بعد زلزال الحوز: دعاة وَوُعّاظ البؤس الروحي
ما الذي يجعل الداعية يصر على إقحام كل ما هو غرائبي وخرافي عند حديثه عن الظواهر الطبيعية؟ لماذا يلتجأ إلى أسلوب التخويف والتهديد والوعيد بدلا من الترغيب والتحبيب؟ لماذا يشتغل الواعظ الداعية في دائرة المعجزة والمُعَجّزْ والإعجاز ولا يشتغل داخل مساحة الحب والمحبة والمعرفة؟ لماذا يعمل الداعية على حشر الله في مثلث: الغضب – التخويف – الانتقام، بدلا من مساحة: الحرية – الأمل – الحب؟
“داخل كل إنسان، يغفو نبيّ متى استيقظ إنضاف شيء من الشرّ إلى العالم… ترسّخ جنون من التبشير فينا حتى بات ينبثق من أعماق تجهلها غريزة البقاء…كلّ يوزّع وصفات السعادة. كلّ يريد التحكّم في خطى الكل”، إميل سيوران.
في سياق الحديث عن الزلزال الذي ضرب مناطق من وسط المغرب،
قال الداعية:
“حدثني أكثر من شخص في القرى الجبلية بأنهم شاهدوا مع الزلزال اشتعال نار في الجبال وسمعوا أصواتا غريبة انطفأت بعدها الكهرباء، وحدثني أهل طنجة أن أضواء الشاطئ انطفأت مع الزلزال ورجعت بعد ذلك، مع أنهم لم يشعروا بالهزة أصلا.
وكل هذا من آيات الله الباهرة التي ترجع الإنسان لحقيقته وأنه مجرد عبد صغير من عباد الله يرفعه تقواه وتخفضه معاصيه”.
قال السياسي:
“الصواب هو أن نراجع كأمة ونتبين هل الذي وقع قد يكون كذلك بسبب ذنوبنا ومعاصينا ومخالفاتنا، ليس فقط بمعناها الفردي ولكن بمعناها العام والسياسي…السؤال المطروح ليس فقط عن المخالفات الفردية وإنما عن الذنوب والمعاصي والمخالفات بالمعنى السياسي وتلك الموجودة في الحياة السياسية عامة والانتخابات والمسؤوليات والتدبير العمومي وغيرها”، من بيان حزب العدالة والتنمية.
مع كل كارثة طبيعية مدمّرة أو حدث جلل، أو حتى عند أزمة إقتصادية خانقة، تنتشر أخبار غريبة وتتناسل أشكال من الخرافات، يلهث من ورائها بعض الدعاة والسياسيين، أو يعملون على إنتاجها عبر قنواتهم الخاصة؛ إذ يحرصون كل الحرص على إلتقاط وانتقاء كل ما هو عجائبي غرائبي وخرافي وسكبه في خطاب يعملون على تمريره وتعميمه بطرق شتى مستغلين لحظات الهول والضعف والألم ومستهدفين مشاعر البسطاء من الناس.
ينتصب الوعاظ والدعاة كنواب ووُلاّة عن البشرية وكتأويليين سيئين للظواهر الطبيعية وكمتحدثين فظّين غليظي القلب باسم السماء، محذرين كل من يقع خارج دائرة جماعتهم “الناجية والمنصورة بالله” من شدّة غضب الله وانتقامه وقرب الساعة.
ماذا لو توقف الداعية الواعظ عند الجملة الآتية: “هذا قدر من الله، والله أعلم بشؤونه”، ثم رفع أكفه متضرعا إلى السماء طلبا للرحمة والمغفرة والهداية لجميع الناس دون تمييز أو استثناء، ثم اكتفى بذلك وصمت؟ لكن، هل لمن يقتات من ألم وأحزان الآخرين أن يتوقف عن التسويق لبضاعته الفاسدة؟
تحت فعل الإبتزاز، يعمل الداعية جاهدا وبشكل مسترسل على التأبين اليومي للعالم ونعي الحياة اليومية العصرية، تحت ذريعة استشراء الفساد الذي عمّ كل شيء وقرب الساعة. لكن، ما الذي يجعل هؤلاء لا يعيشون في زمن حداد دائم أو يختارون الزهد في الحياة العصرية ؟ لماذا لم يعد جزاء الآخرة ذلك الأفق المغري لمثل هؤلاء الدعاة العصريين كما كان الأمر عند القدماء ممن يستحضرونهم عند ما يفيد ادعاءاتهم ؟ لماذا انغمس هذا الرهط الحديث من الوعاظ في ما لذّة وطاب من نعم العصر (سكن فاخر، سيارة فارهة، ألبسة ثمينة، أكل لذيذ، عطور ثمينة، أسفار مسترسلة، هواتف من آخر ما توصلت إليه التكنولوجيا الحديثة..)؟.
لقد صارت مناسبات الألم والموت في جدول أعمالهم فرصا لابتزاز العامة تحت أسلوب تخويفي ترهيبي؛ إذ لم يعد يخلو حديثهم من التذكير بغضب الله وشدّة انتقامه وبمظاهر ومؤشرات قرب الساعة كما لو أنهم يمسكون بكرونولوجيا العالم ومتحكمون في عقارب الساعة.
يبدو أن “العقل” عند هؤلاء الدعاة لا يتوقف عن إفراز الخرافات كما يفرز البنكرياس الأنزيمات، ولن تقوم لهم أي حياة لو توقف هذا “العقل” عن إفرازاته لكل ما هو غرائبي وخرافي.
