تزويج الصغيرات… والتبريرات
نشرت جريدة هسبريس، بتاريخ 5 ماي 2023، مقالا يعرض فيه لأهم أفكار مونية الطراز، الحاصلة على االدكتوراه في الفقه وأصوله، بجامعة القاضي عياض بمراكش، حول تزويج القاصرات، انطلاقا من المرجعية الدينية للباحثة، والتي اعتمدتها زاوية للنطر في الموضوع؛ وهي أفكار تحفز على المناقشة المستفيضة، تعميما للفائدة.
سنعرض بتركيز، لأهم ما ورد في المقال من أفكار، قبل مناقشتها اعتمادا على نفس المنطلقات الدينية التي متحت منها الباحثة.
تؤكد مونية الطراز بأن “زواج القاصر ليس مؤصلا بنصوص شرعية”، وبأنه “لا مانع من رفع سن زواج الإناث إلى 18 سنة أو أكثر إن اقتضت الضرورة”، أي حسب ما تقتضيه المصلحة العامة، دون المرور بتجارب المجتمعات الغربية بالضرورة”. هكذا، تؤكد الباحثة بأن الفقهاء مختلفون حول معنى الآية 4 من سورة الطلاق، وتحديدا عبارة “اللائي لم يحضن”. فبينما يرى البعض أنها تعني “الفتيات الصغيرات”، يعتقد غيرهم بأنها تعني “المرأة التي لا تحيض لعلة أو مرض”.
أما فيما يخص زواج النبي من عائشة في سن ست سنوات، ودخوله بها على تسع، فترى الباحثة أن “هذا الأمر ليس فيه تشريع عام”، وبأن ذلك كان “خصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم. لتخلص إلى أن “مسألة الزواج لا تتحدد بمحدد عمري يمكن الاستناد إليه”، وأن النقاش، في النهاية، ينبغي أن ينصب على “الأهليات التي تتطلبها ظروف الزمن الراهن” والتي قد تقتضي رفع سن زواج المرأة أحيانا، إلى ما فوق الثامنة عشر. لأن مفهوم القصور ذاته “متفلت ومتقلب”.
هذه هي أهم الأفكار الواردة في مقال الباحثة، مساهمة منها، على ما يبدو، في النقاش الدائر حول الإصلاحات المرتقبة لمدونة الأسرة.
لنمر الآن للمناقشة.
انعدام التأصيل الشرعي لزواج القاصرات:
الحقيقة أننا لا نعرف عن أي تأصيل تتحدث الباحثة؛ فلدينا نص قرآني بمفردات واضحة تماما “واللائي لم يحضن”، علاوة على تطبيق عملي لمقتضيات ذلك النص، وتحديدا فيما يتعلق بتزويج القاصر، في السيرة النبوية، يتجلى في زواج الرسول من عائشة في سن ست سنوات، ودخوله بها على تسع. والقرآن والسنة والحديث حسب علمنا، هي المصادر الرئيسية التي يعتمدها الفقهاء أنفسهم، في التأصيل الشرعي لأي موضوع كان، والتي لا يمكنهم تجاوزها بأي حال.
وعليه نقول: هناك فعلا تأصيل شرعي للموضوع. وهذه مجرد أمثلة:
* ابن بطال: “أجمع العلماء على أنه يجوز للآباء تزويج الصغار من بناتهم، وإن كن في المهد، إلا أنه لا يجوز لأزواجهن البناء بهن إلا إذا صلحن للوطء واحتملن الرجال. وأحوالهن تختلف في ذلك على قدر خلقهن وطاقتهن” شرح صحيح البخاري لابن بطال، ج 7، ص 173.
* أبو داود: “أجمع المسلمون على تزويجه (الأب) بنته البكر الصغيرة (..) وأما وقت زفاف الصغيرة المزوجة والدخول بها، فإن اتفق الزوج والولي على شيء لا ضرر فيه على الصغيرة، عمل به. وإن اختلفا، فقال أحمد وأبو عبيد: تجبر على ذلك بنت تسع سنين دون غيرها. وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: حد ذلك أن تطيق الجماع. ويخلف ذلك باختلافهن، ولا يضبط بسن، وهذا هو الصحيح” سنن أبي داود، ج 3، ص 459
* ابن حجر: “قال المهلب: أجمعوا أنه يجوز للأب تزويج ابنته الصغيرة البكر، ولو كانت لا يوطأ مثلها. إلا أن الطحاوي حكى عن ابن شبرمة منعه فيمن لا توطأ، وحكى ابن حزم عن ابن شبرمة مطلقا أن الأب لا يزوج بنته البكر الصغيرة حتى تبلغ وتأذن، وزعم أن تزويج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وهي بنت ست سنين كان من خصائصه” فتح الباري لابن حجر، ج 9، ص 190
* ابن قدامة: “للأب تزويج ابنته البكر الصغيرة، التي لم تبلغ تسع سنين بغير خلاف، إذا وضعها في كفاءة (أي إذا زوجها لرجل مقتدر). قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، أن نكاح الأب ابنته الصغيرة جائز، إذا زوجها من كفء. يجوز له ذلك مع كراهتها وامتناعها. وقد دل على جواز تزويج الصغيرة قول الله تعالى: واللائي ييئسن من المحيض…”، الشرح الكبير على متن المقنع لابن قدامة، ج 7، ص 388، وللقارئ أن يتأمل عبارة: مع كراهتها، وامتناعها!
نذكر بأن ما أوردناه من نصوص، هو مجرد شذرات، من نقاشات فقهية كثيرة ومتشعبة.
غير هذا هناك أيضا تأصيلا شرعيا لعدم جواز تزويج القاصر، إما بناء على فهم مختلف لعبارة “اللائي لم يحضن”، أو على أساس حديث “لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن”. والمجال لا يتسع هنا لمناقشة هذا الطرح.
“اللائي لم يحضن”
في محاولة للتلطيف من شناعة النص، أشارت الباحثة باقتضاب، ودون تعليق، إلى أن من الفقهاء ممن رأى بأن تعبير “واللائي لم يحضن” يعني القاصر، ومنهم من رأى بأنه يعني من لا تحيض لسبب أو لآخر. والجميع يعرف أن احتباس الطمث عند النساء، حالة نادرة، تحدث في الغالب لأسباب مرضية. والمعروف أيضا، أن القياس لا يجوز على الحالات الاستثنائية.
ثم إن النص القرآني يتحدث عن الآيسات من المحيض، لسبب أو لآخر، في نفس الآية؛ إلم نكن أخطأنا أو نسينا.
لنستحضر الآية المعنية بالأمر، توخيا للوضوح.
تقول الآية: واللائي يئسن من المحيض من نسائكم، إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر، واللائي لم يحضن، وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن . الآية تتحدث عن الشروط الواجب توفرها في المرأة، قبل إعلان الطلاق النهائي من زوجها، وجواز زواجها من غيره.
هذه آراء أربعة من أشهر المفسرين المعتبرين، لعبارة “اللائي لم يحضن”:
* البغوي: “”واللائي لم يحضن”، يعني الصغار اللائي لم يحضن، فعدتهن أيضا ثلاثة أشهر” تفسير البغوي، ج 8، ص 152.
* ابن كثير: “وكذا الصغار اللائي لم يبلغن سن الحيض، أن عدتهن كعدة الآيسة: ثلاثة أشهر” تفسير ابن كثير (8/149)
* القرطبي: “قوله تعالى: واللائي لم يحضن، يعني الصغيرة. فعدتهن ثلاثة أشهر” تفسير القرطبي، ج 18، ص 165
* الطبري: “اللائي لم يحضن، يقول : وكذلك عدد اللائي لم يحضن من الجواري لصغر، إذا طلقهن أزواجهن بعد الدخول.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك : (..)
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول: في قوله: (..) اللائي لم يحضن: لم يبلغن المحيض ، وقد مسسن ، عدتهن ثلاثة « تفسير الطبري، ج 23، ص 452 و 453
وكما هو واضح من التفاسير فإن هناك إجماع حول كون عبارة “لم يحضن” تعني حصريا: من لم يحضن بعد. أي الصغيرات. باستثناء الرأي الذي أورده الطبري عن السدي والذي يفسرها بمعنى: الجواري،. وهذا مما يمكن اعتباره رأيا فقهيا شاذا عن الإجماع.
ولنمر لباقي الملاحظات:
ضرورة تحديد سن زواج الفتاة حسب الضرورة، أي المصلحة العامة
لا ندري صراحة ما هي هذه المصلحة العامة، التي يمكن أن تتجاوز المصلحة الخاصة للفتاة نفسها. هكذا، وعوض التنصيص الصريح على ضرورة تسليحها بالعلم والمعرفة، وتمكينها لاحقا، من أن تختار، بكل حرية، متى ترتبط، ومع من، وفي أية ظروف، تفضل الباحثة الإبقاء على تحكم المجتمع في اختيار سن “تزويج” الفتاة متى ما قرر غيرها ذلك. زد على ذلك أن الحديث عن الزواج بعد سن 18، غير ذي موضوع من الأصل.
الزواج بالصغيرة خصوصية للنبي
عبارة يستعملها الإسلاميون، كمخرج من مأزق ضرورة الاقتداء بصحيح السنة. أي أن الشعار العام، المرفوع دوما، هو أن على المسلمين الاقتداء بسلوك النبي في كل صغيرة وكبيرة. لكن، حين يتعلق الأمر بحالات بعينها، مثل الزواج من أكثر من أربعة نساء، والتقبيل في رمضان، والنكاح بالهبة، وغيرها، يتوقف الاقتداء بالمثل الأعلى للمسلمين جميعا، وتبدأ الاستثناءات في التناسل، حسب كل موقف على حدة. وحين تسأل: لماذا يجب أن تكون للرسول خصوصيات، إذا كان مبعوثا لهداية المسلمين للسلوك القويم، ونبراسا للعالمين؟ تكون قد اقتحمت، في أعينهم، دائرة الكفر.
الأهليات التي تتطلبها ظروف الزمن الراهن
لا ينتبه معظم المسلمين إلى أنهم حين يتحدثون عن اختلاف الظروف الراهنة، عن ظروف نشأة الإسلام، وبالتالي عن ضرورة مراجعة بعض التشريعات، بما يتوافق مع روح العصر، ينسون لبعض الوقت، شعاراتهم المفضلة دوما، من قبيل: “الإسلام صالح لكل زمان ومكان”، و”المعلوم من الدين بالضرورة”، وهلم مزايدات.
يزداد المشكل حدة، حين يتعلق الأمر بنصوص قرآنية واضحة. فزواج الصغيرة، كما رأينا في التفاسير أعلاه، موضوع إجماع لدى الفقهاء. سيان في ذلك أن تكون ذات أهلية، أم لا.
ويزداد اندهاشنا أيضا، حين نعرف أن الأهليات المتحدث عنها، صارت فتيات اليوم، تكتسبنها دون كير عناء، وفي سن أصغر بكثير، مما كان عليه الأمر قديما. وأهمها، النضج العقلي. فهل يعتبر ذلك مؤشرا، ضرورة، على العودة إلى تزويجهن في سنتهن الثالثة مثلا، حفاظا على المصلحة العامة؟
ماذا عن النضج النفسي والعاطفي للمرأة؟
كانت هذه أهم انطباعاتنا على تصريح الباحثة. نشير فقط، وختاما، إلى امتعاضنا الشديد، من التسويف، بله التغليط المقصود، الذي تنتهجه امرأة، في موضوع، يخص المرأة بالأساس ومعاناتها من كل أشكال القهر الذكوري، عبر قرون!