الرقص عند الأمازيغ: فرح، مقاومة… واحتفاء بالنساء والجمال والطبيعة
الرَّقص، من مظاهر العيش عند الأمازيغ هذا الطقس الذي يمتد امتداد الأمازيغ، يحمل دلالات عديدة. بين الاحتفاء بالجسد والمرأة والفرح والحزن أحياناً نجده حاضرا في الأعراس والطقوس الدينية وطقوس العبور وغيرها.
حظي الرقص عند الأمازيغ باهتمام بالغ. كان رمزا للفرح، الحب، الأعراس، مواسم الفلاحة والحصاد…
يرمز الرقص للسلم، وحتى الحرب أحيانا، حيث كانت تُمرر عبره رسائل خفية، كما ارتبط بمُقاومة محاولات الاختراق، ومقاومة المستعمر في الفترة الأخيرة. الرقص هو إذن ظاهرة يشتبك فيها العرفي بالثقافي بالأنثروبولوجي بالسوسيوتاريخي.
يقول الكاتب محمد شفيق في كتابه “ثلاثة وثلاثون قرنا من تاريخ الأمازيغيين”، ص 69: “من تقاليد الأمازيغيين العريقة، الرقص الجماعي المصحوب بالغناء، وهو الذي قال فيه أحد الخبراء الغربيين إنه من إيحاء تموجات السنابل أو الكثبان في الصحراء، أو أعراف الجبال في الآفاق”. حسب الكاتب، فإن أنواع الرقص الأمازيغي كثيرة، ذكر منها أحيدوس وأحواش.
امتداد في الزمن
الباحث في الثقافة الأمازيغية عبد الله بوشطارت، يؤكد في حديث لمرايانا، أن الرقص الامازيغي، بحر واسع وممتد، حابل بالرموز الثقافية، جامع للحضارة، معبر عن تاريخ عاشته المجتمعات الأمازيغية خلال ظروف وسياقات مختلفة، كما أنه رقص جماعي، وإن كان الأفراد، ذكورا وإناثا، يمارسونه بشكل فردي، ولكن يتم تقديمه بشكل جماعي.
الرقص بالنسبة لبوشطارت، تعبير عن كينونة المجتمعات الأمازيغية التي تمارس كل أنشطتها الاقتصادية، الزراعية والاجتماعية والسياسية، داخل بنية ما يسمى “الجماعت” أو تامونت، في إطار عملية “تيويزي” أو التعاون، التي تعضد وتقوي اللحمة الداخلية داخل كل جماعة أو قبيلة أو دوار.
حسب المتحدث، الثقافة تعبير عن الحياة، المعيش اليومي. لذلك، فالرقص الأمازيغي يجسد هذا المعيش عن طريق الاحتفال والفرح والرقص باستعمال الايقاعات وحركات الجسد، والكثير من طقوس العبور المرتبطة بالرقص، وهي أنساق ثقافية وفنية، تحيا بها المجتمعات الأمازيغية وتحقق بها نوعا من الوجود في التعبير عن هويتها وحمايتها، فالرقص الأمازيغي في جميع أصنافه، هو حامل أساسي للثقافة والهوية الأمازيغية، وأكثر من ذلك، هو الضامن الأول لاستمرارها واستدامتها ومقاومتها لكل أشكال الهيمنة الثقافية والاستيعاب الثقافي.
بوغانيم: صدى آيت بوكماز
أشرف حكم، أستاذ ومهتم بالثقافة المحلية بإقليم أزيلال، يقول لمرايانا إن الرقص الأمازيغي يحضر بقوة، والحديث هنا عن أحيدوس وأحواش، غير أنه إذا ما اتجهنا نحو آيت بوكماز (وهي منقطة بإقليم أزيلال) فإننا نجد فرقة بوغانيم، وهي فرقة أمازيغية لها طقوسها الخاصة تمتاز بزي مميز وتتغنى بتاريخ المنطقة وأمجادها وتقاليدها.
حسب أشرف، في السنوات الأخيرة، ظهرت لنا فرقة شبابية تسمى تَافُوكْتْ أو الشمس في ذات المنطقة، تحاول المزج بين الماضي والحاضر، حيث يسعى شباب وشابات الفرقة إلى الدفع بهذا اللون الأمازيغي بلمسات عصرية.
يقول المتحدث: “عندما نمر لمناطق أخرى، مثلا آيت عباس أو زاوية أحنصال، نجد بأن الرقصة الأمازيغية حاضرة بقوة، لكن بتشكيل آخر، وبرقصة تختلف عن رقصة آيت بوكماز مثلا، لكنها بنفس الرسائل ونفس المواقف التي تحيل على الثقافة والأعراف بالمنطقة والاحتفاء بالأمجاد.
أحيدوس: ألم وآلهة ومرأة مقدسة
علال الحاج، أستاذ التاريخ والباحث في التراث الأمازيغي بمنطقة خنيفرة، يقول لمرايانا إن فن الرقص بالأطلس المتوسط من الفنون الحركية والتعبيرات الأدائية، والحديث هنا عن رقصة أحيدوس باعتبارها تجسيدا لعمق الفن الأمازيغي وفن اللعب بشكل عام.
حسب المتحدث، فإن أحيدوس، لغويا، مكوَّنة من صوتين، منها أحي ثم دوس. “أَحِي” هو صوت الألم أو اللذة. أما بالنسبة لـ “دوس”، فتختلف فيه السرديات، غير أن الرقصة بشكل عام كانت تعبر في البداية عن فهم الكون والطبيعة، وانطلقت من البعد الروحي قبلَ الفرح، لأن الإنسان الأمازيغي كان يؤمن بتعدد الآلهة، وبالتالي فأحيدوس تعبير للتعبد بالآلهة.
يؤكد الباحث أن فنون الرقص كانت صيغا من التعبير قبل وجود الابداع اللغوي، حيث كانت تؤدي وظائف عدة، وهي تتويجٌ لأنشطة الإنسان اليومية؛ الرعوية والزراعية، أي أن أحيدوس ارتبطت بمواسم الحصاد وانتهائها، وهي إشعار ببداية مواسم جديدة.
يورد الباحث أن لأحيدوس وظيفة جمالية، حيث تكون على الشكل الدائري الذي يحيل على الكمال والاكتمال والتكامل والتضامن، فضلا عن وجود المرأة بجانب الرجل، ما يحيل على أن المرأة حاضرة في كل الجوانب لمواجهة الحياة، وحضور ثنائية امرأة/ رجل هو بمثابة تتويج كذلك.
حسب علال الحاج، فإن الرقص لم يكن دوما تعبيراً عن الأفراح، وإنما هو أيضا تعبير عن الأحزان، وهناكَ رقصات على وشك الانقراض تُعبر عن الألم والحزن، كالبكائيات والنوح عند وفاة أحد افراد الأسرة، خصوصا إذا كان ذا شأن عظيم أو كان شابا لم يتزوج، فإن النساء يضربن على وجوههن ويكون بمثابة جانب من الألم.
أحواش: شعر وتدريب حربي
بالعودة لبوشطارت، الباحث في الثقافة الأمازيغية، فإنه يعتبر الرقص الأمازيغي تعبيرا عن التعدد والتنوع في أشكال العيش والتعبير لدى الأمازيغ، وهو الوسيلة الفضلى للتعبير عن الهوية لديهم. أحواش أو أحيدوس يمارس بشكل طبيعي ودائم في الحياة اليومية، ويدخل ضمن صميم الأنشطة الأساسية التي يقوم بها الامازيغ.
حسب بوشطارت، يُمارس الرقص وسط الدوار أو القبيلة، وكان أحيانا يمارس بشكل يومي، خاصة في موسم الصيف، قبل أن يتقلص وينحصر في المواسم والأعراس والحفلات، فهو تعبير عن الهوية في اللباس والإيقاعات والشعر، فإذا أخذنا نموج أحواش، فهو مبارزة بالشعر، وهذا ما يعطيه القوة والحيوية ويضفي الحماسة في الجمهور، وتضم أحواش فطاحل الشعراء الأمازيغ الذين يتبارزون بالشعر والنظم أمام الجمهور، ويحصل سجال ونقاش وحوار حاد بين الشعراء.
توجد بالجنوب الشرقي، وفق الباحث، الكثير من الرقصات، فأحواش قد يبدو للبعض نوعا واحدا من الرقص الجماعي، لكنه يختلف ويتنوع حسب الجهات والقبائل، تختلف الإيقاعات وأشكال الرقص، يوجد مثلا اَهْناقار وأجماك وعواد إيحاحان تاسكيوين.
يقول بوشطارت: “رقصة تاسكيوين، هي رقصة حربية تنتشر في قمم الأطلس الكبير الأوسط بين تارودانت واِمي نتانوت، هذه الرقصة تضم حوالي 42 ايقاعا، كل إيقاع له نوع خاص من الرقص والحركات، وتعبر عن طرق الحرب، كالدفاع والهجوم والمباغتة، وعلى ممارسي هذه الرقصة أن يلموا بجميع الحركات الدفاعية، فهي عبارة عن تمرين عسكري في قالب فني، تسمى تيسكت/ أو تاسكيوين، لأن ممارسي الرقصة يضعون، قرن/ گرن الخروف على كتفهم، ويقال فيما مضى يتم ملئه بالبارود، أو ما يشبهه”.
بعض الباحثين يرجعون أصل ظهور هذه الرقصة، إلى فترة الصراع الكبير بين الموحدين والمرابطين، ثم بين الموحدين والمرينيين، حيث كان الأطلس الكبير، جبال درن، معقلا للمصامدة الموحدين، وقد ظهرت الرقصة لتجسيد الحروب الجماعية والاحتفال بها، وتأريخ الانتصارات وإدخال الحماسة بين الناس، لأن الرقصة تجسد جميع مراحل الحرب، عن طريق حركات الرقص. وتنتهي بملحمة الانتصار على العدو.