عن مذكرة المناصفة في الإرث: هل يكفي التأويل الحداثي للنص الديني؟
لماذا نبحث عن إضفاء شرعية دينية على المطالبة بحقوق كونية ثابتة للمرأة بقوة الواقع المعاصر، بناء على نصوص تعود لأثني عشر قرنا على أقل تقدير؟ هل إذا أردنا مثلا، استصدار نص قانوني صريح يعاقب على ضرب المرأة، سنعود للقرآن وتفاسيره والحديث وصحيحه، أم سنعتبر فعل الضرب أمرا مدانا في كل الأعراف الدولية، بصرف النظر عن ورود نص في ذلك، من عدمه؟
صدرت عن تنسيقية المناصفة، مذكرة حول المناصفة في الإرث، انكب على تحريرها كل من:
– السيدة مارية شرف، خبيرة في مجال حقوق الإنسان و المساواة.
– السيدة أسماء الوديع، فاعلة حقوقية.
– السيد رشيد أيلال، إعلامي وباحث في الموروث الثقافي الإسلامي
– السيد سعيد الكحل، أستاذ و باحث في حركات الإسلام السياسي
استهلت المذكرة بتوصيات عامة حول الموضوع، ثم انتقلت إلى مناقشة موضوع المناصفة في الإرث من زاويتي السياسية والدين.
التوصيات:
- جواز تقسيم صاحب الملك للتركة بين ورثته في إطار الوصية و الهبة والصدقة
حماية الوصية و الهبة والصدقة من الطعون أمام القضاء
المساواة في الإرث بين الذكور والإناث
إلغاء التعصيب
اعتماد قاعدة “الرد” في تقسيم التركة عند وجود بنت/بنات لدى الأسر التي لم ترزق ذكورا.
المناقشة:
حاول المحررون أن يؤصلوا فكريا وفقهيا لفكرة العدل الإلهي في تقسيم التركة من خلال مناقشة آيات قرآنية، تتحدث السلسلة الأولى (1) الأولى عن وجوب الوصية في الإرث، وتحدد الثانية (2) حصة الأقرباء من الإرث، كل على حدة. كما تعرضوا بالنقد لحديث “لا وصية لوارث“.
ويمكن إجمال الأفكار الواردة في المذكرة على النحو التالي:
– نظام الإرث في القرآن من الحدود وليس من الأحكام أي أن القرآن يكتفي برسم حدود دنيا أو حدود قصوى لا يمكن تجاوزها، وليس هناك حكم قاطع مفروض، سيما وأن الآية 11 من سورة النساء تبدأ بلفظ “يوصيكم”، بينما تبدأ الآية 180 من سورة البقرة بتعبير “كتب عليكم” مما يفيد وجوب الوصية، بل أسبقيتها على مقتضيات الآية الأولى.
بعبارة أخرى، فإن للمرأة نصف ما لأخيها، ما لم تكن هناك توافقات أو وصية تراجع هذا الحد الأدنى، في اتجاه المساواة في الحصص.
– الوصية ملزمة، وبواسطتها يمكن أن يضمن الموصي مساواة الحصص بين أبنائه. غير أن الفقهاء ألغوا هذا الحق اعتمادا على حديث “لا وصية لوارث”، إذ يتخلل سلسلة سند الحديث ضعفاء.
من نافلة القول طبعا أن أعضاء التنسيقية يهدفون من خلال هذه المبادرة إلى المساهمة في النقاش المجتمعي الدائر حول حقوق مساواة المرأة والرجل في الإرث، باعتباره جزءا من نقاش عام لمدونة الأسرة، يهدف إلى تمكين المرأة من جميع حقوقها المتعارف عليها في كل المواثيق الدولية. وهي مبادرة لا يمكن لأي ليبرالي متشبع بقيم العلمانية والديمقراطية، إلا أن يثمنها ويدعو للدفع بها إلى أبعد مدى ممكن. وإن كانت هناك من اختلافات، فهي لن تعدو أن تكون بخصوص الوسائل أو الآليات الأنجع لتحقيق نفس الأهداف.
لن نخوض كثيرا في تفاصيل التأطير الفقهي للموضوع، بل سنكتفي ببعض الملاحظات الشكلية، إذ أن غايتنا تقتصر على طرح تسائلات عن الجدوى من هذا التأطير، من موقع الملاحظ لا من موقع المتخصص.
ملاحظات عامة
– يعتمد محررو التوصية على استشهادات محمد رشيد رضا السلفي النزعة ومحمد شحرور، القرآني المتحلل من كل التفاسير المعتبرة سابقا، والذي يقترح تفاسير جديدة للقرآن، لا تلتزم بما التزم به كل المفسرين، قدامى وجدد.
– يتحدث محررو الوثيقة في بداية التوصية عن النسخ في القرآن وعن فوائده لكنهم يرفضونه في موضع آخر من نفس التوصية (حين يتحدث الفقهاء عن نسخ آية الوصية بأية الإرث)، اعتمادا على حجج عقلية فقط. علما بأن بعضهم، في مواقف أخرى، يعتبر فكرة النسخ فضيحة فقهية بكل المقاييس، التجأ إليها الفقهاء والمفسرون، لتلافي ما اعتبروه، تناقضات في القرآن.
– في ظل غياب مفردات واضحة في اللغة العربية وبالتالي في القرآن، تتيح التمييز بين الولد والبنت من جهة، وبين الزوج والزوجة من جهة أخرى، يخلص الأساتذة إلى أن الفقهاء اختلط عليهم الأمر، ففهموا كلمة ولد على أنها تعني الابن الذكر، والواقع أن هذا الخلط مرده إلى القرآن نفسه. بحيث تتغير المفردة من موضع لآخر رغم التشابه التام للسياقات. وهذا ليس حصرا على آيات الإرث أو الوصية بالتحديد.
– نستغرب صراحة للتأكيد على تساوي الرجل والمرأة في إرث المتوفى، بناء على الآية 7 من سورة النساء “للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، مما قل منه أو كثر، نصيبا مفروض”. فهل في هذه الآية إقرار بتساوي المرأة والرجل في الإرث، أم أن الأمر يقتصر فقط على تعيين حصة لكل منهما، دون تحديد مقدارها؟
على العموم، فقد أجهد الأساتذة أنفسهم في محاولة الاستدلال من داخل التراث الإسلامي، على جواز، بله وجوب، تساوي المرأة والرجل في الإرث. نفس التراث الذي يتفنن في إذلال المرأة وقهرها، في مواضع أخرى متعددة، غير الإرث!
ولنا أن نتسائل:
لماذا يفرض الله الوصية على المورث، المفروض فيها أن المورث له مطلق الحرية في تقسيم تركته على من شاء ووفق الحصص التي يشاء، ثم يوصي في موضع آخر بتقسيم الإرث وفق حسابات أخرى حددها بالتفاصيل؟
إن كانت آية الوصية تبدأ بلفظ “كتب عليكم”، وهو ما اعتبر دليلا على إلزاميتها، فإن آيات تقسيم الإرث التي يصر المحررون على كونها غير ملزمة حرفا، تتضمن عبارة “فريضة من الله”. قد يعترض على هذا الطرح بكون العبارة تعود على الوصية لا على التقسيم، ليراجع القارئ مثلا تفسير ابن كثير (ج 2، ص 229) والطبري (ج 7، ص 50) وغيرهم.
القرآن حمال أوجه، على رأي علي بن أبي طالب، والقاعدة الوحيدة الثابتة في التفسير هي “اختلف أهل التفسير..”.
والاعتماد على الأحاديث، المكتوبة بعد حوالي قرنين من وفاة الرسول، وإبراز صحة بعضها، بهدف تسييج مقتضيات وصية قرآنية واضحة، والانتصار، بالتالي، لقضية راهنة، يبدو أمرا غير مجد، لكي لا نقول أكثر.
لماذا يشتكي القرآنيون إذن، حين يقدم السنيون السيرة والأحاديث على القرآن؟
ثم، لماذا نبحث عن إضفاء شرعية دينية على المطالبة بحقوق كونية ثابتة للمرأة بقوة الواقع المعاصر، بناء على نصوص تعود لأثني عشر قرنا على أقل تقدير؟ هل إذا أردنا مثلا، استصدار نص قانوني صريح يعاقب على ضرب المرأة، سنعود للقرآن وتفاسيره والحديث وصحيحه، أم سنعتبر فعل الضرب أمرا مدانا في كل الأعراف الدولية، بصرف النظر عن ورود نص في ذلك، من عدمه؟
إلى متى سنظل في حاجة إلى استجداء المقدس، عله يرق، و”يسمح” لنا بتمكين الإنسان اليوم، ذكرا كان أم أنثى، من كل حقوقه المتعارف عليها كونيا؟
إذا كان الكل متشبعا، مبدئيا، بثقافة علمانية، فالمفروض هو الانكباب على المطالبة بإخراج الدين من دائرة الشأن العام. أما محاولات قراءة وتأويل النص الديني بشكل جديد، وفق ما تمور به مجتمعانا المسماة حديثة، فإنها سرعان ما تبدي محدوديتها، وسرعان ما نصطدم بلاءات الفقهاء والدعاة والأحزاب والجمعيات ذات المرجعية الدينية، واعتراضاتهم على المساس بما هو “معلوم من الدين بالضرورة”. إذ ليس للتأويل النصي حدود، وفي الاتجاهين، تقدما ونكوصا.
المطلوب اليوم، هو الفصل التام لمدونة الأسرة، عن الشأن الديني، وربط مقتضياتها بآخر ما توصلت إليه البشرية من تشريعات، دون شروط ولا قيود. أما المعلوم من الدين بالضرورة فقد عُلم بأنه لم يكن كذلك، حتى على عهد الصحابة، بدءا من عمر بن الخطاب.
والمطلوب أيضا من الدولة، أن تكف عن التماطل، وتعليب التوازنات السياسية على مصلحة المواطن، وأن تبادر إلى إنزال مدونة مراجعة في اتجاه إسعاد البشر، عوض مداهنة المقدس. إسوة بما فعله الملك محمد السادس، حين أقر مدونة 2004، بالرغم من المظاهرات الصاخبة واستعراضات القوة بالشارع العام، لمختلف أطياف الإسلاميين.
الإنسان الحي الذي يسعى فوق الأرض، هو الذي ينبغي أن يكون القيمة المطلقة الوحيدة، بعيدا عن باقي التشريعات البشرية السحيقة التي استهلكت كامل أغراضها، ووجب اليوم أن تتبوء مكانها المناسب في المتاحف والمكتبات المختصة.
(1) الآيات التي تتحدث عن الوصية هي: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين (180) فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم (181) فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم (182) – سورة البقرة
(2) الآيات التي تتحدث عن الإرث هي: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما (11) .. والآيات الموالية من سورة النساء.