“جهنم” في الديانات السماوية 2/2
منذ بدايات الإنسان كانت فكرة جهنم حاضرة، نجد ذلك في أقدم النصوص البشرية المرتبطة بالمعتقدات. ثم شيئا فشيئا، تطورت من حضارة إلى أخرى، إلى أن ظهرت الديانات السماوية. كان ظهور فكرة جهنم في اليهودية خجولا أول الأمر، ثم أخذت تتأثر بالحضارات المجاورة. بدأت الفكرة تتبلور أكثر مع ظهور المسيحية، ثم كما كان لها حضور بارز في العقيدة الإسلامية أيضا.
منذ بدايات الإنسان كانت فكرة جهنم حاضرة، نجد ذلك في أقدم النصوص البشرية المرتبطة بالمعتقدات. ثم شيئا فشيئا، تطورت من حضارة إلى أخرى، كما رأينا في الجزء الأول، إلى أن ظهرت الديانات السماوية. كان ظهور فكرة جهنم في اليهودية خجولا أول الأمر، ثم أخذت تتأثر بالحضارات المجاورة. بدأت الفكرة تتبلور أكثر مع ظهور المسيحية، كما كان لها حضور بارز في العقيدة الإسلامية أيضا.
ذلك ما سنخوض فيه في هذا الجزء الثاني والأخير، في ملف ننسج من خلاله تاريخ تطور فكرة الجحيم لدى الإنسان.
الجحيم في اليهودية
الحيز المهم الذي شغلته جهنم في الديانة المسيحية التقليدية، يحمل على الاعتقاد بأن الأمر سيكون تتمة لما كان عليه العالم التوراتي، لكن شيئا من هذا لمن يكن. ففكرة جهنم إلى حدود القرن الثالث قبل الميلاد، كانت مغيبة تماما في العهد القديم.
ثم رويدا رويدا، بدأ التفكير في احتمال وجود عقوبات تفرض على الأشرار من قبل الله، تظهر بعد القرن الثالث قبل المسيح. والواقع أن هذا ليس وليد تطور داخلي في الفكر اليهودي، إنما كان بتأثير من الحضارات الأخرى.
يشير كتاب “تاريخ جهنم” لصاحبه “جورج بينوا” الذي تطرقنا إليه في الجزء الأول، والذي نعتمد على معطياته في هذا الملف، إلى أنه من بين جميع ديانات الشرق الأدنى، كانت ديانة العبرانيين لفترة طويلة من الزمن، الأكثر مادية. يمكن أن نستشف ذلك من أقدم أسفار التوراة، التي يبدو من خلالها أن الحياة تنتهي عند الموت، ويفترض أن تستقر بعده النفوس في الشيول[1].
فكرة جهنم في اليهودية بدأت تظهر جليا في سفر “أخنوخ” الذي يعود تاريخه إلى القرن الأول قبل الميلاد، حيث نقرأ أن البطريرك “أخنوخ” حملته الملائكة إلى العالم الآخر مجتازا نهر النار وجبل الظلمات، حتى وصل إلى مدخل الجحيم، وهو هاوية قائمة إلى الغرب بالقرب من أعمدة نيران السماء.
الشيول هذا، مكان مقفل بإحكام من خلال باب متين، ترقد فيه النفوس فاقدة الحركة والإحساس والوعي، ولا أمل لها في القيامة… ليس هذا بأمر سارّ، إذ أن الأحياء، أخيارا وأشرار، سيلاقون مصيرا وحيدا.
على أن الله كان يعاقب الأشرار في الأرض بطريقة جماعية، إذ يسمح بالاحتلال الأجنبي والسبي والمجاعة والطاعون وغيره، ثم مع بداية ظهور الأنبياء، وفق جورج بينوا[2]، في القرن الثامن قبل الميلاد، تحول العقاب من جماعي إلى فردي، وظهر ما يسمى بـ”المسؤولية الشخصية”.
يقول النبي “حزقيال” في السفر الذي كتبه، في الفصل 18، “إن الذي يخطئ هو الذي يموت. ولا يتحمل الابن خطأ الأب، ولا الأب خطأ الابن”.
اقرأ أيضا: فكرة “الشيطان” في اليهودية 2\4
فكرة جهنم في اليهودية بدأت تظهر جليا في سفر “أخنوخ” الذي يعود تاريخه إلى القرن الأول قبل الميلاد، حيث نقرأ أن البطريرك “أخنوخ” حملته الملائكة إلى العالم الآخر مجتازا نهر النار وجبل الظلمات، حتى وصل إلى مدخل الجحيم، وهو هاوية قائمة إلى الغرب بالقرب من أعمدة نيران السماء.
أما داخل جهنم هذه، فنجد صنفين من الموتى ينتظرون العذاب، الخطأة الذين عاشوا تعساء ويلاقون عذابات مخففة، والخطأة الذين عاشوا سعداء وتكون عذاباتهم أبدية.
ثم مع العهد الجديد، ظهر نوع من التفصيل حيال جهنم، فنجد في إنجيل مرقس مثلا: “إذا شككتك عينك فاقلعها، فخير لك أن تدخل ملكوت الله وأنت أعور من أن تلقى بعينيك الاثنتين في جهنم، حيث الدود لا يموت والنار لا تطفأ”. ومن هنا أصبح الدود والنار عنصرين أساسين في جهنم.
الجحيم في المسيحية
فكرة الجحيم كما تطورت في اليهودية، هشة، وعلى أسسها راح التقليد المسيحي، الشعبي من جهة، واللاهوتي من جهة أخرى، يبني فكرة جهنم، لغايات أخلاقية وعقائدية. على أن المفهوم الشعبي ظهر أولا، فيما لم يظهر اللاهوتي منه إلا في مرحلة ثانية مع آباء الكنيسة.
منذ العصر الوسيط، بدأ الرهبان يضعون بصماتهم على مفهوم جهنم بكتاباتهم عن قصص رحلات تمت إلى هناك، اتخذ بعضها طابعا إيحائيا، فيما دونوا بالمقابل قائمة بالخطايا التي تستوجب الهلاك والعذابات المناسبة لها.
بالنسبة للمسيحية، فقد رأى البعض أن جهنم مكان للتطهير فحسب ولا حاجة لبقائه عندما يتطهر الأشرار من شرورهم، فيما رأى البعض الآخر أن لجهنم فائدتين، الأولى مادية والثانية أبدية، تؤديان غاية واحدة هي التهديد بأقصى العقاب حتى يحتفظ المؤمنون بالطريق القويم.
لكن اللاهوتيين المدرسيين، بين القرنين 11 و13 للميلاد، حاولوا عقلنة هذا المفهوم، وتحليل شوائب التناقضات التي علقت به في الفهم الشعبي.
هكذا، رأى البعض أن جهنم مكان للتطهير فحسب ولا حاجة لبقائه عندما يتطهر الأشرار من شرورهم. ويورد كتاب “تاريخ جهنم” عظة دينية نقرأ فيها ما يتضمن معنى بالخلاص النهائي للشيطان: “إن الله المتجسد هو مصدر كل ما قيل، منجيا الإنسان من الرذيلة وشافيا صانع الرذيلة نفسه”.
بالمقابل رأى البعض الآخر أن لجهنم فائدتين، الأولى مادية والثانية أبدية، تؤديان غاية واحدة هي التهديد بأقصى العقاب حتى يحتفظ المؤمنون بالطريق القويم.
اقرأ أيضا: فكرة “الشيطان” في المسيحية 3\4
في الأخير استقرت المسيحية على صيغة شبه نهائية لجهنم، كان راسم ملامحها القديس “أغسطينوس”. جهنم هذه، وفق جورج بينوا، أبدية، يدخلها كل الوثنيين ضحايا الخطيئة الأصلية، وكل الأولاد الذين ماتوا ولم يتقبلوا سر العماد وكل المسيحيين الذين أمعنوا في الخطيئة، ويتألم الهالكون هؤلاء في قبورهم حتى نهاية العالم.
ومع نهايته، ستكون النار هي أساس العذاب، وهي مادية تحرق الجسم والنفوس دون أن تفنيها. لكن “أغسطينوس” يقول بالمقابل إن هناك نارا مطهرة ستكون مؤقتة للذين ليسوا في غاية الصلاح، ونارا أبدية، ستكون أقل حدة، للذين ليسوا في غاية الشر.
الجحيم في الإسلام
يرى كتاب “تاريخ جهنم” أن رؤية القرآن لجهنم مصممة بتشابه واضح مع عناصر الميثولوجيا الشرق أوسطية والعقائد اليهودية والمسيحية. غير أنه، إذا كان العهد الجديد غامضا حيال جهنم، ما أثار نقاشا واسعا في المسيحية حولها، فإن التعليم القرآني جاء بسيطا، حسيا ودقيقا، يشجع على إيمان اجتماعي متين.
على أن التعابير المجازية التي وضعت لتوحي بأشياء يتعذر التعبير عنها، كانت فيما بعد مصدر حيرة حينما وجد علماء الدين أنفسهم أمام ضرورة تفسيرها، يقول جورج بينوا. فكلما وردت في القرآن صورة دقيقة، أثار تفسيرها الرمزي من قبل المفتين مشاكل في غاية الدقة، زاد طينها بلة سلسلة طويلة من الأحاديث والقصص الدينية والتفاسير والكتابات.
مسألة الزمن لم تحدد بدقة في الإسلام، كما أن المستقبل ليس محددا بخصوص جهنم، فبينما تؤكد مدرسة ابن صفوان مثلا أن جهنم ستزول ذات يوم ككل حقيقة مخلوقة وأن الله سيستعيد وحدته المطلقة، تقول مدارس أخرى إن العذاب في جهنم خالد.
لكن الخطوط العريضة لجهنم في التصور الإسلامي، حيث يلاقي الفرد مصيره، واضحة وثابتة، إذ تشخص نفس المتوفى بعد الموت أمام ملاكين يسألانها عن معتقدها، فإن لم تستطع الإدلاء بشهادتها، يعرضانها لمعاملة سيئة ويريانها مقرها المستقبلي في جهنم، وهذا ما يسميه البعض “عذاب القبر”، وهناك من لا يؤمن به ويقر بعدم وجوده على أساس أن عقيدة الإيمان في الإسلام تنبني على فكرة “اليوم الآخر” الذي يحاسب فيه كل مؤمن على أعماله في الدنيا، وأن أي عقاب قبل يوم الحساب يتناقض مع هذا التصور المحوري في العقيدة الإسلامية.
ثم في نهاية العالم، تقوم القيامة، إذ ينفخ “إسرافيل” في البوق، فيحشر جميع الناس في ساحة فسيحة، ثم يحاكم الله كل إنسان علنا بعد الاطلاع على سجله الشخصي من الأعمال، ويسمى بامتحان الميزان، كفة بالخطايا، وكفة أخرى بالأعمال الحسنة، وأي الكفتين ترجح، تقرر مصير الإنسان.
اقرأ أيضا: فكرة “الشيطان” في الإسلام 4\4
يمكن للميت لو حكم عليه بالهلاك أن يأمل رحمة من عند الله. ويحشر الهالكون في جهنم بواسطة 70 ألف ملاك، ويلعب الرقم 7 وأضعافه دورا أساسيا هنا، فلجهنم 7 أبواب و7 طوابق وعند المدخل ينادي ملاك 70 مرة، كما أن لجهنم أسماء عدة، من بينها النار وسقر، وجهنم نفسه.
لجهنم في الإسلام أبعاد كبيرة، فإذا ألقي بحجر من أعلى طابق، استغرق هبوطه إلى القعر 70 عاما، وتتضاعف الحرارة 70 مرة من كل طابق للطابق الذي يوجد أسفله. وتحتوي على شتى صنوف العذاب، الأساسي فيه هو النار، ومن ارتكب أكبر الخطايا يعاقب في الطبقات السفلى (الدرك الأسفل من النار).
على أن مسألة الزمن لم تحدد بدقة، والمستقبل ليس محددا بخصوص جهنم، فبينما تؤكد مدرسة ابن صفوان[3] مثلا أن جهنم ستزول ذات يوم ككل حقيقة مخلوقة وأن الله سيستعيد وحدته المطلقة، تقول مدارس أخرى إن العذاب في جهنم خالد.
لقراءة الجزء الأول: ماذا تعرف عن “جهنم”؟ فكرة الجحيم ما قبل الديانات السماوية 2/1