الداعية لا ينتعش ولا يتقوى إلا حيث الجهل والألم؛ إذ هو يعمل على تعطيل ملكات العقل عند المتلقي. وبعد أن يدبج ويطعم خطابه بكل ما هو غرائبي خرافي، يعمل جاهدا على اختزال أسباب كل الشرور في سبب واحد هو “مجتمع المعاصي” وأن “الإسلام، على منهجهم، هو الحل”. بهذا الفهم السطحي المبسط والساذج وهذه الخطابات الغارقة في الأوهام وكراهية الآخرين، يسعى بكل الطرق، حد العنف، على فرض كل ما هو من الماضي وجعله نموذجا للعيش والإنعتاق من أوجاع الحاضر، ويسوّق لمجتمع الصحابة والتابعين كنموذج حقّق المطلق في التاريخ لابد من إحيائه واستئنافه كحل وحيد وأوحد لكل مشاكل العصر، بما في ذلك الكوارث الطبيعية وحتى لما سيأتي في المستقبل.
إن أكثر ما طبع خطابات وسجالات هؤلاء الوعاظ والدعاة، هو إعادة إنتاج مسترسل لخطابات دينية متوارثة كفّت عن أن تقول شيء للإنسان الحديث… هو التلفيق والترقيع مع الفقر الروحي والمعرفي الشامل. لا هم متمكنون من: علوم الدين، ولا من علم اللاهوت، ولا يمتلكون معارف عن الميتافيزيقا ولا عن الفلسفة ولا هم على اطلاع واسع بالعلوم الطبيعية، ولا هم منفتحون على المعارف والعلوم الحديثة ومستجدات العصر. لذلك، يحضر غير قليل من التعويم ومن العنف اللفظي، حد السبّ والشتم، في خطاباتهم؛ حيث أسلوب التحذير والتخويف والترهيب مع التصنيف حد التكفير هو الطاغي في أحاديثهم مع الغضب والرفع من الصوت والبكائيات كنوع من التعويض عن ذلك الفقر والخصاص ومن أجل التأثير على البسطاء قصد استمالتهم.
لكن، ما الذي يجعل الداعية يصر على إقحام كل ما هو غرائبي وخرافي عن حديثه عن الظواهر الطبيعية؟ لماذا يقتحم مجال الغيبيات ويتحدث بتفاصيل دقيقة فيها كما لو أنه عاش تجربة ما ؟ لماذا، عند وصوله الغيبيات، لا يقتصر في حديثه عن القول: “ذلك علم الغيب والله وحده أعلم به”؟ لماذا يلتجأ إلى أسلوب التخويف والتهديد والوعيد بدلا من الترغيب والتحبيب؟ لماذا يشتغل الواعظ الداعية في دائرة المعجزة والمُعَجّزْ والإعجاز ولا يشتغل داخل مساحة الحب والمحبة والمعرفة؟ لماذا يعمل الداعية على حشر الله في مثلث: الغضب – التخويف – الانتقام، بدلا من مساحة: الحرية – الحب – الأمل؟
إن الجهل صنع الدعاة، والدعاة يكرسون الجهل.
الداعية هو ذلك الشخص الذي أعطى لنفسه الحق في اقتحام كل تفاصيل الحياة اليومية للناس حتى أحلامهم، تحت ذريعة: “العلماء ورثة الأنبياء” ووحده دون غيره من يفهم كلام الإله وهو المكلف والمسخر من السماء حتى يجنب الناس غضب الله وانتقامه والجحيم الذي هو في انتظارهم.
إن وصف ونعت المجتمعات الإسلامية الحديثة من طرف الدعاة وبعض السياسيين بـ”مجتمعات المعاصي”، هو نفسه النعت الذي أعطاه السيد قطب لهذه المجتمعات حين وصفها بـ”المجتمعات الجاهلية”.
إن الواعظ الداعية الذي يتحدث في كل شيء ويفهم كل شيء ويعطي الحلول لكل شيء، كما لو أنه ملمّ بكل المعارف البشرية المادية والروحية والنفسية حتى الممتدة إلى ما هو غيبي، تحت المزيج غير المسبوق واللامتجانس من الخرافات والغيبيات والدين والفلسفة والتاريخ والإجتماع والفن والفلك والطب والهندسة والفزياء والتكنولوجيا، يوهم الناس وبذلك يصبح دجالا لا غير، وهو جزء من الأزمة وليس من الحل.
كلما تمعنت النظر في هذا الكم من الخطابات الدينية العقيمة السائلة، إلاّ وخلصت إلى أنه لم يعد يفيد في شيء الخوض في سجالات ومعارك حول التجديد في الدين أو اللاهوت المستنير مع هؤلاء، بل نحن مطالبون بالبحث عن الحلول في السياسة والإقتصاد.
يبدو أن المهمة الأولى والأساسية ليست في التحرر من سلطة النصوص التي لم تعد حية، بل في الإنعتاق من قبضة لسان رهط من الدعاة والوعاظ الذين صاروا يشتغلون كما كان يشتغل كهان وباباوات كنائس القرون الوسطى.
ذات يوم، كتب المفكر والمناضل الإيطالي غرامشي ما يلي:
“تتمثّل الأزمة على وجه الدّقة في واقع أن القديم ما فتئ يموت والجديد لم يستطع أن يولد. وفي هذه الفترة بين حكمين، تظهر مجموعة كبيرة من الأعراض القاتلة”.