عبد الكريم جويطي يكتب: مجنون الكرة… عبد الإله نسيلة: حكيم رجاء بني ملال
عبدالإله نسيلة حكاية جميلة ودالة في تاريخ رجاء بني ملال…
رغم أنه لم يلعب كثيرا للفريق، مثل لاعبين آخرين، لكنه دخل هذا التاريخ من بابه الواسع، وسيذكر دوما من بين أعظم من لبسوا قميص الفريق…
في زمن يندر فيه أن تجد مدافعا لا يلعب بخشونة وعنف، ولا يحاول أن يرهب المهاجمين بنظرات متوعدة واستعداد بين لارتكاب جريمة في حقهم… في زمن كان فيه المدافع كالجدار، وآلة الحصاد، لا يفكر، يضرب ويشتت الكرة، ويغافل الحكم ليلكم الخصم، كان هو استثناء: يلعب بأناقة، بل بترفع، يفتك الكرة بذكاء، وتبدأ الهجمات من رجله، يقرأ اللعب جيدا، ويضبط مسارات الكرة، وحين يدخل لافتكاك الكرة، يفعل ذلك بخفة وحسم جراح…
عبد الإله نسيلة فلتة من فلتات كرة تلعب في المغرب العميق بشدة وفدائية، كرة تحكمها القوة البدنية والاندفاع، شعار المدافعين فيها: ينبغي أن يمر اللاعب أو الكرة ولا يمران معا أبدا…
كان طويلا كنخلة، له ساقا نعامة، نحيفا كعود خيزران، تملأ وجهه لحية تهبه الكثير من وقار الحكماء وتواضع الدراويش، يشبه كثيرا سقراطيس، اللاعب البرازيلي الشهير، في الحضور والتأثير داخل الملعب، كما يشبهه في أنهما معا امتهنا مهنة الطب، وتمكنا من أن يزاوجا بين الشغف والواجب، وأن ينجحا في الملعب وفي الحياة.
لم يكن نسيلة يتدرب مع فريق الرجاء الملالي في أبهى فترات اللاعب والفريق. كان طالبا في كلية الطب، يأتي قبل المقابلة بيوم واحد ويعود لدراسته بعدها. ولم يكن في حاجة للتدرب، فهو يعرف اللاعبين واحدا واحدا وهم يعرفونه، ولعب معهم ما لا يحصى من مقابلات ودية ورسمية.
الفرق آنذاك لم تكن كمحطات الحافلات، كما هو الحال اليوم، تعج بالزحام ولا تعرف الداخل إليها ولا الخارج منها، بل كانت بمثابة أسر ورفقة حي يبنيها تراكم سنوات من التفاهم والتضامن والاختبارات…
لم يلعب نسيلة مع الفريق الوطني، نودي عليه مرار ولم يكن يلتحق بالمعسكر. عرف مبكرا بأن الكرة لا تؤمن الخبز الكريم آنذاك، وهي باب مفتوح على الفاقة والتشرد حين ينتهي عمر اللعب القصير جدا. لذلك، عض بالنواجد على دراسته وتوفق فيها. لم يكتف بدبلوم الطب العام، بل أنه تخصص في أمراض الجلد والأمراض التناسلية وله الآن عيادة مرموقة في مدينة أكادير.
حكى لي أحد اللاعبين الذين جايلوا نسيلة عن حيرته وقلقه وعجزه عن التوفيق بين أيام امتحانات كان عليه أن يستعد لها ويجتازها في أسبوع قادم وحاجة الفريق لخدماته. عرض مشكله على زميله الذي يلعب إلى جانبه في الدفاع: محمد الشرقاوي، فرد عليه: لا عليك، سأجد لك حلا بسهولة. انتظر الشرقاوي الأنفاس الأخيرة من المقابلة، فتعمد ارتكاب مخالفة، والحكم مشغول بضبط حائط الصد، سبه الشرقاوي بكلمة نابية والتفت نحو نسيلة: اشنو دار لك الحكم حشومة تسبو. فما كان من الحكم إلا أن أخرج ورقة حمراء لنسيلة وطرده من الملعب. شيعه الشرقاوي بابتسامة ماكرة: ها أنت خويا عبدالإله، وجد على خاطرك الامتحان…
كان نسيلة من اللاعبين المفضلين لدي ولدى جمهور بني ملال عموما؛ ولعله، وبدون مبالغة، من أفضل ما أنجبت الملاعب المغربية، فيه هيبة بيكنباور، وذكاء باريزي، وثبات كرول في اللحظات الصعبة. أذكر بعد كل هذه السنوات عن آخر مرة رأيته يلعب فيها، ثلاثة مشاهد لا تفارق ذاكرتي الكروية إلى اليوم:
المشهد الأول: كانت رجاء بني ملال تواجه الوداد البيضاوي ومتفوقة بهدف أو هدفين. قام أحد مدافعي الوداد بتمريرة طويلة نحو معترك الرجاء، ووراء ظهور المدافعين. فطن نسيلة للأمر وسار في اتجاه الكرة العالية التي كانت ستنزل بين الحارس والمهاجمين وتوجه نحوها برأسه. استبق لاعبو الوداد الذين أحاطوا به، ولا مفر له من أن يكمل الكرة للحارس أو يردها للخلف… وفي كلتا الحالتين، كان هناك لاعب متربص. أمام دهشه الجميع، بما فيهم خصومه، وكأن مغناطيسا في رأسه، دعى الكرة وتركها تنزل في عش شعره الكثيف وتبثها للحظات ثم أنزلها برفق ومررها. حركة تقنية باهرة لا يقوم بها إلا من يجري الذكاء الكروي في دمه…
المشهد الثاني: في آواخر السبعينات، كانت الرجاء الملالي تنازل نجم الشباب البيضاوي في آخر دورة، وكان لزاما عليها أن تتعادل على الأقل لتحافظ على مكانتها في القسم الأول. استبسل لاعبو الشباب في اللعب لصالح الإتحاد البيضاوي الذي كان بقاؤه في القسم الأول رهينا بانتصار نجم الشباب على الرجاء، بل إنهم سجلوا هدف السبق.
قبيل وقوع الكارثة بلحظات، تسبب اللاعب جمال الموساوي في الحصول على ضربة جزاء. لا أحد من اللاعبين جرؤ على التقدم لتنفيذ ركلة الجزاء. من يستطيع أن يتحمل ضياع مجهود سنة كاملة؟ من له أعصاب حديد ليخاطر بمكانته لدى الجماهير الملالية؟ كان كل لاعب يقول في نفسه: سيغفر الله كل الذنوب إلا ذنب من كسر قلوب جماهير على وشك الإغماء. والقلوب قد بلغت الحناجر، تقدم نسيلة بثبات نحو الكرة كأنه سيسدد ضربة جزاء في ملعب صغير بشاطئ صيفي وأودعها في الزاوية البعيدة للمرمى رغم ارتماءة الحارس.
المشهد الثالث: كان نسيلة مثالا للانضباط والهدوء، لا يجادل حكما ولا يشارك في شنآن مع لاعبي الفريق الخصم. لكن الجمهور سيراه مرة يطارد لاعبا ويركله بقسوة، ودون أن ينتظر إخراج الورقة الحمراء توجه نحو مستودع الملابس. لا شك أن ذلك اللاعب استفزه بكلمة أو حركة غير لائقة. الأمر أشبه بما فعله زيدان الهادئ جدا مع ماتيرازي، وفان باستن ذات مقابلة خلع فيها قميصه وطارد لاعبا. لمرة على الأقل يمكنك أن ترى واديا وديعا ينهمر فيه سيل عات…
ربما بتأثير من لحية نسيلة، صار لمعظم لاعبي الفريق لحي كثة، حتى أن الرجاء الملالي كانت تبدو مثل مجموعة هيبي تمارس كرة القدم. وكثيرا ما كان اللاعبون في ملاعب الخصوم، وبعد نجاح الثورة الإيرانية، يعيرون بأنهم أبناء الخيميني. ويقال لهم حتى الفرق الإيرانية لا يوجد فيها تسعة لاعبين بلحي طويلة..
عبدالإله نسيلة حكاية جميلة ودالة في تاريخ رجاء بني ملال، فرغم أنه لم يلعب كثيرا للفريق، مثل لاعبين آخرين، لكنه دخل هذا التاريخ من بابه الواسع، وسيذكر دوما من بين أعظم من لبسوا قميص الفريق…
كانت RBM تلعب في ملعب ذو ارضية ثرابية، حمري، ذخل اللاعلون بللون الابيض، والاغلبة خرجو اقمصة ملطخة بالغيس، الا الفنات نسيلة، بقي قميصه ناصع البياض. لم افهم وانا طفل انذاك، كطف لمدافع ان يحافظ على هذه النضافة. انه لاعب انيق لا يسبه الاخرين. شكرا لانك ذكرتنا به. كا التوفيق