من غزة، هيا فريج تكتب لمرايانا: كلّ الدروب توصلنا إلى الموت، لا خلاصَ ولا قيامة
في غزة، ما زالت غريزةُ الحياة فينا، لا نيأس من البحثِ عن مكانٍ آمنٍ، ونسلّي أنفسنا باختراعِ وسيلةٍ للنجاة، كأن نبتعد عن الحيطان والنوافذ، ونحتفظَ بحقيبة الإسعاف الأوليّ، وشنطة الطوارئ
منذُ فجرِ التاريخ، وَثّقَ الإنسانُ وقائعَ حياتِه اليوميّة البسيطةِ والعظيمةِ بالكتابة، بدءًا برسوماته على جدران الكهوف، وانتقالًا إلى ألواحِ الطين التي سجلت أعمالَه التجاريّة القائمة على المقايضةِ، مرورًا بمراسلاته مع حكام الدول المجاورة على ورق البردي، انتقالًا إلى الورق الهنديّ الذي طوّره العرب، وطالَ استعمالُه قرونًا، وانتهاءً بالهواتفِ المحمولةِ التي نكتبُ عليها رسائلَنا وملاحظاتِنا وتدويناتِنا ومقالاتِنا.
لم تكنْ الكتابةُ في الحروبِ سهلةً، وفي هذه الحرب -بالذات- كانت نوعًا من البذخِ وقت التّقَشُّف، فنهارُ الحرب عذابٌ وبلاءٌ، وليلُهُ رُهابٌ وأرقٌ وشقاءٌ، وانتظارٌ لمصير خفيٍّ، لا يصبِّرُنا عليه سوى الرضا بالقضاء.
لا يستطيعُ مجرمٌ – مهما ملأت طائراتُه الأجواءَ، واخترقت صواريخُه البلاد- أن يمنعَ الشمسَ من الطلوع، أشعتُها تلامسُ وجوهَ أهل هذه المدينة الذين لا يعرفون النوم، لا صياحَ ديكةٍ في الحيّ فقد قُتلت، ولا أذانَ فجرٍ فقد قُصِفت المساجد، “وللمآذن كالأشجار أرواحُ”؛ لذلك اقتلعوا الأحجارَ والأشجارَ والبشر.
يخرجُ الناس بحذرٍ وتخوّفٍ، يتفقدُ الأحياءُ منهم بقيتَهم الذين كُتبت لهم الحياة، أو حلّت عليهم قارعةُ الإبادة، ثم يبدأُ الصخب، وضجيجُ الحياة الذي لا توقفه أقوى قوةٍ في الأرض.
قد قيل إنّ حضارةَ الإنسان ابتدأت حين اكتشفَ النار، ثم تطورتْ حياتُه إلى أن وصلَ إلى التقدّم الذي تعرفُه البشريةُ اليوم.
في غزةَ، فجأةً دون سابقِ إنذار، تساقطت الحجارةُ فوق رأس الغَزِيّ، وعاد مكرهًا إلى بدائيّة الإنسان الأول، وانتقل عبر آلةِ القتل – لا آلةَ الزمان- إلى العصرِ الحجريّ.
يشعلُ النار، ويخرجُ للبحثِ عن الغذاء، ثم يعدُّ طعامَه ممّا وجده من الحشائشِ التي اقتسمَها مع البهائم، لم يهتدِ بعدُ إلى الزراعة، فلا أرضَ تنجو من المجزرة.
أوقدُ النارَ في كثيرٍ من كتبي، وبقيةٍ من مذكراتي، لا قيمةَ للورقِ وقتَ الحرب، فنحنُ في أدنى سلمِ الاحتياجاتِ، نطلبُ ما نقتاتُ به؛ لنستكملَ دورةَ الحياةِ التي أُُجبرنا عليها، ولا نجدُ فيها الأمانَ، ولا نعرفُ معها الاطمئنانَ، تستعرُ النّار في صدري، جمرٌ من الغضب، ودخانٌ أسودُ كثيفٌ أخفيه بضحكةِ كوميديةٍ ساخرة، فقد اعتدتُ أن أصفَ ناري بأنها “نار المثقفين”.
أتذكرُ “آن فرانك”، الطفلةُ اليهوديّةُ، التي كتبتْ مذكراتها وقتَ المحرقةِ/ الهولوكوست، التي لا أنكرُها، وأتعاطفُ مع ضحاياها، لكن أتحفظُ على مبالغاتِ توظيفها التي يضج بها التاريخُ.
وصلَ شررُ النارِ التي أشعلَها النازيّون الألمان في اليهودِ إلينا، مئاتُ الآلاف من القذائفِ والقنابلِ يحرقُنا بها الصهاينة في نكبةِ غزةَ اليومَ، كراتُ اللّهبِ -نفسُها- تشعَلُ بها أجسادُنا وبيوتُنا؛ علّهم يحرقون بذلك قلوبَنا وأرواحَنا، لا أيسرَ على الضحيةِ أن تتحولَ إلى جلّاد، وما أسهلَ على المُعنَّف أن يصبحَ معنِّفًا!
في رحلةِ العذابِ اليوميّ أيضًا، نعيشُ حياة البداوة نفسها دون حسنٍ ولا تطريةٍ، وحدها الرغبةُ الملحّةٍ في التنقلِ من أجل الماء والكلأ.
ففي غزةَ، عليكَ أن تبحث عن الماء، أيُّ ماءٍ يُشرب، فلا مجالَ للتحليّةِ والتنقيّةِ، فقد شربَ الغزاوي ماءَ البحر، وماءَ المطر، والماءَ المختلطَ بالصرفِ الصحيّ وبسمومِ القنابل، المهم ألّا يموت عطشًا في عالمٍ يُهدِر ملياراتِ الجالونات من المياه دون أن يرتعشَ لعطشِ طفلٍ في غزة.
وفي غزة، ما زالت غريزةُ الحياة فينا، لا نيأس من البحثِ عن مكانٍ آمنٍ، ونسلّي أنفسنا باختراعِ وسيلةٍ للنجاة، كأن نبتعد عن الحيطان والنوافذ، ونحتفظَ بحقيبة الإسعاف الأوليّ، وشنطة الطوارئ.
أعجبُ من تبدّلِ الأحوال، وتغيّرِ الأزمانِ، كم مرةً قرأنا عن ممالكِ البلدِ الحَصينة، وأنبيائِها الفدائيّين الذين واجهوا الفريسيّين، وفرسانِها الكنعانيّين العابرين للبحر، ومحارِبيها الْجبارين الأشدّاء، وملكاتِها الفاتناتِ بأثوابهنّ المطرزةِ بالحرير، وأميراتِها المتفنّناتِ بالصبغ، والمعجباتِ بالأرجوان، وفلّاحيها الذين حفروا الصخرَ، وعمّروا الأرضَ، وبنوا الأسوار، وبتجّارِها الحاملين صنوفَ المحاصيلِ وجرار النبيذ المعتّق للعالم.
دارت الأيام، وانهدّت الأسوار، وقُتِلَ الأنبياء، وتعبَ الجبارون، واختلطَ عرق الفلاحين بالدم، وخسر الرجال عزّهم، وضاعتْ ثروةُ النساء، وصبغنَ لونًا واحدًا قاتمًا يلبسنه حدادًا، فكلّ الدروب في هذه المدينة مسدودةٌ توصلنا إلى الموت، ولا خلاصَ، ولا قيامة.
—
*الدكتورة هيا فريج باحثة فلسطينية من غزة