبناءها بالنسيان والتجاهل، يكاد يكون الولد حالة نادرة جدا، يجمع عليها الملاليون.

لا أحد يشكك في كونه كان لاعبا عظيمًا، وأن تاريخ الرجاء الملالي ارتبط في جزء منه بالرجل، الذي سجل أثمن هدف في تاريخ الفريق، هدف الحصول على البطولة الوطنية سنة 74-1973 على حساب فريق الرجاء البيضاوي…

يذكر الولد بأن أول مبلغ نقدي حصل عليه كلاعب، هو عشرة دراهم.

كان آنذاك تلميذا بثانوية ابن سينا، وتصرف في ذلك اليوم كأنه أغنى رجل في بني ملال. في ذات الثانوية سيلاحظ أستاذ فرنسي المواهب الاستثنائية للفتى، وهو يتابع يوم الأحد مقابلات الرجاء الملالي. في صيف 1968 سيأخذ الأستاذ تلميذه ليخضع للتجريب في فريق لانس الفرنسي. نجح في الاختبار، وكان سيوقع أول عقد احترافي في حياته، لكن حزن أمه على فراقه أجبره على أن يختار الأم بدل مسار احترافي دولي.

كان الولد لاعبا فنانا ومبدعا، يجد الحلول دوما، ويعرف بتمريرة واحدة كيف يتجاوز أشد الدفاعات صلابة. له أعين كثيرة في رأسه، كان يلعب بالرجلين معا، وبنفس الجودة تقريبا، وهي حالة نادرة في ملاعبنا.

هذه القدرات التقنية الخارقة ستجعله يأخذ مكان إدريس باموس في أول مقابلة رسمية سيلعبها مع المنتخب سنة 1970 بتونس. حكى لي الولد بأن مولاي إدريس، لاعب المغرب الفاسي، سأله في معسكر إعدادي بإيموزار كندر، صادقا أو ساخرا، حين قال له الولد بأنه من بني ملال: أين توجد هذه المدينة؟.

لم يكن من السهل آنذاك أن تثبت نفسك في المنتخب مع لاعبين يأتون جماعات من فرق مرموقة، ويأتي هو وحده. قال له حمان، لاعب الرجاء البيضاوي، قبيل مقابلة ضد منتخب لبنان: لعب علي ونلعب عليك لنبرز معا. فكان الولد، كلما حصل على الكرة، يبحث عن حمان، وحمان يفعل العكس. أخرجه كليزو، مدرب المنتخب آنذاك، ووبخه قائلا: إنك تلعب مع المنتخب وليس مع حمان. وهاجمه بيتشو، ذات مقابلة، بشراسة وبكلام جارح، فقط… لأنه لم يمرر له الكرة.

لم يواصل الولد مع المنتخب، لا لأنه لم يكن يستحق ذلك، بل لأنه كان يسبح في ماء غير مائه، وكان يتكلم لغة غير لغة المكر والسباب والاستقواء بالغير.

على ذكر الاستقواء، كان الولد سيشارك في مونديال 70. دخل معسكر اختيار اللائحة، التي ستمثل المغرب، وقيل لهم في ختام المعسكر، بأن كل من اختير سيأخذ له الخياط مقاس إعداد بدلة رسمية له. كان الولد من بين من مر الخياط بغرفهم. عاد فرحا إلى بني ملال في انتظار نشر اللائحة، لكنه سيصدم حين لم يجد فيها اسمه، ووجد بدله لاعبا من فريق سيدي قاسم، لم يكن حاضرا في المعسكر.

لم يقبل الدليمي ذهاب المنتخب للمكسيك بدون لاعب من فريق مدينته، وكان الولد هو الضحية المثلى لأنه من مدينة صغيرة وبلا صوت، ويمكن أن تداس كلها في صمت. لم يحزن الولد كثيرا للأمر، ففي النهاية كانت المدينة تعطيه كل ما يحتاجه من حب وتقدير وامتنان. لم يلهم الولد الجماهير في الملعب فقط، كان نجما خارج الملعب أيضًا. جميل جمال نجم سينمائي، أنيق أناقة نجم موضة، وقور وقار حكيم في خلوة، خجول خجل من تربى في مدرسة الحياء. أحب فتاة كانت تسكن دور العمالة، وكنا نراه يرافقها حين تخرج من الثانوية ويوصلها حتى دارهم. تزوج تلك الفتاة وأخلص لها دوما إخلاصًا مشهودًا.

انضباط في الملعب وانضباط خارج الملعب. وإن ألهم لاعب ملالي أجيالا من الشباب ودلهم على حياة شريفة، فهو الولد، وبدون منازع.

لم يسمع منه أحد كلاما جارحا، لم يره أحد في مكان مشبوه، لم يزاحم أحدًا على منفعة، لم يقف بباب مسؤول يطلب امتيازا. لا يقرب الزحام، لا يذكر أحدًا بما قدمه لرجاء بني ملال. اختار لنفسه عزلة شاهقة كنسر يمتلك السماء وحده. كنت قد اقترحت على أهل المدينة بأن يسمى الملعب البلدي باسم محمد عياش (الولد)، تكريما لكل ما قدمه لفريق رجاء بني ملال كلاعب وكمدرب، وتنويها بصورة لاعب ملتزم يمكن تقديمه كنموذج لأطفال المدينة ليقتدوا بسلوكه داخل وخارج الملعب، ومن خلال اسم الولد، يكرم جيل كامل لعب معه وشرف المدينة.

أحلم بتحقيق هذا في يوم من الأيام.

تعليقات

  1. بشير معوني

    شكرا الاستاذ عبد الكريم على هذا العطاء الكبير و خاصة بالنسبة لبني ملال و جهتها ،التي تعتز بكتاباتك المتميزة. وما هذه الشهادة في حق سي محمد عياش الذي كان صديقا كبيرا لي في السبعينات الا دليل على انسانيتك الكبيرة و اهتمامك و حبك بالراس المال الغير المادي للمغرب عامة و بني ملال ونواحيها خاصة. مع تقديري و مودتي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *