من مونتريال ـ كندا. عمر لبشيريت يكتب: سنة ونصف في ضيافة الزهايمر…
أن تغادر الحياة وأنت حي، ذلك أحسن تلخيص لقساوة وحقيقة المرض.
أن تغادر الحياة، ماذا يتبقى إذن؟ ذلك هو جحيم المعاناة، معاناة المريض والأسرة.
ما تبقى، هو أنك تعيش الحداد بقية عمرك، تعيش حدادك على نفسك وأنت حي. تعيش حداد أحبائك وأسرتك وأصدقائك عليك. وهؤلاء أيضا يعيشون الحداد عليك وأنت مازلت بينهم. ما تبقى هي مراسيم عزائك… تعيشها يوميا وتشاهدها وتشارك فيها…
كانت قاعة المكتبة بالطابق الأخير، خالية إلا منا نحن الاثنين.
الطقس صقيعي بالخارج. تقول توقعات الطقس إن موجة برد قارسة، قادمة من القطب الشمالي تجتاح موريال. السماء صافية وشمس يناير باردة وتطل باحتشام، والثلوج توقفت عن التساقط منذ بداية الصباح. لم يكن مناسبا أن نغامر بممارسة نزهتنا المفضلة، رغم أن “دانييل” يحب جدا ممارسة المشي، والابتعاد عن هذا “المنفى” القسري الخاص بالمتقاعدين.
كانت قاعة المكتبة خيارنا المفضل، دافئة، بيضاوية الشكل، مكسوة بخشب شجرة “القيقب” (l’érable)، وتتوسطها مدفأة من الحجر تشبه دير رهبان، وتغري بالخلوة والاعتكاف.
وضعت أمامه مجموعة من الكتب والموسوعات الخاصة بالرسم والهندسة، استعدادا لانطلاق الحصة اليومية لـ”تعذيب الذاكرة”.
مع تطور المرض، كان “دانيال” يفقد تدريجيا سجلات حياته، غير أن شيئا واحدًا ظل يتذكره… ظل بارعا فيه: كرة الطاولة. كان يهزمني، وكان يسخر مني ويتحداني أن أهزمه.
لكن، لم يحدث قط أن بادر إلى استدعائي لمنازلته، رغم مرورنا يوميا بجانب طاولة اللعبة. لم يكن يبالي بها ولا حتى، ربما، يفهم لماذا تصلح. ما لم أناوله المضرب وأرمي له بالكرة، فإنه لن يبادر إلى اللعب.
اعتدنا على هذا التمرين. أعرض عليه صورة أو رسما، فينطلق في إبداء إعجابه بداية، ليتذكر، بعد ذلك، لوحة أو بناية أو فضاء ظل عالقا بذاكرته، وأحيانا واقعة أو شخصا ما. كانت حصتنا عفوية تنطلق هكذا، لنجد أنفسنا في الأخير، نتحدث عن الطبخ أو القرية التي ولد فيها أو ننتهي بين جدران الحرم الجامعي.
لم يكن هناك منطق منهجي لحصة “التعذيب”هاته، التي يطلقون عليها تحفيز الذاكرة، ولا تسلسل زمني. المهم أن نتحدث، أن نتذكر، أو بالأصح… أن ننقذ ما ظل عالقا بين أنسجة دماغه ونستدعيه قسرا، ونجعل منه مناسبة للحديث وملء الفراغ الذي يفترس في صمت وبدون كلل دماغ “دانيال”. هي ليست علاجا، بل مجرد تمرين، ضمن أنشطة أخرى، لقتل الفراغ الذي يطوق عالم “دانيال” الجديد.
إقرأ أيضا: عندما يخاف العلم من نجاحاته.. التعديل الجيني للبشر
الفراغ بدون ذاكرة أكثر من قاتل. ليس هناك سوى البياض والصحراء. ليس هناك روتين يومي ولا شعور بالزمن ولا المكان. التجوال ثم التجوال، بدون بوصلة ولا هدف ولا محطة نهاية، فقط الشعور بالتعب هو الذي يدفع “دانيال” إلى التوقف عن الطواف بين أروقة الإقامة… للنوم.
أحيانا كثيرة، كنت أصطدم بجدار من الصمت والرفض والامتناع عن محاربة “كسل” الذاكرة. في البداية، كنت أرفض ذلك. مرة، وأمام عجزي، انفعلت، وتحولت إلى جلاد في جلسة تعذيب، يستنطق متهما يمتنع عن الاعتراف ويرفض التذكر. أعيد صياغة السؤال وتغيير الصورة، وهو يراقبني أو يشيح بنظره عني، ويتأمل رفوف الكتب أو يبتسم لأحدهم دخل القاعة توا. ينهض من مقعده ويتجه نحو النافذة. كنت أتعقبه، مثل سجان فاشل، يحمل سوط صوره وأسئلته ويلاحق ضحيته. فجأة، انفجر “دانيال” في وجهي عندما ضيقت عليه الخناق ولاحقته بإلحاحي. لم “يعترف”، بل أطلقها مدوية في وجهي وسط القاعة:
Décâlisse de ma vue ! Osti de câlisse de tabarnak (شتيمة قبيحة بالكيبيكية).
لم يكن “دانيال” يستعمل هذه الألفاظ، كان راقيا وهو المسير السابق لأكبر المؤسسات والباحث الأكاديمي المشهور. لكن، كيف قفزت من ذاكرته هذه العبارة وخرجت متسللة؟ كيف ظلت مترسبة في أعماق ذاكرته؟ من حفزها على الانعتاق من السجن السحيق الذي هوت فيه ذاكرته؟ وأنا أعاني لاستخراج نزر قليل من مخزون سجله في الحياة لكسر رتابة يومه و”منفاه”، تنبعث لي هذه اللفظة القوية.
قال لي:je suis sorti de la vie، وابتسم…
أن تلخص حياتك ومعاناتك في هذه الجملة القاسية، يجب أن تكون فكرت فيها طويلا، واخترت بعناية مفرداتها، أو بالأصح، أن تكون ذاكرتك قد استعادت صحوها وهزمت شيطان النسيان لدقيقتين، دقيقة واحدة، بل لثلاثين ثانية، أو ربما أقل…
لست طبيبا ولا معالجا نفسيا، ولم يكن مطلوبا مني شفاؤه أو استرجاع القرص الصلب لذاكرته. كنت مرافقا ومساعدا اجتماعيا. سأفهم، بعد أن رميت سوط الجلاد، أن “دانيال” حين أطلق صرخة معاناة، كان يستنجد بي أن أرحمه من هذا “التعذيب”. كان يبكي عجزه عن ترويض أرشيفه المحتجز في ركن صاقع من دماغه. إنه المرض اللعين يتحداه ويقهره. كان مثل حفار آبار ظل يهوي ويهوي على ذاكرته الممتنعة ليفتح كوة ومنفذا، لكنها تجبرت لتنكسر الفأس في الأخير. كان مجهدا، وأنا لا أرحمه وأطالبه بأن يحفر أعمق ويضرب بقوة على الدماغ اللعين، ليرمي نصل الفأس خائر القوى دون أن يصل إلى تلك المياه المخزونة عميقا والضرورية للارتواء من العطش، عطش التذكر…
شيطان النسيان عنيد، ويزداد عنادا عندما تضغط عليه. أدركت، مع توالي الشهور، أن “دانيال” طور تقنية لمداراة استعصاء الذاكرة. يشيح وجهه أو يبتسم أو يقول ببساطة “من بعد”. كان يعرف عجزه، ويحاول حفظ ماء وجهه أمام فشله. وكان عليّ تقدير عجزه وعدم إحراجه.
إقرأ أيضا: اليوثانية أو “القتل الرحيم”: حين يصبح الطبيب أخطر رجل في الدولة 2/1
العناد لا ينفع، بل يزيد الطين بلة، وقد يؤدي إلى الانطواء والرفض التام للتواصل.
كان “دانيال”، يعيش وفق نظام وترتيب دقيقين، كأن الأمر يتعلق بذاكرة اصطناعية، وأي خلل في هذا الترتيب يصبح كارثة حقيقية. مكان سرير النوم، وكأس الماء بالجهة اليسرى للسرير، والخُفَّان على بعد قدم من السرير بالجهة اليمنى، وملابس النوم فوق الكرسي الأزرق بجنب النافذة، وضوء الحمام الذي يجب أن يبقى مشتعلا، وفرشاة الأسنان على يمين صنبور المياه، والمناشف بالجهة اليسرى، والصابون فوق القمطر الأعلى. طاولة الأكل وسط الصالون والكرسي الأصفر الذي يتوسط ويترأس الطاولة، ومربى المشمش الذي يجب أن يظل دائما يسار الصحن الأكبر، وكأس القهوة خلف كأس عصير الليمون يمينا، والزبدة في الوسط خلف صحن الفواكه…
أي خلل وأي تغيير يربك “دانيال”، وقد يمتنع عن الغسل أو الجلوس أو اللباس أو الأكل، ليس احتجاجا، بل لأن ذاكرته “الجديدة” قد تعطلت كمن فقد البوصلة. حتى لو وضعت مربى المشمش أمامه فلن يتناوله، سيصاب بالحرج وينظر اليك مبتسما، هو لا يعرف أن الأمر يتعلق بالمربى، ولن يبحث عنه. لكن… يعرفه عندما تضعه يسار الصحن الأكبر.
شيطان النسيان عنيد، ويزداد عنادا عندما تضغط عليه. أدركت، مع توالي الشهور، أن “دانيال” طور تقنية لمداراة استعصاء الذاكرة، يشيح وجهه أو يبتسم أو يقول ببساطة “من بعد”. كان يعرف عجزه، ويحاول حفظ ماء وجهه أمام فشله. وكان عليّ تقدير عجزه وعدم إحراجه.
أحيانا يخيل إليّ أن “دانيال” عَوّض ذوبان ذاكرته وسجلاته بذاكرة بصرية جديدة، فحتى اسمي لا يتذكره، بل لم ينادني به قط، لكنه يعرفني جيدا، عندما يراني قادما من بعيد، يبتسم ويلوح لي بيده أو يهرول نحوي. أصبحت من علامات الاستدلال les repères التي يرتكز عليها. عندما أبتعد عنه، ويتوه وسط قاعة الأكل أو بالشارع أو وسط العمارة، يبحث عني.
في المطاعم، بمجرد ما تطلب منه النادلة أو النادل اختيار وجبته، يبتسم ويحول نظره إلي، لو بقي لوحده لن يختار أبدا وجبته…
علامات أو معالم الاستدلال هاته، هي التي تشعر “دانيال” بالاطمئنان، وتعوض عملية المحو التي تتعرض لها ذاكرته.
إعداد هذه “الذاكرة الاصطناعية” وعلامات الاستدلال تطلب منا شهورا، تحت إشراف وبتوصية من طبيبه، وتطلب الأمر شهورا حتى ينضبط إليه “دانيال”، فحتى شقته الأنيقة، مرتبة لتكون “ذاكرته الاحتياطية”، يرتكز عليها حتى لا يسقط في الفراغ والتيه. طاولة الأكل القديمة جلبت من منزله السابق، المنضدة الجميلة التي ورثها عن جده البرتغالي الأصل، وفوقها الساعة التي احتفظ بها من منزل والده، ثم الجدران المؤثثة باللوحات التي اقتناها، وصور العائلة وصور طفولته، وصورة كنيسة القرية التي ولد فيها وساهم في ترميمها…هذا المعرض من الصور كنا نزوره يوميا، كنت ألعب دور الزائر، فيما يقوم هو بمهمة المرشد…
مع تطور المرض، كان “دانيال” يفقد تدريجيا سجلات حياته، غير أن شيئا واحدًا ظل يتذكره… ظل بارعا فيه: كرة الطاولة. كان يهزمني، وكان يسخر مني ويتحداني أن أهزمه. لكن، لم يحدث أن بادر إلى استدعائي لمنازلته رغم مرورنا يوميا بجانب طاولة اللعبة. لم يكن يبالي بها ولا حتى، ربما، يفهم لماذا تصلح. ما لم أناوله المضرب وأرمي له بالكرة، فإنه لن يبادر إلى اللعب.
المرض اللعين، يعطل تلك الأسلاك وتلك الكيمياء التي ترسل الإشارة من أنسجة الدماغ إلى باقي الأعضاء، للشروع في تلبية الحاجات والرغبات. يشعر بالعطش وكأس الماء أمامه، لكنه لا يبادر إلى تناوله، ما لم تعطه إياه.. مع “دانيال”، تعلمت تقطيع وتجزيء لغة الحديث، فالأعطاب والتلف الذي يعرفه دماغه، يجعله عاجزا عن فهم الحوارات والجمل الطويلة، يحتفظ بآخر كلمة وينسى الباقي. قُمْ… تقدم… يمينا… قف…انتظر… ادخل… هذا مصعد.
لكن، هذا الصباح القطبي البارد، ونحن نتهيأ، في المكتبة، لحصتنا في “تعذيب” الذاكرة، كان مزاجه رائقا. سألته إن كان قد زار مدينة باريس. أعرف أنه زارها، وعرضت عليه صورة بانورامية. حدق في طويلا، ثم قال لي: je suis sorti de la vie، وابتسم…
ذاكرتنا هي وقودنا، هي بطارية الشحن التي نحيا بها… عندما تتعطل وتتلف خلايا وأنسجة دماغنا ويغزوها البياض والفراغ، ندخل عالم التيه… نصبح فراغا…
سلام عليك صديقي “دانيال”. أحببتك جدا وتعلمت منك الكثير…
أن تلخص حياتك ومعاناتك في هذه الجملة القاسية، يجب أن تكون فكرت فيها طويلا، واخترت بعناية مفرداتها، أو بالأصح، أن تكون ذاكرتك قد استعادت صحوها وهزمت شيطان النسيان لدقيقتين، دقيقة واحدة، بل لثلاثين ثانية، أو ربما أقل…
أتصور أن “دانيال” عاش لحظة صحو خاطفة، سافر فيها عبر “آلة الزمن”، متنقلا بين سجلات وأرشيف مسار حياته؛ ثم عاد، فنطق، مختصرا مصيره بجملة بليغة قاتلة. كان مثل قاض يصدر حكما ضد نفسه، حكم بالإعدام، حكم بالتيه في صحراء النسيان…
لكن، لماذا ابتسم؟ هل هي لحظة تعبير عن انتصار؟ عن تحقيق إنجاز؟ أو ربما هو المرض اللعين الذي يبعثر أحاسيسك ومشاعرك وطريقة التعبير عنها، والذي يجعلك “تبكي وتضحك، لا حزنا ولا فرحا”، كما تقول أغنية السيدة فيروز.
أن تغادر الحياة وأنت حي، ذلك أحسن تلخيص لقساوة وحقيقة المرض. لم أسمعه من أساتذتي خلال فترة التكوين ولا سبق أن قرأته في تعريفات المرض. أن تغادر الحياة، ماذا يتبقى إذن؟ ذلك هو جحيم المعاناة، معاناة المريض والأسرة. ما تبقى، هو أنك تعيش الحداد بقية عمرك، تعيش حدادك على نفسك وأنت حي. تعيش حداد أحبائك وأسرتك وأصدقائك عليك. وهؤلاء أيضا يعيشون الحداد عليك وأنت مازلت بينهم. ما تبقى هي مراسيم عزائك… تعيشها يوميا وتشاهدها وتشارك فيها…
إقرأ لنفس الكاتب: أنا وأبي… و”إيڤا”
هزتني عبارته، وأجبته مرددا عبارته، التي يرددها مرارا: nous sommes tous condamnés. ضحك، وتوجه للسلام على سيدة، ظل يعتقد دائما أنها كانت زميلته في التدريس بالجامعة…
سنة ونصف قضيتها رفقة “دانيال”، غادرته عندما فقد استقلاليته وأصبح في حاجة إلى خدمات أخرى. ارتفعت وثيرة المحو بشكل كبير، لم يعد يتذكر زوجته وابنته. نسي لغته المتأخرة: الإنجليزية، ثم الفرنسية فالإسبانية، احتفظ فقط بلغته الأم: البرتغالية… لتنمحي هي الأخرى، ويلوذ إلى الصمت، مرددا أحيانا كلمات لا تنتمي إلى أي لغة… أصبح طريح الفراش لا يقدر على أي شيء. المرض اللعين يشتغل بدينامية تراجعية، يدمر الذاكرة الحديثة ويتقدم بمعول المحو نازلا حتى يقضي على كل أرشيفك وسجلاتك بما فيها استعمال وظائف جسدك…
ذاكرتنا هي وقودنا، هي بطارية الشحن التي نحيا بها…عندما تتعطل وتتلف خلايا وأنسجة دماغنا ويغزوها البياض والفراغ، ندخل عالم التيه… نصبح فراغا…
سلام عليك صديقي “دانيال”. أحببتك جدا وتعلمت منك الكثير…
Effectivement nous sommes tous condamnés, on se dirige lentement, sûrement vers la fin de notre histoire, la mort nous guette, nous suit partout, il ne faut pas trébucher ni se retourner en arrière, c’est comme un train qui va, et qui vous amène vers le néant .
la maladie d’alzheimer vient bouleverser ce processus elle tue progressivement le psychisme avant le corps, le malade ne reconnaît plus sa famille, sa propre femme et ses enfants.
Les familles ne comprennent pas ! Le corps est là vivant, mais lui il est déjà mort !