دولة الشيعة الأولى: سياسة المختار الثقفي وطلبه بدماء آل البيت 2 - Marayana - مرايانا
×
×

دولة الشيعة الأولى: سياسة المختار الثقفي وطلبه بدماء آل البيت 2\2

أعطى المختار الثقفي للموالي من العجم مكانة مساوية للعرب. وهو أمر عد ثوريا آنذاك…

حرص المختار منذ تقلده الإمارة على استقبال الناس بالخير، فمناهم العدل وحسن السيرة، حتى أنه جلس للقضاء بنفسه في الأيام الأولى للحكم، متشبها في ذلك بالأئمة الراشدين. كما أدنى الأشراف فكانوا جلساءه، وعين على شرطته عبد الله بن كامل الشاكري الهمداني، وعلى حرسه أبا عمرة كيسان مولى عرينة، وبعث عماله على أعمال الكوفة كأذربيجان وأرمينية والموصل وحلوان؛ وولى على القضاء شريحا فلما رأى الشيعة تذمره، ولى غيره. كما فرق ما وجد في بيت المال على جنوده وفضل الأوائل على الأواخر.

أعطى المختار للموالي من العجم مكانة مساوية للعرب. وهو أمر عد ثوريا آنذاك، ومغامرة من المختار؛ إذ بقدر ما قوت دولته، حتى  اقتبس منه دعاة الشيعة ذلك فيما بعد، بقدر ما صنع متاعب جمة للمختار ودولته، حيث أثار غضب أشراف العرب ووجوههم، الذين أنفوا من مزاحمة العجم لهم في العطاء وركوب الخيل وحمل السلاح؛ فثاروا ضده مستغلين حالة الاضطراب والإرجاف التي وقعت بالكوفة وفراغ الجند منها، وذلك أن  المختار لما علم بسيطرة ابن زياد على الموصل، أرسل يزيد بن أنس الأسدي في ثلاثة آلاف أواخر سنة 66ه لاستردادها، فتمكن هذا الجيش من الانتصار على جيش ابن زياد مرتين، إلا أن موت قائده فرض عليه الانسحاب.

ظن أهل الكوفة حينها أنهم انهزموا وأن يزيد قتل، فأرسل المختار إبراهيم بن الأشتر في سبعة آلاف، وأمره أن يرد جيش يزيد وأن يسير إلى العدو؛ فاستغل الأشراف ذلك وثاروا ضده؛ فلم يسعه سوى أن يكايدهم ويماطلهم، وأرسل إلى إبراهيم أن يعود من فوره، فلما عاد حاربهم فانتصر عليهم، وتفرقوا بين قتيل وأسير وهرب بعضهم. أما الأسرى، فقتل منهم من شهد قتل الحسين.

نادى مناديه: من أغلق بابه فهو آمن، إلا رجلا شرك في دم آل محمد (ص)[1]،  فكانت تلك بداية تشميره لقتلة الحسين بكربلاء، حيث تتبعهم بالقتل واحدا تلو الآخر وهدم دورهم[2]، فقتل عمر بن سعد بن أبي وقاص الزهري القرشي أمير الجيش الذي قتل الحسين، وابنه حفص بن عمر، وشمر بن ذي الجوشن العامري، وحكيم بن طفيل الطائي، وخولي بن يزيد الأصبحي، ولم ينج منهم سوى عدد قليل فر إلى البصرة.

في هذه السنة الأولى لحكمه، أي 66ه، بدأت تظهر نواياه التوسعية، فلم يكن مثله ليقنع بالكوفة وحدها. فحاول ضم البصرة ودعا له بها المثنى بن مخربة العبدي، فلما حاربه عاملها القباع، انصرف إلى المختار. وأرسل ثلاثة آلاف من الجند لضم المدينة، معظمهم من الموالي، إلا أنهم انهزموا وقتل قائدهم أمام جيش ابن الزبير.

فيها أيضا، أرسل أربعة آلاف من الجند[3] يقودهم أبو عبد الله الجدلي لإنقاذ ابن الحنفية ومن معه، وكان ابن الزبير حبسهم في مكة وأكرههم على البيعة، فكتب ابن الحنفية إلى المختار يستغيثه[4] فدخلوا مكة بالعصي كراهة أن يجردوا السيوف في الحرم فسموا لذلك بالخشبية، فأخرجوا ابن الحنفية وأصحابه وخافهم ابن الزبير فلم يعرض لهم. وقفت لذلك بموسم الحج تلك السنة ثلاث فرق، ربما لأول مرة في تاريخ الإسلام: وقف نجدة بن عامر الخارجي بأصحابه، ووقف محمد بن الحنفية بأصحابه، وابن الزبير بجماعة الناس[5].

لثمان بقين من ذي الحجة سنة 66ه، أرسل المختار إبراهيم بن الأشتر لحرب ابن زياد، وكان في ثلاثين ألفا جلهم من الفرس الحمراء[6]، فجعل إبراهيم يعجل السير ليلقى عدوه قبل دخول العراق، فوغل في أرض الموصل والتقى بجيش الشام سنة 67ه بمعركة الخازر، التي كانت نصرا مؤزرا للشيعة ومقبرة للأمويين، حيث قتل فيها كبار قادتهم كعبيد الله بن زياد، والحصين بن نمير السكوني، وشرحبيل بن ذي الكلاع، ودخل إبراهيم الموصل وبعث عماله عليها.

العجيب في دولة المختار أنه، بدلا  من أن يرسخ هذا النصر العظيم دولة الشيعة، كان نذيرا بزوالها، وذلك أنه في طياته حمل بذور خرابها ماديا ومعنويا، فعلى المستوى المادي، اضطر المختار إلى قسمة قوته إلى نصفين نصف معه في مواجهة الزبيريين بالبصرة، ونصف مع إبراهيم في الجزيرة لمواجهة أهل الشام والأمويين. على المستوى المعنوي، كان مقتل ابن زياد إيذانا بسقوط الشرعية المبنية على الثأر، واستهلاك الطاقة المحفزة للشيعة على القتال بشراسة واستماتة من أجل هذا الحق.

في هذا الوقت، كان مصعب بن الزبير أخو عبد الله بن الزبير عاملا على البصرة، حين وفد عليه بعض أشراف الكوفة فارين بدمائهم من سيوف المختار والشيعة، مثل شبث بن ربعي التميمي ومحمد بن الأشعث الكندي، فصاروا يستحثونه ويطلبون منه النصر على المختار، ويبدو أن ذلك وافق هوى في نفسه أيضا، فالزبيريون لم ينسوا أنه أخذ منهم الكوفة وأخرج عاملهم ابن مطيع، بل حاول أن يأخذ منهم البصرة نفسها والحجاز.

تجهز مصعب لذلك وخرج بجيش كثيف معه كبار القادة كالمهلب بن أبي صفرة الأزدي، وعباد بن الحصين التميمي. فلما بلغ ذلك المختار، أرسل إليهم بجيش كثيف يقوده أحمر بن شميط وهو لاشك من كبار شيعة المختار، إلا أنه لم يكن في مستوى دهاء وتجربة مصعب وقادته، ولا هو الرجل المناسب لهذه الحرب، فالتقوا بالمذار، وهو بين البصرة وواسط سنة 67ه، فكانت الهزيمة هذه المرة من نصيب جيش المختار، وقتل في المعركة أفضل أصحابه وأعوانه المخلصين كأحمر بن شميط وعبد الله بن كامل، فلما وصل نبأ الهزيمة إليه، وطن نفسه على القتال إلى الموت[7]، وعندما فشلت محاولته لإعاقة تقدم جيش مصعب، خرج إلى حروراء لملاقاتهم بنفسه ومنعهم من دخول الكوفة، بعد أن حصن القصر والمسجد، وأدخل في القصر عدة الحصار.

