خديجة ابراهيم تكتب عن لذة النميمة – في الفنانين والنساء… وعلى مواقع التواصل
كلما سمعنا نميمة اطمأن قلبنا أننا لسنا مثلهم. فهذا يخون ونحن لا نفعل (أو على الأقل لا يعرف الآخرون أننا نفعل).
النميمة هي الحديث الذي يدور بين شخصين بالسلب عن شخص ثالث. هي هذا الفعل الذي يقول عنه التلمود أنه يقتل ثلاثة أشخاص : المتكلم والسامع والغائب (الذي تقطع فروته).
كما أن الطريق الثماني النبيل الذي يتبعه البوذيون للوصول إلى النيرفانا، يمر عبر سبل ثمانية أهمها الكلام الصحيح، وفيه تنهى تعاليم بوذا عن الكذب والنميمة.
أما الإسلام، فيفرق اصطلاحا بين النميمة والغيبة من حيث درجة الكذب والضرر وإضمار الشر؛ وكلتاهما منهي عنهما بشدة في الكتاب والسنة.
بعيدا عن الديانات التوحيدية، فأسس الأخلاق والذوق السليم لا تنسى أبدا النهي عن إتيان النميمة ووصفها بالفعل الوضيع. لكن النميمة تبقى، بالرغم من هذا كله، رائجة والجميع يستسلم، مهما جاهد، للذتها.
هذه اللذة هي محور اهتمامنا. ماذا يخبئ هذا الفعل من إيجابيات تجعله يجذبنا؟ هل يمكننا إعتبار هذه اللذة إغواء من الطبيعة لأن فيها مصلحة خفية لا ندركها ؟ هل لفعل النميمة إيجابيات تتجاوز ضررها من قسوة وأذى ؟
النميمة كمصدر للأمان والمعلومات
للنميمة إذن، مهما عافتها النفس ظاهريا، لذة كامنة. بربط مبدأي اللذة والمنفعة، يمكننا أن نقول إن النميمة قديما كانت وسيلة للحصول على المعلومة، وهذا كان يشكل مصدر أمان للإنسان الذي كانت تحيط به المخاطر.
عندما يتكلم شخصان بالسوء عن ثالث، تنشأ بينهما علاقة فيها ثقة وتواطؤ. ومن قال لك قلت له، وليس قال عنك. ومن فتح لك قلبه فتحت له قلبك.
هكذا، تتناسل المعلومات، وكلما عرفت عن الآخرين شيئا استطعت أن تبني عليه خططا وتحدد به طريقة تعامل وتتقي به شرا قد يهددك. النميمة كانت وسيلة أيضا للتكتل وبناء مجموعات. وفي المجموعات حماية وقوة.
النميمة كموجه لنموذج الحياة السوي في نظر المجتمع
عندما كنت صغيرة، كنت أحضر جلسات النميمة بين نساء العائلة، ومن خلالها تعلمت ما يجب علي تجنبه من تصرفات تجلب العار وتتسبب في الفضيحة.
كلما تحدثن عن فتاة وضربن أوجههن، عرفت أن ما فعلته سيء. وأحيانا كثيرة، لا يصل الأمر حد الفضيحة، لكن الفعل يصنف كتصرف سيء فأتجنبه. هذا دور النميمة في المجتمعات. تصنف ما هو مقبول وتدرج في خانة السوء والفضائح ما تعتبره أو تود أن تعتبره مذموما. كبرت طبعا وأصبحت لدي حرية التفكير والوعي، ولكنني لا أنسى كيف كانت تلك الأخبار التي تقال همسا تؤثر في طريقة تفكيري وتبث في الخوف من أن أغلط وأنبذ.
النميمة تختلف في أوجهها. كان منها ما أسمعه لأنني كنت أنحشر بفضول وسط نساءالعائلة؛ ومنها ما كنت أسمعه بعينين مغمضتين متظاهرة بالنوم. ما أسمعه بالنهار أدرك أنه مذموم. ولكن ما أسمعه بالليل أعرف أنه فضيحة مزدوجة : لا يجب أن يفعل ولا أن يقال جهرا وعلى مسمع من طفلة مهما كانت فضولية.
كنت أجد في النميمة لذة. كنت أعرف من خلالها أسرار الحياة وقصص الناس وطريق حياة أهلي وتفكيرهم. والحقيقة تقال، كانت النساء يتلذذن بها أكثر مني. لم يكن هناك تلفاز ولا وسائل لتزجية الوقت. كانت أيضا أداة تسلية. أنا أجزم بهذا.
النميمة في مجتمعات التواصل الاجتماعي
لكن المجتمعات تطورت، ووسائل التسلية تناسلت وطرق تحديد النموذج المجتمعي تكاثرت حتى تشابكت والكثير من مصادر الخطر والأذى اختفت. فهل تراجعت قوة النميمة وفقدت بعضا من لذتها؟
نستطيع أن نؤكد أن العكس تماما ما يحدث. وسائل التواصل الإجتماعي باتت تشكل أرضا خصبة للنميمة بكل أشكالها. نقل كلام وتحوير وإشاعات. بل أصبح بعض المشاهير يطلقون النميمة بأنفسهم عن أحوالهم وأفلامهم وحياتهم لتنتشر مثل النار في الهشيم فتحيي ذكرهم، وهذا أفضل لديهم من أن ينسوا تماما. صار المبدأ أنك متى تحدث عنك الناس كنتَ، ومتى لم يتحدثوا عنك تنسى كأنك لم تكن.
هناك نماذج كثيرة لفنانين أحيتهم النميمة. فهذا لا يجد ثمن علاجه وتلك باعت منزلها وهكذا. ومع كل خبر، مشاركات وتعليقات وفرص للعودة إلى العمل والأضواء.
أما النميمة الليلية لنساء العائلة، فمرادفها اليوم هو التريند. أقصد نميمة قوية وببهارات كثيرة؛ تعلو وتعلو حتى تكاد تطير. النميمة ما تزال تحتفظ بكل جاذبيتها. لذلك، نرى أكثر الصفحات والمواقع مشاهدة تلك التي تزدهر فيها أخبار المشاهير وفضائحهم.
النميمة صارت منتشرة في المواقع عن فلان وعلانة. فهذا يتعاطى وتلك تخون وهاته تعاركت وسط التصوير.
بعد نميمة المواقع، تأتي نميمة الصفحات؛ والهدف للإثنين هو جمع الاعجابات والمشاركات. النميمة إذن صارت مصدر رزق للكثيرين. لكن، يبقى السؤال عما يستفيده المعلقون كل مرة ومنهم من يعلق ويحكم بتفاهة الموضوع وعدم جدوى التعليق.
المنفعة هنا ليست اتقاء الخطر بل إصدار الحكم؛ فنحن كلما سمعنا نميمة اطمأن قلبنا أننا لسنا مثلهم. فهذا يخون ونحن لا نفعل (أو على الأقل لا يعرف الآخرون أننا نفعل) وقس على ذلك جميع الفضائح والإشاعات.
الكل يتهافت ليقول رأيه، يصلب، ينهش، وأحيانا يتعاطف. المهم أنه يحيا عبر حيوات آخرين، يرمي حجرة وينفخ عضلاته. ومن التمرين، منتشيا بقوته يعود.
على هذه المواقع تجاوزت النميمة دور نقل الأخبار إلى دور الإنتقاد على الشكل والملبس وطريقة الحياة. أصبحت الصور دليلا ودافعا. هذه جملت أنفها وتلك نفخت صدرها وهذا حسن ابتسامته. ملابس هذه أنيقة وملابس تلك فضيحة.
يمكننا الجزم أن النميمة اليوم مثل خبز الفقير، مأكول ومذموم. بل نضيف أنها تعيش عصرها الذهبي شكلا ومضمونا. لم تفقد سحرها أبدا في عهد إنسان الموبايل والنت والتطور الهائل في كل المجالات. ما تزال تجذب وتمتع.
وتضر كثيرا بالطبع، تجرح وتحطم وقد تقتل… لكن هذا حديث آخر، لأوان آخر!
مواضيع قد تهمك:
- نور الدين الزاهي يكتب لمرايانا: سوسيولوجيا السر
- “تاريخ الكذب “… هل الكذب متهم في تشكيل السرديات البشرية؟ 2/1
- “تاريخ الكذب”… في السياسة وصناعة التاريخ المزيف