“العميقون” بين التنمر وإثبات التواجد في وسط يرفض الاختلافات
أنا أحب الاختلاف، حينما أخرج للشارع أجد الناس يتشابهون في كل شيء، ملبسا وحركةً وسكوناً… أنا أحب الاختلاف وأرغب في أن أظهر بمظهر وتفكير يختلف عن البقية، أكون من خلاله متفردة وسطَ محيطي. في لوني الموسيقي أختلف عن الآخرين
أحب أن أكون مُختلفة، ملابسُ مُغايرة وتسريحة شعر فريدة، إكسسوارات تميزني عن محيطي، أعيش بنمط خاص، “ندير بيرسينك (percing) أولا تاطواج (طاتو)”. أسير في الشارع كيفما أشاء دونما مبالاة…
هكذا تحدثت نِهاد لمرايانا عن نمط عيشها الذي تعتبره نموذجا مغايرا لما يسود. تسير نهاد في الجامعة، وغير بعيد عنها ينعتها آخرون بالــ “عميقة”، كيف ذلك؟ وما العمق في نظر هاته الفئة؟ وكيف تعيش نهاد وغيرها ممن يعتبرون أشخاصاً عميقين؟
صُور نمطية
بعيدا عن نِهاد، قريبا من محيطها. طلبة آخرون ينعتون نهاد ورفيقاتها بالعميقات. فضول دفع مرايانا للسؤال عن السبب وراء ذلك. يجيب طالب أن العميقين هم أولئك الذين يلبسون ثيابا مغايرة فضفاضة أو مزركشة، تجدهم في مقصف الكلية يتحدثون اللغة الإنجليزية فيما بينهم، يصافحون بعضهم بالعناق والأشواق وحيثما وليت تجدهم. في الغالب، العميقون إما يدرسون اللغة الإنجليزية أو الاقتصاد؛ لا أدري كيف؟ لكن بمجرد ما أجد أحدهم أو إحداهن، إلا وكان تخميني في محله.
يورد آخر أن “العميقين تجدهم في مجموعات، بعيدون عن الآخرين. يلبسون الأسود وبعض الملابس البالية أو القديمة. العميقون فئة هادئة صامتة لا تخالط الناس”، يورد المتحدث أن من حقهم أن يعيشوا كما يحلو لهم، ويختلف في الطرح مع من يعرضون “العميقين” للتنمر ويعتبر أن المجتمع يحتوي على اختلافات كثيرة والجامعة هي مجتمع مُصغر يجب أن تُحترم كل الاختلافات داخله.
هل العمق فكرة؟
التقينا نهاد، وهي طالبة تتابع دراستها في القانون بكلية الحقوق بظهر المهراز، تقول في حديثها لمرايانا، إنها تحب هذا الوصف. لكن، ليس بالحد الذي يعتقده الكثيرون. من الوهلة الأولى، تبدو نهاد مختلفة: فتاة قادمة إلينا من مدخل الكلية، بقميص فريدة كاهلو المزركش، تسريحة شعر قصيرة من نوع Coupe Garçon ، إكسسوارات في الأذن وسروال أسود.
حسب نهاد، توصيف العمق لا يرتبط دوما باللباس أو بدراسة في سلك معين، ردا على حديث الطالب. العمق، بالنسبة لها، هو عمق في التفكير وطريقة العيش والتواصل، نحن عميقون في وسطنا ومع أسرنا وفي الكتب التي نقرأها والموسيقى التي نهوى سماعها؛ أما اللباس وغيره من المظاهر، فهي لا تترجم عُمقاً.
في المقابل، تقول يُسرى، وهي طالبة بشعبة اللغة الفرنسية، لمرايانا: أعيش كما أريد وألبس ما أجده يتناسق معي وأرتاح فيه، ليس لكوني عميقة أو لأن الآخرين يصفوني بذلك. أنا أشعر أني عادية، “ستيلي عاجبني ومرتاحة فيه”، يعجبني اللباس المنفتح، ليس ارتباطا بالعمق أو بالمظهر الخارجي أو بحب بإظهار الجسد أو إخفائه.
ما العمق عند يسرى؟ هو عمق في الفكر والسلوك لا المظهر، فكر بعيد عن العموميات والسطحيات المعهودة. لا ممارسة تُترجم على اللباس. هو حاضر نعم، لكن بالنسبة لي، العمق هو منهج التفكير والعيش. كان هذا جوابَ يسرى على سؤال: “ما العمق”؛ وهي بهذا تتفق مع يسرى ونهاد على أن العمق هو أسلوب عيش لا مظهر خارجي.
حسب يسرى، ليس من الضروري أن تدرس الانجليزية كي تكون عميقا. إلا أن فئة كثيرة تدرس اللغة الإنجليزية، وقربهم منها ومن الثقافة الغربية الأمريكية، يجعلهم يتبنون هذه الثقافة وتجلياتها، وهو ما يترجم في سلوكهم اليومي وحركاتهم وسكناتهم، وبهذا يوصفون بالعميقين.
العمق: اختلاف عن السائد
تقول يسرى: “أنا أحب الاختلاف، حينما أخرج للشارع أجد الناس يتشابهون في كل شيء، ملبسا وحركةً وسكوناً… أنا أحب الاختلاف وأرغب في أن أظهر بمظهر وتفكير يختلف عن البقية، أكون من خلاله متفردة وسطَ محيطي. في لوني الموسيقي أختلف عن الآخرين كذلك، ويحدث أحيانا أن هناك تنمرا على الألوان الموسيقية التي أحب أن أسمعها. من طبعي أني لا أشارك الموسيقى التي أستمع لها واستمتع بها. لأني ببساطة لا أحب أن تصبح مُشاعة بين الناس، وحينها سيستمع لها الكثيرون، ولن تعود جذابة كما كانت”.
عمر هو الآخر التقيناه يدرس بمسلك علم الاجتماع بالرباط. يقول لمرايانا: “أنا من زُمرة العميقين، إلا أن جل ما يروج عنا، من قبيل إنكار الدين وإدمان المخدرات، وغيرها من الأحكام الجاهزة، هو بعيد عنا. هكذا تحدث عمر في محاولة استباقية لصد أي سؤال أو رأي مسبق يضعه محط مساءلة كما يحدث معه كثيرا وفق تعبيره. “واش انت ملحد”؟
عمر الذي صرَّح بأنه يعيش زمنَ التسعينيات يقول: “أحب “الراسطة” وسراويل أبي وأحب الملابس القديمة. ليس ضروريا أن تكون ميسور الحال كي تكون عميقا، يكفي أن تعرف كيف تناسق الملابس وكيف تنتقي ملابسك وتسريحة شعرك وتعرف ثقافات عديدة. أنا أعشق البلوز والجاز وأحب الروايات بالإنجليزية وأفلام هاري بوتر وغيرها.
عودة ليسرى التي تقول في ختام حديثها لمرايانا: أحيانا، أمر في الشارع ليناديني أحدهم من بعيد “وا العميقة” وأتعرض للتنمر، وربما الكثيرون يتعرضون للتنمر. غير أني لا ألتفت لكل هذا، فما دمت مرتاحة في ملبسي وطريقة عيشي، لا يهمني ما يحدث. كل يراني كيفما يحلو له، والمهم هو كيف أرى نفسي.
ختاما، نهاد، يسرى وعمر هم نموذج لفئة عريضة تجد من الاختلاف عن السائد ملاذا لها، في الموسيقى كما في اللباس وتسريحة الشعر وغيرها؛ داخل وسط لا يقبل أن تكون خارج الإطار. غير أن سعيهم نحو تحقيق ذواتهم أكبر بكثير من التنمر والأحكام القاسية ونعوت العمق، هدفهم في ذلك أن يكونوا ذواتا مستقلة لا تشبه بالضرورة الأغلبية!
مقالات قد تهمك
المينيماليزم أو التقليليون المغاربة: لا أشتري إلا ما أحتاجه فعليا!
ما معنى أن تكون ملحداً في المغرب؟… قصص مغاربة خرجوا من “الملة”