شهدت حروراء قتالا شديدا بين الطرفين، إلا أن سقوط عدد كبير من رجال المختار قتلى، وانصراف جل من بقي عنه، أرغمه على الرجوع إلى القصر والتحصن به.

سار مصعب بجيشه إلى السبخة فقطع عنهم الماء والمادة، وفرق قادته على مداخل الكوفة لمحاصرتها. وظل المختار وأصحابه أثناء الحصار يقاتلون قتالا ضعيفا، والمختار يحثهم على القتال، وهم لا يزدادون إلا ضعفا وعجزا، فلما رأى ذلك منهم قال لهم كلمته المشهورة: “أما أنا فوالله لا أعطي بيدي ولا أحكمهم في نفسي”. ولما أزمع على الخروج، اغتسل وتحنط ووضع الطيب على رأسه ولحيته وخرج في عدد قليل فقاتل حتى قتل[8] وذلك في رمضان سنة 67ه.

في الغد، خرج أصحابه من القصر على الحكم فقتلهم مصعب. وكان المختار قد نهاهم قبل خروجه عن ذلك فعصوا رأيه[9]

المختار… داعية ثائر أم متنبئ كذاب

بمقتل المختار وأتباعه، انتهت قصة بناء الدولة الشيعية الأولى، التي اختلفت الآراء والروايات حول حقيقة مؤسسها. فقد كان المختار بن أبي عبيد الثقفي بحق من أكثر أعلام التاريخ الإسلامي المبكر إثارة للجدل؛ وهذا أمر طبيعي، فهو صاحب الدولة الشيعية الأولى، التي ظهرت في أوج الفتنة الثانية، ووسط انقسامات سياسية ومذهبية وطائفية قوية، داخل الدولة والمجتمع الإسلاميين، وهي بعد هذا كله اتفق الجميع على عدائها، والتوجس منها من أمويين وزبيريين وخوارج وعثمانية.

كان المختار عند الشيعة، أو لنقل عند معظمم، إماما معصوما وناسكا وبطلا وشهيدا، وعند خصوم الشيعة كذابا بل متنبئا، حتى أن كثيرا من السنة يرونه المقصود بالكذاب الذي يخرج من ثقيف في حديث للرسول (ص) وهو أمر لا دليل عليه، ولاسيما أن حديث ادعائه للنبوة ضعيف.

التأمل الموضوعي في سيرة الرجل، يكذب ما قيل عنه من خصومه، الذين فتشوا ما وسعهم ذلك عن نقيصة فيه، فوجدوه ناسكا شجاعا مقارعا للأبطال داهية في السياسة… فلم يبق إلا أن يتهموه في دينه بالكذب.

يروي اليعقوبي أنه كان عبيد الله بن علي بن أبي طالب مع مصعب بن الزبير فجعل مصعب يقول: يا أيها الناس، المختار كذاب وإنما يغركم بأنه يطلب بدم آل محمد. وهذا ولي الثأر يعني عبيد الله بن علي يزعم أنه مبطل فيما يقول [10] وأمر آخر وهو التغطية على المجزرة، التي لحقت بأتباعه بعد استسلامهم، وتبريرها، حيث تشير بعض المصادر صراحة إلى أن مصعبا أعطاهم الأمان فغدر بهم وكانوا سبعة آلاف[11] بل إن إحدى زوجتيه لم تسلم أيضا من القتل لشهادتها له بالصلاح، فكانت أول امرأة تقتل صبرا في الإسلام.

يروي الطبري: بعث مصعب إلى زوجتي المختار: أم ثابت بنت سمرة، وعمرة بنت النعمان، فقال لهما: ما تقولان في المختار؟ فقالت أم ثابت: ما عسينا أن نقول. ما نقول فيه إلا ما تقولون فيه أنتم، فقالوا لها اذهبي، وأما عمرة فقالت: رحمة الله عليه. إنه كان عبدا من عباد الله الصالحين. فسجنها مصعب، وكتب فيها الى ابن الزبير: إنها تزعم أنه نبي، فكتب إليه أن أخرجها فاقتلها. فأخرجها وقتلها[12]

هذا مبدأ الأمر ومنتهاه، وأصل الأكذوبة والإشاعة، التي أشيعت عن المختار على يد الزبيريين، للتغطية على قتل أتباع المختار وزوجته. مع العلم أن نعت الخصوم باطلا بالكذب للتنقيص منهم، كان رائجا عند العرب في تلك الحقبة، فقد نعت به الأمويون وأشياعهم من غلاة العثمانية النواصب، من هم خير وأفضل منه، وظلت رواياتهم مندسة في كتب السنة، التي جمعت الغث والسمين، دون تحقيق أو تمحيص، حتى انخدع المتأخرون من علمائهم بها، وظنوها، وهما منهم أو غفلة أو عمدا، شيئا ثابتا.

فلا عجب أن نجد، بصيغة اليقين، كل ما يعادي الشيعة ويرفع من الأمويين، مبثوثا ومنقولا في كتب ابن تيمية، والذهبي، وابن كثير، ومحب الدين الخطيب وغيرهم. وهي روايات وأخبار، لا يلتفت إليها ولا وزن لها، مالم تخضع نصوصها للنقد العلمي.

ولعل ما يؤيد براءة الرجل مما نسب إليه، أن ابن الحنفية نفسه لم يتبرأ منه، بل قبل معونته العسكرية والمالية. وإنما حذر في كتابه إلى أهل الكوفة من غلاة الشيعة (كهند الناعطية وليلى المزنية وأبي الأحراس المرادي والبطين الليثي وأبي الحارث الكندي) ونعتهم بالكذابين ولو كان المختار منهم لسماه.[13]

والذي صح عن الرجل أنه كان يميل إلى السجع في خطبه وأقواله، التي نحى فيها منحى الملاحم والحدثان، وأنه كان يبشر أتباعه بالنصر على الأعداء. وهي أمور كان يتلبس بها إما الكهان والدجالون، وإما أهل الكرامات من الأولياء. وأما أمر الكرسي، الذي كان يستنصر به، فقد قيل له فيه إنه كرسي كان جعدة بن هبيرة، وهو ابن أخت الإمام علي، يجلس عليه كأنه يرى أن فيه أثرة من علم. إلا أنه، لما رأى الناس فتنوا به بعد مقتل ابن زياد وأهل الشام في الخازر غُيب فلم يُر[14]، وفي هذا ما يشير إلى حرصه على سلامة عقيدة الناس، وسد باب الفتنة في الدين ما وسعه ذلك.

[1] – الطبري، مصدر سابق، ج3، ص: 459
[2] – الدينوري، مصدر سابق، ص: 268
[3] – اليعقوبي، مصدر سابق، ج2، ص: 261 والطبري، مصدر سابق، ج3، ص: 467، 468
[4] – اليعقوبي، مصدر سابق، ج2، ص: 261
[5] – ابن خياط، مصدر سابق، ص: 164
[6] – الدينوري، مصدر سابق، ص: 269، 270
[7] – الطبري، مصدر سابق، ج3، ص: 486
[8] – الدينوري، مصدر سابق، ص: 280، 281
[9] – الطبري، مصدر سابق، ج3، ص: 491، 492، 496
[10] – اليعقوبي، مصدر سابق، ج2، ص: 263
[11] – اليعقوبي، مصدر سابق، ج2، ص: 263
[12] – الطبري، مصدر سابق، ج3، ص: 494، والبلاذري، مصدر سابق، ج6، ص: 443
[13] – الطبري، مصدر سابق، ج3، ص: 489
[14] – الطبري، مصدر سابق، ج3، 476، 477

 

لقراءة الجزء الأول: دولة الشيعة الأولى (66ه-67ه): المختار الثقفي بين تقديس الشيعة وتدنيس السنة 1\2

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *