بين الجابري والعروي.. سجال من بعيد!
أول ما يمكننا ملاحظته بخصوص هذا السجال، أنه لا يخلو من بعض العبارات التي يمكن وصفها بـ “بالقاسية” في حق بعضهما البعض من قبيل وصف الجابري الصريح للعروي بكون “تفكيره مهزوزا ومقطوع الصلة أو يكاد بالواقع”.
بنفس القسوة، يرد العروي قائلا: “ذلك كلام رجل لا يعي ما يقول”.
إن أي سجال بين رواد الفكر المغربي والعربي المعاصر يشكل، من الناحية الفكرية، قيمة في حد ذاته. لذلك فإن نقل أجواء سجال حصل خلال السبعينات، من بعيد وبشكل غير مباشر، بين محمد عابد الجابري وعبد الله العروي، سيقربنا من طبيعة النقاش الذي كان يشغل النخب آنذاك، مغربيا وعربيا، حول إشكالات وقضايا العالم العربي. كل ذلك كان من منظور إصلاحي، وطني، وقومي غيرةً على أمة كان لها ما كان، وآلت إلى ما آلت إليه.
السجال إذن بدأ “جابريا”، وبالضبط في الخامس من ديسمبر 1974. حينها، سيجد قراء تلك الفترة أنفسهم أمام مقال سجالي للجابري في الصفحة الثقافية لجريدة “المحرر” المغربية، نُشر أيضا في مجلة “اليوم السابع” الفلسطينية. المقال كان يحمل عنوان: “مع الأستاذ عبد الله العروي في مشروعه الإيديولوجي”. أول ما يثير الانتباه هو العنوان الفرعي الذي اختاره الجابري في قراءته لمشروع العروي، وكان حرفيا على الشكل التالي: “إشكالية تفتقد أهم عناصرها!”.
أول ما يتبادر إلى ذهن أي قارئ لهذا العنوان الفرعي هو السؤال التالي: عن أية إشكالية يتحدث الجابري؟ وبأي معنى تفتقد أهم عناصرها؟ سنترك الجواب عن هذه الأسئلة وامتداداتها إلى مقال لاحق، ونكتفي فقط، في هذا المقال، بعرض صورة عامة مختصرة عن طبيعة السجال بين الرجلين خلال تلك الفترة.
أول ما يمكننا ملاحظته بخصوص هذا السجال، أنه لا يخلو من بعض العبارات التي يمكن وصفها بـ “بالقاسية” في حق بعضهما البعض، من قبيل وصف الجابري الصريح للعروي بكون “تفكيره مهزوزا ومقطوع الصلة أو يكاد بالواقع”. بنفس القسوة، يرد العروي قائلا: “ذلك كلام رجل لا يعي ما يقول”. يستمر الجابري بالقول: “إن العروي يستند إلى عموميات، مجرد عموميات” ليس إلا. ردود العروي أيضا لا تنقصها الصراحة واصفا الجابري بكونه يكرر فقط ما يقوله الزعماء دون نقد أو تأويل، فهو “يسبح في بحر من الإيديولوجيا ككل المتفقهين، ومن المستحيل أن يستوعب الفقيه مفهوم الإيديولوجيا”.
يُصدر الجابري حكما جازما على العروي بالقول: “إن طرح الاستاذ العروي للمشكل هنا طرح خاطئ.. غير منهجي، غير علمي، غير ماركسي”، وبنفس الحزم والجزم يرد العروي على الجابري معتبرا أنه وقع تحث تأثير الإنتماء إلى إيديولوجية سياسية جعلته يرى الأشياء طبقا لذاته وليس طبقا لذاتها. يقول العروي في هذا الصدد: “كم من ناقد لي كدّ ليجعل مني مُنظّر الليبرالية العربية. ماذا يقول هؤلاء اليوم وهم يرون ما حدث في أوروبا الشرقية وفي البلاد العربية التقدمية؟ من استنطق الأحداث، ومن اكتفى بتأويل النصوص ومعارضة بعضها ببعض؟”.
يتساءل الجابري مستنكراً: “هل يقبل العروي بوعي التبعية الثقافية؟ أليس وعيه هنا مسلوبا؟”، يستمر العروي في وصف الجابري بعدم الوعي بما يكتب قائلا: “لو كان واعيا، لأدرك أن شعار الاشتراكية للديمقراطية وبالديمقراطية، وهو الشعار الذي تبناه التقرير الإيديولوجي الذي صاغه الجابري في مؤتمر حزبه. هذا الشعار يقول عنه العروي: “هذا هو ما يسميه الجميع الديمقراطية الاجتماعية وأن لا أصالة ولا انفراد في ذلك”، وبالتالي فعن أي استلاب أو تبعية ثقافية يتحدث؟
يستمر السجال وتستمر معها العبارات. يصف الجابري العروي بالنخبوية لكونه يحمل مفهوما برجوازيا للنخبة، مؤكدا أن النخبة الحقيقية هي “الطليعة الفكرية المناضلة والمرتبطة بالجماهير، والساعية إلى تغيير عقليتها، لا نخبة أبحاث ودراسات كما هو الشأن عند العروي”. يعود العروي من جديد إلى فكرة تناقض الجابري فيما يكتب ويقول: “لو كان واعيا، لأدرك أن ما أقوله عن النخبة ودورها التثقيفي هو بالضبط ما تبناه تلقائيا المؤتمر الاستثنائي عندما قرر إنشاء مدارس للأطر الحزبية في كل جهات المغرب”.
يتساءل الجابري مرة أخرى وباستنكار: “من يخدم العروي، موضوعيا، عندما يطلب من المثقفين الانعزال والاشتغال بالنقد الإيديولوجي؟” و “هل تريد الفئات الحاكمة أفضل من هذا الاستنتاج؟”.
يجيب العروي ملاحظا عدم أدراك الجابري، من جديد، لتناقضاته، ويرد: “لو كان واعيا، لأدرك التناقض بين حالته الشخصية، هو الذي يقدم نفسه كمفكر ثوري ملتزم، وحالة الحصار التي أعيشها أنا رغم أني، حسب تحليله، أخدم موضوعيا الطبقة الوسطى”.
حاول الجابري في الأخير التخفيف من نقده اللاذع عندما قال: “إن الأستاذ العروي مفكر عربي يكتب عن معاناة وعن اطلاع”. لكن قلمه استدرك وكتب: “ولو أن معاناته معاناة ذهنية فقط، واطلاعه غربي أكثر منه عربي”.
رفض العروي ذلك منتقدا الجابري وواصفا نفسه بالقول: “أنا لا أستنبط الأفكار من المطلقات، وإنما أرصد وأؤول ما يفعله العرب، لاسيما الزعماء، دون الاكتفاء بما يقولون ويكررون، في حين أنه لا يتجاوز النقل والشرح”.
قد يبدو للبعض أن هذا السجال الذي وقع خلال السبعينات أصبح الآن متجاوزا. لكن الأمر ليس كذلك، حين نعرف أن الجابري أعاد نشر مقالته النقدية سنة2003 ، مع تقديم مقتضب لم يُظهر فيه أدنى تراجع عن ما ثم قوله، بل قام فقط بتوضيح السياق التاريخي الذي جاء فيه ذلك النقد. نفس الأمر يمكن قوله عن العروي عندما ترجم كتابه “الإيديولوجيا العربية المعاصرة” في التسعينات، وأصدر خواطر الصباح سنة 2003، وضمّنها تلك التعليقات التي أوردناها في هذه المقالة حرفيا في العبارات التي وضعناها بين مزدوجتين، مبرزا رأيه الواضح فيما ذهب إليه الجابري من تأويلات حول مشروعه. تلك التأويلات التي دفعت بالجابري إلى اعتبار إشكالية العروي تفتقد لأهم عناصرها، وذلك من خلال وقوفه عند مناقشة المفاهيم الأساسية التالية: الليبرالية، التاريخانية، النخبة والسلفية. هذه المفاهيم التي كان ومازال الجدل مستمراً حول كيفية تَمثّلها والتموقف منها، كما يظهر ذلك من خلال هاذين المشروعين الفكريين الرائدين، وفي مشاريع أخرى أيضا.
سنعود إلى هذه المناقشة “المفاهيمية” وآراء العروي حولها لاحقا.