الحركة الغيوانية… على مقام الحرية تُغنّى هموم الإنسان - Marayana - مرايانا
×
×

الحركة الغيوانية… على مقام الحرية تُغنّى هموم الإنسان

ليس من قبيل الصدفة أن يلتف الناس حول هذه الحركة في إثر المشهد السياسي، الاجتماعي والاقتصادي، الذي كان يقبع فيه المغرب آنذاك.
نجحت الحركة الغيوانية في الوصول إلى جمهور واسع بفضل التجاوب الذي أحدثته مع جيل مُحتجّ بالفطرة…
كانت الأغنية الغيوانية مرآة تعكس القلق والحلم… كانت لسان حال جيل توّاق لـ… الحرية.

بعد أن قضم القرن الـ20م سبعينا عاما من عمره، برزت في المغرب حركةٌ غنائيّة، لازال البعض يصر تعسفا على توصيفها بــ”الظاهرة”، شكّلت ثورة فنّية في تاريخ البلاد…

الحركة “الغيوانية”، لم تكن في الواقع مجرد لحظة ثورة موسيقية على السائد من الأنغام في الإذاعة، إنّما محطة مؤسّسة لفنّ يحمل على كتفه همّ شعب بأكمله ويسعى به إلى الانعتاق…

المشهد المؤسّس

نحن الآن في نهايات ستينيات القرن الذي مضى…

خرج العالم قبل سنوات من حرب عالمية طاحنة، وأخذ الاستعمار في التراجع…

انفسح المجال أمام بروز دول رأسمالية مُصَنّعة، وبدأت تلوح بوادر تقدم تكنولوجي لم يسبق أن وصل إليه الإنسان…

ومع ذلك، تطغى العديد من الأزمات على العالم.

في المنطقة الناطقة باللغة العربية، مثلا، يبدو أن هزيمة 1967م تُمثّل نكسة بكلّ ما للكلمة من معانٍ.

الشعوب مُحبَطة. والشباب فاقدٌ للثقة؛ رافضٌ متمرّد يتوق إلى الحرّية.

اقرأ أيضا: من العيطة إلى أغاني الألتراس.. حناجر غاضبة صنعت تاريخ الموسيقى الاحتجاجية في المغرب المعاصر (1/2)

كأنّ العالمَ في مرحلةٍ انتقالية… ثمّة قلقٌ وجودي حيال كلّ هذا الاستلاب وهذه النزعة إلى التشيء والفردانية.

أخذت تظهر في الغرب حركاتُ تمرّد اجتماعي وسلوكي تُدعى “الهيبيز”…  صوت هذه الحركات يتصادى إلى ما يسمى بـ”العالم الثالث”…

المغرب ليس في منأى والاحتقان الاجتماعي يكاد يبلغ أشده.

الأزمة الاقتصادية تتوغّل، والقهر السياسي يجثم على النفوس… لا يبدو أن المُعارضة اليسارية تستطيع أن تُضاهيّ المخزن في موازين القوى.

الفنّ… رفاه ومرآة

يُشغّل المغربي الراديو ويستمع إلى الأغاني، يتناسى قليلًا همّه…

الخيارات محدودة. تخاطب وطنيته وعاطفته لا أكثر. لم تسلم الأغنية المغربية من تأثير النغم المشرقي الذي ينبع من مصر.

لـــمشــاهــب

بعض الغناء يعتمد أيضا على الإرث الشعبي، ويستعمل لغة بسيطة، وبعض آخر يعتمد على لغة وُسطى دون إغراق في الشعبية.

رغم النجاحات التي يُحقّقها الحسين السلاوي، بوشعيب البيضاوي، المعطي بلقاسم، إبراهيم العلمي، وآخرون… يشعر المرء بفجوة ما.

هذه الأغنية لا تُعبر عن آلام وآمال الشعب، لا تشبهه في أحيان كثيرة، خاصةً فئاته التي تقبع هناك في الأسفل…

حتى الأغنية اليسارية لا يظهر أنّها تصل إليه؛ لا الراديو يبثّها ولا استطاعت بناء تجربة جمالية نفّاذة إلى الأذن المغربية بشتى تلاوينها.

فجأة، أخذت من رحم أكبر الأحياء الشعبية في الدار البيضاء تتردّد نغماتٌ غير مسبوقة، لكن… مألوفة للأذن.

الحي المحمّدي… مغربٌ لوحده

كان الحي المحمدي محجّ كل هارب من قساوة الجغرافيا في المغرب الذي يدعونه بـ”العميق”…

تَشكّل بالعائلات التي قدمت من مختلف ربوع المملكة… وكلّ كان يمارس حياته هناك تبعا للطقوس التي نشأ عليها في بلدته…

اقرأ أيضا: عبد السلام عامر… كفيفا أطل ليستحم الخلود في لحنه ثم رحل! 2/1

احتوى الحيّ فسيفساء جدّ متنوعة من التراث والفن… في الحي المحمدي وحده، كان يُمكن أن تعيش المغربَ كلّه.

تشرّب النشء والشباب هناك هذا التنوع… وأكثر ما انعكس فيه كانَ الفنّ.

أسّس بعض هؤلاء حينذاك فرقا مسرحية، أو انضموا إليها… وكان بعضها، مثل “الهلال الذهبي” و”رواد الخشبة”، يُقدّم عروضاً تمثيلية تحتوي على فواصل غنائية من التراث.

وصل ذات يومٍ صدى هذا النوع من المسرح، الذي يُدعى “البساط”، إلى الطيب الصديقي، وكان وقتها مديرا للمسرح البلدي في الدار البيضاء.

اتّصل ببعض من برعوا فيه، ثمّ جمعهم في فرقة أدّت معه مجموعة من المسرحيات مثل “الحرّاز” و”عبد الرحمن المجدوب”…

قام هؤلاء بعدّة جولات مع الصديقي في بعض الدول، ثمّ بعد عودتهم إلى المغرب، أعلنوا تأسيس وميلاد مجموعة “ناس الغيوان”.

كان ذلك عام 1970م.

من مجموعة… إلى حركة

لم يكن لناس الغيوان، باعتراف المجموعة نفسها، يدٌ في النوع الموسيقي الذي قدّموه…

كان انعكاسا غير واعٍ لتنوّع المشارب التراثية التي بصمت الحي المحمدي… ولذلك كانت الموسيقى التي قدّموها مألوفة للآذان.

أوّل من أسّس المجموعة قدموا من مناطق مختلفة في البلاد…

نــاس الغيـــوان

بوجميع كان من نواحي طاطا، علال قدم من اولاد برحيل، العربي باطما من اولاد بوزيري/ منطقة الشاوية، السيد من نواحي آيت باها…

لا غرابة إذن حين تستمع إلى أغنية غيوانية أن يتناهى إلى أذنك بعض من العيطة، كناوة، عيساوة، الأنغام الحسانية… إلخ.

اقرأ أيضا: زهرة الفاسية… صاحبة “حبيبي ديالي فين هو” وأول فنانة قدمت أسطوانة غنائية في المغرب

الزّجل الذي غنّته ناس الغيوان، أيضا، كان انعكاسا لهموم الشباب وبسطاء الناس… ولم يكُن بذلك ليُرافَق بالبيانو، الكمان…

كان على المجموعة أن تعتمد آلات لم تكن تتمتع بأي حظوة في المشهد الموسيقي آنذاك.

البندير، الطبل، السنتير… هذه الآلات وحدها، كما حدست المجموعة، كان يُمكن أن تشكل مزيجا مستساغا للأذن في أغنية تُعبّر عن الهم الجماعي.

همّ تعدّى الوطن أحيانا إلى وعاء أكبر، حين خصّصت المجموعة مثلا بضع أغان للقضية الفلسطينية.

وسُرعان ما بدا أنّ هذا المزيج يحقّق نجاحا غير ذي نظير… فالمجموعة لم تحصل على جمهور، إنّما على مريدين.

… بل وأخذت تجارب أخرى مماثلة تظهر إلى حيز الوجود، مثل “جيل جيلالة”، “لمشاهب”، “السهام”، “لرصاد”…

الحركة الغيوانية

ليس من قبيل الصدفة أن يلتف الناس حول هذه الحركة في إثر المشهد السياسي، الاجتماعي والاقتصادي، الذي كان يقبع فيه المغرب آنذاك.

نجحت الحركة في نيل جمهور واسع بفضل التجاوب الذي أحدثته مع جيل مُحتجّ بالفطرة…

كانت الأغنية الغيوانية مرآة تعكس القلق والحلم… كانت لسان حال جيل توّاق لــ…الحرية.

جـيــل جــيــلالــة

ورغم أن البعض يُصرّ على أن مثقفي اليسار هم الذين منحوا للحركة هذا التأويل، إلا أنّ الأغنية الغيوانية كانت فعلا تتقاطع مع الهمّ الجماعي.

عمر السيد، نفسه، الذي عاصر كلّ أجيال مجموعة ناس الغيوان، لا يروقه وصف أغانيها بـ”السياسية”.

يقول في أحد حواراته: “أنا أرفض أن تصنّف أغانينا ضمن الأغنية السياسية، نَحنُ نغنّي أغنية إنسانية”.

كذلك دامت الأغنية الغيوانية لسنوات طويلة… قبل أن يوجّه الموت ضربات قاسية للمجموعة برحيل بوجميع وباطما وعبد الرحمن باكو… ظل مكانهم شاغرا رغم انضمام الآخرين.

اقرأ أيضا: محمد الحياني: مرايانا تستحضر تفاصيل مسيرة أيقونة الأغنية المغربية 2/1

كانت المجموعة أكثر من مجرد أشخاص اجتمعوا في حبّ الموسيقى… العربي مثلا، رفض الغناء بعد رحيل بوجميع، لولا أنّه أذعن لمن أحبوه وأصروا على مواصلته الغناء.

ذلك كان دأب كل المجموعات التي شكّلت الحركة الغيوانية…

ثمّ بتوالي السنين، أخذت الحركة تتوارى… توارت بسبب التغيرات التي شهدها العالم مثل بروز العولمة، ونوع آخر من الموسيقى يستهوي الشباب كالهيب هوب والراب…

تجاوز التّاريخُ الحركةَ بحسب البعض، ويرى بعض آخر أنّها استنفدت مواضيعها، وآخرون قالوا إنّ موتَ روادها كان الضربة القاصمة…

أيّا يكن… انتهت المجموعات؟

ربما… ربما غابت، لكن الأكيد أن أغانيها تظل حية…

تظل أغانيها، بعضا من مواويل محملة بشموس…. تشبه المغرب.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *