التعصيب في الإرث: خلاف وتحايل وانتظارات بالتعديل
التعصيب اليوم لا يخدم ما وصلت إليه المجتمعات من ديموقراطية وعدل ومساواة وغيرها. حتى الاجتهاد الفقهي في الموضوع، ينتمي إلى زمانه، حيتَ كان مرتبطاً بالحفاظ على القبيلة والمجموعة، ولو أنه يتضمن نوعاً من العنصرية الاجتماعية.
تأخذ النقاشات حول تعديلات مدونة الأسرة مناحي متعددة بينَ مواضيع حماية الأسرة وحقوق النساء وضحايا العنف وتزويج القاصرات وغيرها من مواضيع بالغة الأهمية، وهي الأهمية ذاتها التي يكتسيها موضوع تجديد النقاش حولَ تعديل نظام التعصيب في الإرث.
مع كل نقاش، تُثار مسألة التعصيب في الإرث، الذي يقوم على نظام توريث الأقارب الذكور إذا لم يكن للهالك ابن ذكر، وهنا مربط الفرس…
فهل فعلا يوجد ضمن الشريعة والتراث الإسلامي نظام للتعصيب، أم أنه لا يغدو أن يكون مجرد اجتهاد فقهي ظهر في زمن معين، ثم صار مقدسا؟
في سياق متصل، هل تتجه اللجنة المكلفة بتعديل مدونة الأسرة إلى إصلاح نظام التعصيب؟ وهل هناكَ حلول بديلة عن التعصيب يُمكن أن تتماشى مع الخصوصية الدينية المغربية وتحترم، في نفس الوقت، حقوق النساء والفتيات؟
نظام انتهت صلاحيته
مصطفى بوهندي، أستاذ تاريخ الأديان المُقارن، ورئيس مختبر الأديان والعلوم الإنسانية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في الدار البيضاء، يعتبر في تصريح لمرايانا، أن موضوع التعصيب يمكن مقاربته بداية من تاريخانيته، فهو متعلق بمجتمع تكون عُصبة الذكور هي التي تحمي إرث القبيلة، ارتباطا بمفاهيم المجتمع الذكوري.
يؤكد بوهندي أن النصوص الشرعية لا تتضمن هذا الموضوع، فالقرآن يتحدث في سورة النساء على الوصية للأولاد والوصية في الإرث، من خلال قوله: “يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين”.
معنى هذه الآية أن الأنثى ترث الثلث، إن كانت مع ذكر، ويرث هذا الذكر ثُلثين إن كانَ وحده، وإن كان معه آخرون كالأخ أو الجدة أو الأم، فكل هؤلاء لهم حقوقهم ضمن الميراث.
يشير بوهندي إلى أن موضوع العصبة مرتبط بإدخال رجل خارج الإرث، ليكون عاصبا إذا ما لم يكن هناك ورثة ذكور، وهذا لا يتوافق مع ما حصلت عليه المرأة من حقوق في مالها، قوامتها، تملُّكها ومنها إرثها. بالتالي، ففكرة العصبة قد انتهى زمانها، وغير موجودة حتى في القرآن، وإنما هي فكرة تنتمي إلى فترة قديمة.
حسب بوهندي، فاستعمال التعصيب اليوم لا يخدم ما وصلت إليه المجتمعات من ديموقراطية وعدل ومساواة وغيرها. حتى الاجتهاد الفقهي في الموضوع، ينتمي إلى زمانه، حيتَ كان مرتبطاً بالحفاظ على القبيلة والمجموعة، ولو أنه يتضمن نوعاً من العنصرية الاجتماعية.
يؤكد الباحث أنه لا يوجد موضوع العصبة، وهو بهذا يتوافقُ مع الآراء الداعية إلى إلغاء التعصيب.
اجتهاد وخلاف
يرى الباحث والكاتب سعيد ناشيد، في حديث لمرايانا، أن موضوع التعصيب في الإرث من بين المواضيع الشائكة علاقة بالنقاش الدائر حول تعديل المدونة الأسرة، لأسباب تتعلق بحسابات سياسية ضيقة في كثير من الأحيان.
يقول ناشيد: “بالعودة إلى تراثنا العربي الإسلامي، يظهر جليا أن موضوع الإرث من القضايا الاجتهادية التي تتضمن رُؤى واجتهادات مختلفة ومتنوعة في التفاصيل، بل في تفاصيل التفاصيل أحيانا”.
حسب المتحدث، فإن منظومة الإرث عموماً تطرح مستويات مختلفة من الصعوبة ومن التعقيد، فبعض المجالات يمكن القول بأنه يحدث فيها اختراق من حيث تقبل اِمكانيات تحديث وتطوير الموضوع.
وصية بدلَ تعصيب
إذا ما اتجهنا للرأي العام الشعبي اليوم، فإن ناشيد يعتقد أنه الآن أكثر استعدادا للحسم في هذا الجدل، لكونه لا يتفق مع أن يرثَ العم أخاهُ الذي يُنجب بنات فقط. بالنسبة لناشيد، فإن الرأي العام الشعبي اليوم لا يقبل بأن يُنازع العمُّ بنات أخيه في الإرث، وهذا تطور كبير، غير أن هناك مجالات أخرى قد نفترض أن الرأي لم يقتنع بها بعد.
حسب الباحث، فإن المخرج الأساسي لكل التعقيدات، مردُّه لإعادة الاعتبار للوصية في الميراث، والعمل على تفعيلها، باعتبارها مفتاحا كبيراً يُقدمه التراث الديني والفقهي الإسلامي، بشكل واضح، مؤكدا على أنها حفظ للإرث وحقوق الورثة، ومخرج لإيجاد حل خلال تعديلات مدونة الأسرة.
يقول ناشيد: “إذا قمنا بتفعيل موضوع الوصية وأعطيناها مكانها المستحق في مدونة الأسرة، فيُمكن أن تكون حلاَّ لإشكالات عديدة، فمالك الإرث له الحق المطلق في التصرف في ملكه، ومن هذا الباب، فإن الأولوية يجب أن تمنح لهذه الوصية، سواء في المستوى القانوني أو في مستوى تشجيع الناس على ممارسة هذا الحق.
يؤكد المتحدث أن مراجعة التعصيب ومدونة الأسرة من شأنها أن تدفع نحو مجتمع عادل، والسير نحو تطور الأسرة المغربية التي بدت عليها بعضُ ملامح التطور علاقة بالسابق، وهذا دور القانون: مواكبة المجتمع وتطوُّره بحيث لا يُمكن أن يبقى ثابتاً.
مُقدسات متجاوزة
محمد ألمو، باحث ومحامي بهيئة الرباط، يورد خلالَ حديثه لمرايانا: “نحن بصدد البحث عن حلول تشريعية لمشاكل تُعاني منها مدونة الأسرة. من ضمن هاته المشاكل، عدم تطبيع المجتمع مع أحكام مدونة الأسرة ومقتضياتها”.
حسب ألمو، فإن المجتمع اليوم يتحايل ويتهرب على بعض مُقتضيات مدونة الأسرة لدرجة أنَّ لنا مُقتضيات متجاوزة موضوعة فقط لتبقى مقدسة، كما هو الحال بالنسبة للتعصيب. فالواقع، يقول ألمو، أن كثيرا من الآباء المغاربة، الذين يلدون البنات، حينما يبلغ منهم الكبر، يُقدمون على تفويت الأموال لصالح بناتهم، كي لا يرثَ فيها أخوتهم أو أبناء عمومتهم.
يشير المتحدث إلى أنه لا يمكن أن يكونَ لنا قانون تتهرب منه الغالبية القُصوى للمغاربة. لهذا، فإنه من الضروري استحضار مراجعته ومعالجته، لأن التطبيع معه ضئيل جدا، بل لا يتماشى مع حاجيات المُجتمع، لأن وظيفة القانون هي حل المشاكل وتدبير النزاعات وتأطير قضايا المجتمع وإيجاد حلول واجابات للمشاكل التي يعاني منها المجتمع.
وريث غير مرغوب فيه
عن الخطاب الرائج حول ما إن كانت مدونة الأسرة تعاكس تصور المجتمع، يقول ألمو إن هناك تصورا يعكس هذا الخطاب وحده، وهو ذاته التصور المُحافظ الذي يدعي أنه صوت المجتمع ويدعو إلى الإبقاء على ثبوتية وقدسية النصوص والأحكام المتعلقة بمدونة الأسرة.
يؤكد الباحث أن المجتمع الذي نتحدث عنه، هو أيضا نفس المجتمع الذي تنجب فيه بعض العائلات وريثات بنات فقط، والذي يترك فيه الأب أو الأم وصية يكتبان من خلالها أملاكهما لصالح بناتهما، خوفا من الإخوة وتدخلهم في الميراث. هؤلاء لم يعد لهم أي موجب شرعي لكي يرثوا في إخوانهم، فهم ليسوا إلاَّ ورثة غيرَ مُرحَّب بهم.
ربما المسألة واضحة… لا تحتاج لكثير من الفهم والتحليل، فقد يحصل اختلاف حول توريث الإخوة والآباء والأجداد، غير أن توريثَ العصبة يتجه الجميع إلى المطالبة بإلغائه. فهل تتجه مدونة الأسرة الجديدة إلى إلغاء نظام التعصيب في الإٍرث؟