‏السيرة النبوية سيرة شعبية أسطورية وإيديولوجية: الحلقة الأولى: النبي بطلا شعبيا - Marayana - مرايانا
×
×

‏السيرة النبوية سيرة شعبية أسطورية وإيديولوجية: الحلقة الأولى: النبي بطلا شعبيا

دونت النسخة الأولى للسيرة النبوية في عهد الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، دون أصول لهذا التدوين. وتشكك الأصوليون في السيرة النبوية كثيرا بسبب جانبها الشعبي الذي يتناقض أحيانا مع الرؤية العقائدية الإسلامية. ورواة السيرة الأوائل غرفوا، حسب ما يدلنا عليه النص الحالي، من سير الأبطال والأنبياء المعروفة لسد الفراغات المجهولة في حياة النبي؛ فهناك تشابهات بين سيرة النبي وسيرة زرادشت وبين صفات محمد وصفات الأبطال الشعبيين في الملاحم العربية وغير العربية.
أراد ابن هشام تهذيب السيرة من شعبيتها، لكن تهذيبه لم يكن مكتملا، فتتالت أعمال تهذيب السيرة النبوية حتى عصرنا الحالي. لكن، تظل السيرة النبوة نصا شعبيا أكثر منه نصا رسميا، وتظل سيرة محمد مجهولة في تفاصيلها معلومة في أفقها العام.

Hussein Wadii حسين الوادعي
حسين الوادعي، كاتب يمني

عنوان هذا المقال مستوحى من عنوان دراسة طويلة نشرها الدكتور نصر أبو زيد عام 1986، كمحاولة لتحليل السيرة النبوية كما دونها ابن هشام من وجهة نظر الفلكلور، عنوانها “السيرة النبوية سيرة شعبية”. للأسف، لم تنشر هذه الدراسة المهمة في أي كتاب من الكتب الصادرة عنه.

سأحاول أن أبني على أفكار المقال طارحا ثلاث افتراضات عن السيرة الشعبية، أنها:

سيرة شعبية

وسيرة أسطورية يمنية

وسيرة ايديولوجية

يرى نصر أبو زيد أن السيرة المحمدية، كما اختصرها ابن هشام عن ابن إسحاق، سيرة شعبية من ناحية البناء والمضمون والخصائص الفنية، فهي تشترك مع السير الشعبية العربية (عنترة، سيف، الهلالي) في عدة عناصر منها:

أولا: أن السيرة النبوية سيرة عن البطل (النبي) المصاغ على نفس قوالب الأبطال الشعبيين،

ثانيا: المزاوجة في أسلوب القص بين القص والنثر،

وثالثا: التنقل في القص بين القصص الكبرى والقصص الصغرى المتفرعة منها، إضافة إلى اعتمادها على الخرافات والأساطير العربية السائدة مثل التنبؤ والرؤيا الصادقة والجن والحسد، والتشاؤم، والمعجزات، والخوارق.

إن الدمج بين الشعر، والحوار، والرسائل في السير الشعبية له عدة وظائف مثل الوظيفة الإخبارية، ومن خلالها يتم توضيح وتأكيد بعض الأحداث المذكورة وإضفاء المصداقية عليها، والوظيفة الترفيهية والهدف منها إمتاع المستمع خاصة وأن السيرة فن شفاهي حتى ولو تم توثيقها في كتاب. كاتب السيرة كان يتوجه في كتابته لنفس الجمهور الذي يتوجه له راوي السيرة في شكلها الشفهي، فهو يسعى إلى جذب انتباه ويمتعها بطرفي التاريخية والأشعار والمفاجآت.

‏لكن المثير للاهتمام في السيرة المحمدية أن الآليات القصصية التي استخدمتها للتمهيد لظهور البطل النبي، تتطابق تماما مع الآليات المستخدمة في السير الشعبية (عنترة، الهلالي، سيف)!

بشكل عام، يبدأ ظهور أي بطل غالبا بحدث كبير، ثم يتبع ذلك سلسلة من نبوءات العرافين بظهور نبي جديد أو بطل جديد. تبدأ سيرت النبي البطل الشجاع من طفولته التي لابد أن تكون طفولة غير عادية.

‏‏لا تختلف ظروف ظهور وخصائص البطل المحمدي في السيرة عن خصائص البطل الشعبي!

تؤكد دراسات السير الشعبية أن هناك خصائصا موحدة لكل الأبطال الشعبيين هي: الميلاد غير المرغوب، والتيتم، الطفولة الصعبة المنعزلة، والاغتراب.

ولادة سيف بن ذي يزن وعنترة كانت غير مرغوبة، إلى درجة أن والدة سيف حاولت التخلص منه، ووالد عنترة تنصل منه. ورغم غموض أحداث ولادة محمد، إلا أن هناك إشارات يمكن أن نستشف منها وجود حالة ولادة غير مرغوب فيها: عدم قيام أمه بإرضاعه وإسناد ذلك إلى حليمة السعدية وقضاء طفولته بعيدا عن أمه حتى وفاتها، كلها مؤشرات غامضة في السيرة. كما أن السمعة غير الجيدة للمرضعات في المرجعية العربية لما قبل الإسلام التي يعبر عنها المثل المشهور “تموت الحرة ولا تأكل بثدييها”، مؤشر على خصائص الميلاد غير المرغوب فيه، وإن كانت هذه النقطة نقطة غامضة وتحتاج إلى المزيد من التحليل.

‏المقوم الثاني من مقومات البطل الشعبي، هو تميز البطل في ظروف الميلاد، فهناك أحداث غريبة ترافق ولادته وعلامات جسدية تتنبأ ببطولته. لسيف بن ذي يزن علامة على خده، ولمحمد علامة على كتفه.

‏المقوم الثالث من مقومات البطل الشعبي هو اليتم. فأغلب وأبطال السيرة الشعبية أيتام، إما توفي آباؤهم أو هجروهم: فسيف بن ذي يزن فقد أباه بعد أن قتلته والدته الجنية، ووالد عنترة يتخلى عنه لسواد بشرته، ومحمد يرحل والده قبل ولادته.

‏المقوم الرابع هو الاغتراب. سيعيش سيف وعنترة بعيدا عن أهلهم ويغادران بلدها ويغتربان، وسيعيش محمد طفولته في بادية بعيدا عن أهله وسيغترب في يثرب بعد اضطهاده. تجربة الاغتراب ستصقل شخصية البطل وتحدد موقفه المغاير من أهله ومجتمعه. وفي مجتمع الاغتراب، سيجد البطل القوة والدعم الذي يمكنه من العودة بطلا منتصرا.

هذه التشابهات ليست مصادفة. فالراوي الأول لسيرة محمد، على ما يبدو، صاغها باستخدام نفس آليات السير الشعبية وتوجه لنفس الجمهور.

‏لكن التشابهات بين السيرة النبوية والسيرة شعبية يجب ألا تجعلنا نغفل عن الاختلافات. فالسيرة النبوية ليست سيرة عن محمد بالشكل الأساس بقدر ما هي سيرة تحولات ضخمة ستقود الى ظهور الإسلام. ومحمد يظهر في السيرة في أقل من نصفها كشخصية رئيسية أحيانا وكخلفية للأحداث في أغلب الأحيان.  كما أن السيرة النبوية لا تسعفنا بتفاصيل كافية عن طفولة محمد ومراهقته وشبابه وتحولاته الوجودية قبل مطلع البعثة ودخوله دور البطولة الشعبية. فرغم ضخامة السيرة النبوية، إلا أن محمدا يظل ذلك النبي المجهول الذي لا نعرف عنه إلا القليل.

غير أننا نجد نفسنا أمام أزمة أخرى في حالة السيرة النبوية: في كل السير الشعبية، تلعب تفاصيل حياة البطل دورا رئيسيا في صياغة شخصيته والتمهيد لبطولته. لكن السيرة النبوية لا تكاد تخبرنا شيئا عن طفولة محمد ومراهقته وشبابه حتى لحظة زواجه بخديجة. والأحداث المروية مفككة يصعب وضعها في إطار تصاعدي لصناعة شخصية البطل.

الظلام الشديد حول أحداث الأربعين سنة السابقة لبعثة محمد، تغير الاعتقاد السائد عند المسلمين وبعض المستشرقين أيضا أن حياة محمد واضحة ومدونة بالتفاصيل، عكس سيرة المسيح. والحقيقة أننا نعرف عن مولد المسيح وطفولته وشبابه أكثر بكثير مما نعرف عن محمد، حتى مع مراعاة الروايات المتعارضة.              لذلك، جاءت السيرة النبوية سيرة عامة لا سيرة محمد نفسه، وحضور الرسول في السيرة حضور فرعي ما عدا في بعض فصول السيرة التي تركز على الأحداث المتسارعة بين بعثته وهجرته الى المدينة بعد اضطهاده.

دونت النسخة الأولى للسيرة النبوية في عهد الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، دون أصول لهذا التدوين. وتشكك الأصوليون في السيرة النبوية كثيرا بسبب جانبها الشعبي الذي يتناقض أحيانا مع الرؤية العقائدية الإسلامية. ورواة السيرة الأوائل غرفوا، حسب ما يدلنا عليه النص الحالي، من سير الأبطال والأنبياء المعروفة لسد الفراغات المجهولة في حياة النبي؛ فهناك تشابهات بين سيرة النبي وسيرة زرادشت وبين صفات محمد وصفات الأبطال الشعبيين في الملاحم العربية وغير العربية.

أراد ابن هشام تهذيب السيرة من شعبيتها، لكن تهذيبه لم يكن مكتملا، فتتالت أعمال تهذيب السيرة النبوية حتى عصرنا الحالي. لكن، تظل السيرة النبوة نصا شعبيا أكثر منه نصا رسميا، وتظل سيرة محمد مجهولة في تفاصيلها معلومة في أفقها العام.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *