رفقة الفيل والقمر… صناعة المعجزات 2/2
تتبع سِير رواة هذه الآثار توقف الدارس على كمية الخداع الذي لا يقبله إلا من عطل عقله تعطيلا تاما…
فأنس بن مالك، راوي الحديث الذي أخرجه البخاري، عندما وقعت الحادثة المزعومة في شعاب مكة، كان بالمدينة طفلا لم يتجاوز الخامسة من عمره، وعبد الله بن عباس لم يكن قد وُلِد بعد، وجبير بن مطعم الذي شهد الحادثة العظيمة، ظل على شركه حتى أسلم مُكرها عام الفتح، بعد 13 سنة من مشاهدته لأعظم معجزة مادية على الإطلاق. وعبد الله بن عمر كان طفلا لم يتجاوز السنة الخامسة من عمره، فلم يتبق غير عبد الله بن مسعود، الذي تحكي كتب السيرة أنه هاجر الهجرتين إلى الحبشة ولم يعد إلا بعد هجرة الرسول إلى يثرب. فكيف شهد انشقاق القمر بمكة وهو بالحبشة.
عرضنا في الجزء الأول من هذا الملف، لبعض الدلائل العلمية والتاريخية التي تسائل قصة “الفيل” كما وردت في المرويات الإسلامية.
ونواصل في هذا الجزء الثاني، تقديم مزيد من الأدلة والأسئلة حول ذات القصة، لنواصل بعدها، مع حكاية “انشقاق القمر” كما تقدمها كتب السيرة.
– قصة لجوء المهاجرين الأوائل إلى الحبشة فرارا من بطش القرشين، ومناظرتهم في حضرة النجاشي لمن لحق بهم ليردهم إلى مكة، وما تخلل تلك المناظرة من إيراد الدلائل على صحة الدين الجديد، واستشهادهم بسورة مريم لدغدغة مسيحية النجاشي، وإهمالهم البتَّة ذكر قصة الفيل، مع أنها أعظم شاهد على نبوة الرسول، خصوصا أن أبرهة كان أكبر عدو لوالد النجاشي وانقلب عليه لحكم اليمن، ودخل معه في حروب متعددة استطاع خلالها الانتصار عليه والاستفراد بحكم اليمن، فكان الأولى أن يكون هذا الدليل هو أول ما ينبغي المصير إليه والاستشهاد به. لكن شيئا من ذلك لم يحدث، ربما لأن مخرجي ملحمة قصة الفيل والطير الأبابيل غاب عنهم المثل القائل: “إذا كنت كذوبا، فكن ذكورا”.
– سورة الفيل في القرآن لم تتعرض لذكر تفاصيل القصة ولا زمانها ومكانها وشخصياتها، بل اكتفت بدعوة الله للمؤمنين والكفار إلى الاعتبار بهلاك أصحاب الفيل، والاعتداد بكمال القدرة الإلهية في إهلاك المعتدين. سنة قرآنية تكررت في آيات كثيرة تدعو المخاطبين إلى التأمل في أحوال الأولين وما حاق بهم جراء معاندتهم لأمره ورفضهم لشريعته يقول تعالى: “أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ”.
وقال في سورة الأعراف: “وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ”.
فالمقصود أن مثل هذه الآيات وغيرها، الغرض منها هو التأسي والاعتبار، وليس المبالغات الحكواتية والصناعة الدرامية، التي تكفل بها كبار مخرجو السيرة النبوية، وقد يكون للقصة سند تاريخي معروف منتشر بين المخاطبين بالأمر القرآني، وقد لا يكون معروفا، لأن العبرة بالمعنى وليس الوقوف على ظواهر الأخبار، وقصة أصحاب الفيل كما جاءت في كتاب “تاريخ هرقل” للمؤرخ الأرمني “سيبيوس”، الذي عاش زمن البعثة المحمدية وأول من ذكر الرسول محمد باسمه خارج المصادر العربية، تعرض لذكر قصة أصحاب الفيل، لكنه ليس فيل أبرهة الحبشي بل فيل “بهرام” الفارسي الذي هدد به الدولة الأرمنية لموالاتها البزنطيين، فكان رد حاكم أرمنيا “موشق الثاني” برسالة تتشابه مضامينها مع سورة الفيل يقول فيها: “لن يكون الملك إلا لمن أراد الله يعطيه لمن يشاء، يجب أن تأسف على نفسك وليس علينا، أعرف أنك متبجح، وليس بالله تثق، ولكن بشجاعة وقوة فيلتك. أقول لك الآن أنه إذا أراد الله غدا صباحا: محاربون شجعان، أرواح حارسة تحيط بك، تهيج عليك وعلى عدد فيلتك مثل غيوم السماء الهوجاء، تقصفك من فوق بروق ورعود رهيبة، تهاجمك أبطال مسلحة، محاربون سماويون يخترقون جيشك كالصواعق الملتهبة بالنار، تنزل من السماء على الأرض، ثم تحرق الأخضر واليابس. ولأنه لو أراد الله لبعث عليك ريحا عاصفة تحمل قواتك مثل الغبار تطير في السماء”. رسالة موشق الثاني مضمنة بمخطوطة كتاب “تاريخ هرقل” بمكتبة ماتندران بالعاصمة الأرمنية يرفان تحت الرقم العلمي 2639.
وقد حاول الكثير من المرقعين رد الرسالة وكتاب المؤرخ “سيبيوس” كله، لاعتبار أن أول مخطوط للكتاب يرجع للقرن السابع عشر، في حين أن مؤلفه عاش في القرن السادس الميلادي، واستدلوا بأقوال بعض الباحثين في التاريخ الأرمني الذين زعموا أن مؤلف الكتاب مجهول وقد لا يصح نسبته للمؤرخ الأرمني “سيبيوس”، لكنهم تغافلوا عن كون نفس الباحثين، لم ينفوا الكثير من الوقائع والأساطير التي حواها الكتاب، وخاصة الأحداث التاريخية المتطابقة مع الوقائع الحقيقية التي وردت في كتب أخرى، وأبقوا على فرضية أن يكون مؤلفه قد عاصر “سيبيوس”. كما لم ينتبهوا أن بهرام انهزم فعلا هو فيلته سنة 691م في حربه مع البزنطيين على الحدود مع أرمنيا عندما كان عمر الرسول عشرين سنة، ولا يبعد أن القرآن أورد القصة كما أرَّخ لحادث انتصار الروم على الفرس في سورة الروم.
وحتى لو افترضنا جدلا أن الكتاب مليء بالأساطير، فهذا يؤكد أن قصة الفيل كانت منتشرة في الجزيرة العربية، وأن القرآن ذكرها، كما ذكر قصة عاد وثمود وأصحاب الكهف… ولم يَدُرْ بخلد رسول الإسلام ما سيلصق بالقصة فيما بعد من تهويل وتلفيق.
ونظرا لهذه الطعون الموجهة للقصة، فقد حاول بعض الشيوخ ترقيعها، فادعى “محمد عبده” في تفسيره المنار، أن المقصود بالطيور الأبابيل، هي الجراثيم والفيروسات التي سلطها الله على الجيش الغازي وليست طيورا حقيقية، يقول في تفسيره: “ويجوز الاعتقاد بأن الطير المذكور في السورة من جنس البعوض، أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض، وأن تكون هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس، الذي تحمله الرياح فيعلق بأرجل هذه الحيوانات، فإذا اتصل بجسده دخل في مسامه، فأثار تلك القروح التي تنتهي بإفساد الجسم وتساقط لحمه، وإن كثيراً من هذه الطيور الضعيفة يُعَد من أعظم جنود الله في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر، وإن هذا الحيوان الصغير الذي يسمونه الآن بالميكروب لا يخرج عنها”.
كما حاول بعض القرآنيين تفسيرها تفسيرا لغويا بعيدا عما حيك حولها من أساطير، فادعوا أن أصحاب الفيل هم أصحاب الخطأ، معتمدين في ذلك على ما أورده ابن منظور في لسان العرب في مادة “فيل”: (فال رأيه: أي أخطأ وضعف… ورجل فيل الرأي: أي ضعيف الرأي) وبنوا على هذا التفسير اللغوي اعتقادهم أن المقصودين بسورة الفيل هم المخطئون من قوم لوط، فالعقاب بحجارة من سجيل لم يذكر إلا في موضعين اثنين من القرآن: سورة هود والحِجر وكلها تتكلم عن عذاب قوم لوط.
إن كل متعصب للرواية الحديثية ودراما السير والمغازي، والرافض لمعقول العقول والمعطيات التاريخية والجغرافية، لن نجد له جوابا غير المثل المغربي “ما بعيدة غير تادلة”؛ فها هي صنعاء ومكة موجودتان، والأفيال الإفريقية لسوء حظكم لازالت موجودة، وحتى أموال المتحمسين لنشر الدعوة الإسلامية والمنفقين عليها بسخاء موجودون… فلِم لا تعيدوا نفس الرحلة بنفس الوسائل لتبرهنوا على صحة الواقعة؟
فإن لم تفعلوا، ولن تفعلوا، فاعلموا أنه لا وجود لقصة الفيل كما دَبَّجتها المراجع الإسلامية وكتب التفسير، وأن الكثير من التراث راسخ رسوخ قصة الفيل رغم أنه متهافتٌ، ملفقٌ، مكذوب.
● انشقاق القمر
المعجزة في مدلولها وسياقها والغرض الذي وُجدت من أجله، هي دليل واضح على تأييد صاحبها والبرهنة العلانية العامة على صدق ما يدعيه، ومن شروط المعجزة أن تكون خارقة للعادة، يستدعيها صاحبها متى ما أراد لإفحام طالبيها. ومقاصد المعجزة هي إقناع عموم الناس بفحوى الرسالة والدلالة على صدق المُرسِل والرسول، وقد ارتبط مفهوم المعجزة بالتراث الديني، وادعاها الأنبياء أو نسبها إليهم المؤمنون برسالتهم، للتدليل على صحة ما جاؤوا به من عقائد وشرائع، ومعجزات رسول الإسلام المادية منفية عنه بصريح القرآن يقول تعالى في سورة الإسراء: “وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون”؛ وبصريح السنة، إذ يقول رسول الإسلام: “ما من الأنبياء من نبيٍّ، إلا و قد أُعطَى من الآيات ما مِثلُه آمنَ عليه البشرُ، وإنما كان الذي أُوتيتُه وحيًا أوحاه اللهُ إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرَهم تابعًا يومَ القيامةِ”، صحيح البخاري.
لكن القارئ للتراث الاسلامي يعجب أشد العجب من الإسهال المزمن الذي أصاب رواة النوادر والعجائب في وضع أحاديث المعجزات، كتكثير الطعام القليل، المقتبس من المعجزات المسيحية، وحنين الجذع والأشجار للرسول، ومخاطبته الحجر والإبل، وردِّ العيون المفقوءة إلى محاجرها، وقوة جِماعه، واستظلاله بالغمام، وتحريك الأشجار من أماكنها لستره أثناء قضاء حاجته… وغيرها من المعجزات التي نُسِبت للرسول بعد مئتي سنة من وفاته. معجزات تكلف برواية أغلبها ثلاثة رواة: أنس بن مالك، جابر بن عبد الله، وأبو هريرة، ولن نستفيض بذكر الاتهامات التي كِيلت لأنس بن مالك وأبي هريرة، واتهامهما بالكذب والوضع بغية نصرة الدين، خاصة بعدما توسعت الفتوحات ودخل في الإسلام الكثير من أصحاب الديانات والثقافات المختلفة، الذين كانوا يفتخرون بذكر معجزات أنبيائهم وصالحيهم، ويتعجبون من انعدام معجزات رسول الإسلام.
وسنعرض لأهم معجزة اختُرِعت في الاسلام وألحِقت قسرا بتفسير آيات القرآن وكل شروط المعجزة منتفية عنها، وهي معجزة انشقاق القمر. وفيما يلي سرد لأصح الروايات التي تكلمت عن الحادثة:
– رواية عبد الله بن عباس: قال: «انشق القمر في زمان النبي (ص)» البخاري
– رواية أنس بن مالك: قال: «سأل أهل مكة أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر». وفي رواية أخرى له: «انشق القمر فرقتين» البخاري
– رواية جبير بن مطعم: قال: «انشق القمر على عهد رسول الله – (ص) فصار فرقتين: فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل، فقالوا: سحرنا محمد، فقالوا: إن كان سحرنا؛ فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم» الترمذي
– رواية عبد الله بن عمر: قال: في تفسير قوله تعالى “اقتربت الساعة وانشق القمر”
قد كان ذلك على عهد رسول الله (ص) انشق فلقتين: فلقة من دون الجبل، وفلقة خلف الجبل، فقال النبي (ص): اللهم اشهد» مستدرك الحاكم
– رواية عبد الله بن مسعود: قال: «انشق القمر في عهد رسول الله (ص) فرقتين: فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه. فقال رسول الله (ص): اشهدوا». وبلفظ آخر: «انشق القمر ونحن مع النبي فصار فرقتين، فقال لنا: اشهدوا، اشهدوا» صحيح البخاري
عند تمحيص هذه الروايات الصحيحة، تسقط أول فرية أُلصِقت بها، وهي دعوى التواتر، لأن الحادثة رواها خمسة من الصحابة، ولم تتواتر إلا في عهد التابعين الذين لم يشهدوا المعجزة، ثم تتساقط بعدها باقي أوراق التوت لتعري الزيف والكذب، فالمعجزة حصلت بالليل والناس نيام فأي مغزى ومقصد من معجزة لا يشهدها أغلب الناس؟!!
ثم إن تتبع سِير رواة هذه الآثار توقف الدارس على كمية الخداع الذي لا يقبله إلا من عطل عقله تعطيلا تاما، ورضي أن يُقاد كما تقاد الدواب؛ فأنس بن مالك، راوي الحديث الذي أخرجه البخاري، عندما وقعت الحادثة المزعومة في شعاب مكة، كان بالمدينة طفلا لم يتجاوز الخامسة من عمره، وعبد الله بن عباس لم يكن قد وُلِد بعد، و… جبير بن مطعم الذي شهد الحادثة العظيمة، ظل على شركه حتى أسلم مُكرها عام الفتح، بعد 13 سنة من مشاهدته لأعظم معجزة مادية على الإطلاق. و… عبد الله بن عمر كان طفلا لم يتجاوز السنة الخامسة من عمره، فلم يتبق غير… عبد الله بن مسعود، الذي تحكي كتب السيرة أنه هاجر الهجرتين إلى الحبشة ولم يعد إلا بعد هجرة الرسول إلى يثرب. فكيف شهد انشقاق القمر بمكة وهو بالحبشة. إنه ضعف ذاكرة الرواة وإهمالهم للقاعدة الذهبية “إذا كنت كذوبا فكن ذكورا”.
إن الآية الأولى من سورة القمر لا تتكلم إطلاقا عن معجزة أو حادثة خارقة، ولكنها تتكلم عن الأهوال التي تسبق يوم القيامة، وهو رأي عدد لا بأس به من علماء المسلمين، الذين أعملوا القليل من الفهم، ولم تنطلِ عليهم جزافيات المحدثين والمفسرين وكل رافع لشعار النقل قبل العقل.
إن الوقوف على حادثتين من التراث الإسلامي رَسَخَتَا في المِخيال الإيماني، واتُّخِذتا أساسا لبناء الإيمان واليقين، يبين هشاشة وضعف البناء كله، ويطرح أسئلة لا تنتهي عن التركة التراثية بِرُمَّتِها، ويكشف حجم المصائب الثاوية في بطون الكتب الصفراء، فمتى نمتلك الجرأة لنقد المقدس؟ والشجاعة للتخلص من الخرافات والأساطير؟