في محراب نزار قباني – قبسات من شعره ومسيرته الشعرية في ذكرى وفاته - Marayana - مرايانا
×
×

في محراب نزار قباني – قبسات من شعره ومسيرته الشعرية في ذكرى وفاته

بدأ نزار حكايته مع الشعر في مقتبل العمر، وكرس قلمه للدفاع عن المرأة ومناصرة قضاياها حتى تفوق عليها في التعبير عن نفسها، فلقب بشاعر المرأة

مضى ربع قرن على الولد الذي أبحر نحو عالم الخلود الأبدي، ولا زالت قصائده تنطق ثورةً وجمالاً وتمرداً، فالشاعر الذي ولد في الرّبيع ومات فيه، يحمل في شعره الكثير من صفات الربيع من جمالٍ وسحرٍ وتجدد.

عن هذا التشابه، يقول نزار قباني في مذكراته: “ولدت في 21 آذار\مارس في بيت من بيوت دمشق القديمة. كانت الأرض في حالة ولادة وكان الربيع يستعد لفتح حقائبه الخضراء. هل كان مصادفة يا ترى أن تكون ولادتي في الفصل الذي تثور فيه الأرض على نفسها وترمي فيه الأشجار كل أثوابها القديمة، أم كان مكتوباً عليّ أن أكون كشهر آذار، شهر التغيير والتحولات؟ كل الذي أعرفه أني ولدت يوم كانت الطبيعة تنفذ انقلابها على الشتاء وتطلب من الحقول والحشائش أن تؤيدها في انقلابها على روتين الارض”.

ولد نزار قباني في 21 مارس 1923 في بيت دمشقي شبهه بقارورة عطر، حيث يقول: “هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة… بوابة صغيرة من الخشب تنفتح ويبدأ الإسراء على الأخضر والأحمر والليلكي وتبدأ سمفونية الضوء والظل والرخام”.

في هذا البيت، تفتحت مكامن الجمال عند هذا الفتى، الذي كان يهوى الرسم والتلوين والموسيقى. بدأ نزار حكايته مع الشعر في مقتبل العمر، وكرس قلمه للدفاع عن المرأة ومناصرة قضاياها حتى تفوق عليها في التعبير عن نفسها، فلقب بشاعر المرأة. يقول نزار: “لا أعرف لماذا اخترت المرأة والغزل موضوعا أساسيا لفني”، ويقول أيضا: “إن الحب في العالم العربي سجين وأنا أريد تحريره”.

هكذا، انطلقت مسيرته الأدبية عام 1943، وكانت تجربته الشعرية ثرية بما يحمله شعره من ملكة البيان وسحر الألفاظ وعذوبتها، فضلا عن الصور البديعة التي تستحث كل ذائقة جمال في النفس وتأخذ الخيال الى عوالم تفيض سحرا وجمالا ورومانسية.

عام 1944، صدر ديوانه الأول: “قالت لي السمراء“، ليشكل زلزالاً شعريا حمل الجرأة والتغيير في مضمون القصيدة العربية وتتالت أعماله الشعرية بعدها ومنها: هل تسمعين صهيل أحزاني، مئة رسالة حب، أحبك والبقية تأتي، قصائد متوحشة، كل عام وأنت حبيبتي

شعره السياسي:

لم يكن نزار قباني في عمله المهني بعيداً عن عالم السياسة، وهو الحقوقي خريج كلية الحقوق من جامعة دمشق، شغل العديد من المناصب السياسية في القاهرة وأنقرة ومدريد وبكين وبيروت. في عام 1966، قرر أن يستقيل من العمل الدبلوماسي ليتفرغ للشعر، وجاءت نكسة يونيو\حزيران 1967، فأججت عواطفه الوطنية والقومية ودخل بوابة الشعر السياسي وكانت قصيدته: “هوامش على دفتر النكسة“، والتي أثارت جدلاً وتعرضت للمنع حيث دعا للخروج من زمن العنتريات والفخر المزيف وللتضامن وإعداد جيل قادر على صنع مستقبل مشرق :

يا وطني الحزين

حولتني بلحظة من شاعر يكتب الحبّ والحنين

لشاعر يكتب بالسكين

إذا خسرنا الحرب لا غرابة

لأنّنا ندخلها

بكلّ ما يملك الشرقي من مواهب الخطابة

بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة

لأننا ندخلها بمنطق الطبل والربابة.

هكذا، كان الشعر السياسي لديه غاضبا رافضا للهزيمة متمردا. تبدو عاطفة الشاعر الوطنية في شعره من خلال تعلقه بدمشق، التي ظلت حاضرة في قلبه وشعره. رغم تنقله في عواصم العالم المختلفة، لكن دمشق تبقى هي المبتدأ والخبر.

يقول نزار قباني في قصيدته الدمشقية:

هذي دمشق وهذي الكأس والرّاح

إنّي أحبّ وبعض الحبّ ذبّاح

أنا الدّمشقيّ لو شرّحتم جسدي

لسال منه عناقيدٌ وتفاحُ

ولو فتحتم شراييني بمديتكم

سمعتم في دمي أصوات من راحوا

هنا جذوري، هنا قلبي، هنا لغتي

فكيف أوضح؟ هل في العشق إيضاح؟

الرثاء في شعره :

نزار قباني، الذي اشتهر بشعر الحب والشعر السياسي، كان للحزن والرّثاء نصيبٌ في شعره، فقد رثى ابنه توفيق  من زوجته الأولى زهرة آقبيق، والذي رحل في السابعة عشر من عمره. رثاه بشعر وجداني وصور مؤثرة، حيث يقول في قصيدته “الأمير الخرافي توفيق قباني” :

مكسّرةٌ كجفون أبيك هي الكلمات

ومقصوصةٌ كجناح أبيك هي المفردات

فكيف يغنّي المغنّي

وقد ملأ الدّمعُ كلّ الجدران

وماذا سأكتب يا بنيّ وموتك ألغى جميع اللغات

نزار قباني وبلقيس الراوي
مع بلقيس الراوي

شاء القدر أن يخسر زوجته العراقية  بلقيس الراوي التي تزوجها عن قصة حب عنيفة عام 1981، في تفجير السفارة العراقية في لبنان، فرثاها بقصيدة وجدانية مؤثرة كانت أكبر من مجرد رثاء لبلقيس، بل رثى عبرها المدن والشعوب العربية. يقول نزار قباني:

شكراً لكم

شكراً لكم

فحبيبتي قتلت وصار بوسعكم

أن تشربوا كأساً على قبر الشهيدة

وقصيدتي اغتيلت

وهل من أمة في الأرض

إلاّ نحن نغتال القصيدة

بلقيس يا وجعي

ويا وجع القصيدة حين تلمسها الأنامل

يا نينوى الخضراء

يا غجريتي الشقراء

يا أمواج دجلة

تلبس في الرّبيع الخلاخل

قتلوك يا بلقيس… أيّة أمّة عربيّة

تلك التي تغتال أصوات البلابل.

إن كان نزار قباني قد كتب في جوانب شعرية متنوعة، لكنه اعتبر الشعر وحدة واحدة، وقد صرح في إحدى لقاءاته الصحفية: إنما يوجد الشعر نفسه، الشعر المنفعل بالعصر والأرض والإنسان. إنني أكتب عن المرأة والقضية بحبر واحد”.

 هواياته وبعض من صداقاته :

من مواهبه الرسم، الموسيقى، يحب التنظيم والأناقة حتى أن ابنته هدباء تقول عنه: كان أبي من المدرسة التي تؤمن بالأناقة، وكنت كلما جئت مع ولدي مايا وتوفيق لزيارته في منزله في لندن، يقول: أعطني عشر دقائق لأرتدي ثياب الاستقبال. كما تعتبر القهوة الشامية مشروبه المفضل. يقول:

 ‏طاحونة البن جزء من طفولتنا

 ‏فكيف أنسى وعطر الهال فواح؟

غنى الكثير من المطربين أغانيه، ومنهم عبد الحليم حافظ (رسالة من تحت الماء – قارئة الفنجان)، فيروز (لا تسألوني ما اسمه حبيبي)، ماجدة الرومي (بيروت يا ست الدني – كلمات)، كاظم الساهر (زيديني عشقا – مدرسة الحب)…

ربطته علاقة صداقة بالراحل محمود درويش، كما ربطته علاقة حب شفافة بالأديبة السورية كوليت خوري، ويقال إن روايتها (أيام معه) تروي فصولا كثيرة من هذه القصة شديدة الرومانسية.

وفاته:

في 30 نيسان\أبريل 1998، توفي نزار قباني في لندن التي قضى الخمسة عشر سنة الأخيرة من عمره فيها، ليحمل جثمانه منها إلى دمشق التي أوصى بدفنه فيها: أُدفن في دمشق، الرحم التي علمتني الشعر والإبداع وأهدتني أبجدية الياسمين).

هكذا، عاد إلى المدينة التي تفتحت فيها وردة الشعر عنده. هذه الوردة التي نمت وكبرت وتحولت إلى حدائق من الشعر، الذي ينثر عبقه في كل الاتجاهات جمالاً وتمرداً وعذوبة.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *