محمد العربي المساري… أيقونة الصحافة المغربية!
بين السياسة والنقابة والدبلوماسية والثقافة والإعلام والتأليف ومجالات عديدة، كانت حياة المساري، حكاية طويلة، غنية بالأحداث ومتفردة… كما نتابع في هذا البورتريه.
يعدّه عدد من الصحافيين في المغرب، مدرسة… كما يقدمه الإعلامي الإذاعي محمد الغيداني في كتابه: “للإذاعة المغربية أعلام”، كان “مدرسة في الحقل الصحفي والثقافي والسياسي المغربي، كرس مفهوم ثقافة القيم، وجعل من الدبلوماسية أمانة ورسالة حضارية، ومن الإعلام رسالة تقوم على قيم الحرية والمسؤولية، سهر على أن تكون السلطة الرابعة، سلطة إعلام لا إعلام السلطة…”.
باختصار، إنه محمد العربي المساري، السياسي والدبلوماسي والمثقف والصحافي والمؤرخ. في هذا البورتريه، نخوض في بعض من سيرة حياته، حياة واحد من مؤسسي المشهد الصحافي في المغرب.
في يوم صيفي من عام 1936، وتحديدا في الثامن من يوليوز، ولد محمد العربي المساري بمدينة تطوان، التي كانت ترزح حينذاك تحت نير الاستعمار الإسباني.
نشأ المساري في منطقة تجمع بين القوى المتصارعة في أطماعها على المغرب. إحدى مظاهر هذا الصراع، تأسيس مؤسسات إعلامية تعبر عن مصالح هذه القوى؛ ثم في وقت لاحق، ظهرت أيضا صحف تعبر عن التوجهات الوطنية المناهضة للاستعمار.
الحديث عن تاريخ الصحافة في المغرب لا يستقيم دون الحديث عن التجارب الأولى التي بلورها شماله في هذا الصدد. بعض المصادر تشير إلى أن أول جريدة صدرت بسبتة المحتلة باسم “المتحرر الإفريقي” عام 1820، ثم عام 1889 صدر العدد الأول من جريدة “المغرب” بطنجة، ليليها ظهور جريدة “السعادة” بذات المدينة عام 1904.
ظهور الصحافة بالمغرب، لم يكن ليمر دون إحداث أثر بالغ في نحت شخصيات البعض وتوجهاتها الفكرية، وربما المهنية كذلك. محمد العربي المساري كان واحدا من بين هؤلاء. كان واحدا من الرعيل الأول للصحفيين المغاربة الذين أسهموا في صناعة ملامح صحافة ما بعد الاستقلال في المغرب.
اقرأ أيضا: عبد الرفيع الجواهري… هذه سيرة أحد أشهر رواد شعر الأغنية في المغرب
بعد أن أتم دراسته، تحول ولعه بالصحافة إلى واقع. اشتغل المساري في الإذاعة المغربية بين عامي 1958 و1964، كمنتج في مرحلة أولى ثم كسكرتير قسم الإنتاج في مرحلة ثانية، واشتهر بتقديمه لعدد من البرامج الفنية والثقافية.
لعقود طويلة كانت الصحافة الشغل الشاغل لمحمد العربي المساري، بل وناضل من أجل حريتها وترسيخ قيمها، وكان أول نقيب للنقابة الوطنية للصحافة المغربية في صيغتها الجديدة.
أحد البرامج في هذا الصدد، برنامج كان يعنى بموسيقى الشعوب، قدمه صبيحة كل أحد يستعرض فيه الخصوصيات الموسيقية لكل دولة كانت لها سفارة في المغرب. العربي المساري كان يزور هذه السفارات بالرباط لتزويده بالإرث الموسيقي للدول التي تمثلها، فكان يضعها في قالب إذاعي، يعرف فيه المستمعين المغاربة على الموسيقى العالمية.
برنامج آخر قدمه المساري، نال شهرة واسعة واسمه “أحداث ورجال”، كان يعرض فيه الأحداث التي وقعت في مثل اليوم الذي يقدم فيه برنامجه. السنوات الست التي اشتغل فيها العربي المساري بالإذاعة المغربية، بجانب أسماء بارزة في المشهد الإعلامي المغربي حينذاك، مثل عبد الجبار السحيمي وعبد الرفيع الجواهري ومحمد التازي وغيرهم كثير، لم تكن إلا نقطة انطلاقة لمشوار صحافي طويل.
عام 1964، سيودع الإذاعة المغربية ليلتحق كصحفي بإحدى الجرائد البارزة حينذاك في المشهد الإعلامي المغربي، جريدة “العلم”، الناطقة باسم حزب الاستقلال. مشواره في “العلم”، هذه المرة، دام طويلا، بحيث إنه تدرج فيه من صحفي، إلى رئيس تحرير، ثم أخيرا مديرا للجريدة عام 1982. طيلة هذه السنوات، تمكن محمد العربي المساري من احتلال مكانة مرموقة في الصحافة المغربية، وصناعة اسم لامع فيها.
لعقود طويلة كانت الصحافة الشغل الشاغل لمحمد العربي المساري، بل وناضل من أجل حريتها وترسيخ قيمها، وكان أول نقيب للنقابة الوطنية للصحافة المغربية في صيغتها الجديدة، كما عرف بدفاعه المستميت عن اللغة العربية، وترأس نظير ذلك اتحاد كتاب المغرب لثلاث ولايات بين 1964 و1972.
بجانب مؤلفاته بالعربية، كتب المساري عددا من المؤلفات بالإسبانية والبرتغالية، تناول فيها مواضيع عدة، كتاريخ الحركة الوطنية والعلاقات المغربية الإسبانية وقضية الصحراء والتعددية الثقافية.
بعض من غيرته على العربية، بعض مما جاء في مقال له، كتب فيه: “ينزل الوافد على المغرب، فيقطع عدة كيلومترات منذ خروجه من مطار محمد الخامس، لا يرى إلا لافتات إشهارية ليس فيها حرف عربي واحد، وكأنه في مدينة أسترالية. ويحدث ذلك بفعل فاعل. فهناك شركة إعلانات هي التي تنشر هذا التلوث البصري وتصر عليه…”.
اقرأ أيضا: الفرنكفونية في المغرب، لغة أم سلاح؟ 2/1
بين عامي 1984 و1992، ترأس محمد العربي المساري الفريق البرلماني لحزب الاستقلال، الذي كان عضوا في قيادته منذ 1978، ثم توج مسيرته السياسية، بتعيينه وزيرا للإعلام في حكومة عبد الرحمن اليوسفي، سنة 1998، قبل أن ينسحب بعد سنتين، في صيغة تعديل حكومي، بعدما قدم مشروعا لإصلاح قطاع الإعلام وقوبل بالمعارضة من قبل ما سمي بـ”جيوب مقاومة الإصلاح”، حسب إفادات مقربين منه.
بين السياسة والنقابة والدبلوماسية والثقافة والإعلام والتأليف ومجالات عديدة… كانت حياة المساري، حكاية طويلة، غنية بالأحداث ومتفردة… سفيرا للمغرب بالبرازيل، عضوا مؤسسا للعصبة المغربية لحقوق الإنسان، منسق الفريق المغربي الإسباني للمثقفين، عضوا مؤسسا لرابطة الصحافيين المغاربة الكاتبين بالإسبانية، وأمينا عاما مساعدا لاتحاد الصحافيين العرب، عضو لجنة ابن رشد للحوار مع إسبانيا، وعضو المجلس الإداري لمؤسسة الثقافات الثلاث للمتوسط.
كان أيضا عضوا بلجنة تحكيم جائزة اليونسكو لحرية الصحافة بين 2002 و2003، وترأس لجنة التحكيم للجائزة الوطنية الكبرى للصحافة في 2003، ولجنة جائزة المغرب للآداب سنة بعد ذلك، كما ترأس أيضا اللجنة الوطنية لإصلاح قوانين الصحافة والنشر.
المساري كتب، بجانب مؤلفاته بالعربية، عددا من المؤلفات بالإسبانية والبرتغالية، تناول فيها مواضيع عدة، كتاريخ الحركة الوطنية والعلاقات المغربية الإسبانية وقضية الصحراء والتعددية الثقافية، كما عكف على نشر عدد من المقالات في جرائد عربية ودولية، كـ”الباييس” الإسبانية مثلا.
من بين مؤلفاته، “صباح الخير أيتها الديمقراطية”، “المغرب وإسبانيا في آخر مواجهة”، “إسلاميات أدب المهجر”، “المغرب بأصوات متعددة”، “عوالم مغربية” بالبرتغالية، و”معركتنا العربية ضد الاستعمار والصهيونية” مع عبد الكريم غلاب وعبد الجبار السحيمي، و”قضية الأرض في نضالنا السياسي منذ الاستقلال”.
اقرأ أيضا: ميمون أم العيد: الكل خاسر من الثقافة في هذا البلد، وهذه هي مشاكل الأدب في المغرب 2/1
إضافة إلى “الإسلام في مؤلفات المفكرين العرب في الأميركتين”، “الاتصال في المغرب، من الفراغ إلى المقدرة”، “المغرب بالجمع”، “المغرب ومحيطه”، وآخرها كتاب “محمد بن عبد الكريم الخطابي.. من القبيلة إلى الوطن”.
عن عمر ناهز 79 عاما، وبعد معاناة مع المرض، سيضع الموت في الـ25 من يوليوز 2015، حدا لحياة محمد العربي المساري.
رحيله شكل، حسب شهادات عدد من الصحافيين والسياسيين الذين حضروا جنازته، خسارة كبيرة للحقل الإعلامي في المغرب. كيف لا؟ والمساري كان مؤسسا إلى جانب آخرين، للمشهد الصحافي في مغرب ما بعد الاستقلال، وأيقونةً له على مدى سنوات طويلة.