بين الخضوع والتسليم ومعاكسة الرق… عن مفهوم الحرية في الإسلام
إذا بحثنا عن تعريفات “الحر” و”الحرية” عند مؤلفي المعاجم الاسلامية، فأول ما يلاحظ هو اكتفاؤهم بتعريف الحر بأنه ضد الرقيق. أي أن مفهوم الحرية، ظل كما هو دون تغيير عن معناه القانوني في حقب ما قبل التاريخ.
غير أن الواحدي، النحوي المتوفى سنة 1075ميلادية، حاول تقديم تفسير للحرية من وجهة نظر فقهاء اللغة، فأشار إلى أن اللفظ مشتق من حَر الذي هو ضد البرد؛ لأنّ الرجل الحر يمتلك كبرياء وأخلاقاً حاثة تبعثه على طلب الأخلاق الحميدة.
عكف المسلمون على التمييز بشكل حاسم وصريح بين نمطين من أنماط الحرية: الأول هو الحرية بمعناها الفلسفي والوجودي، وكان يحمل بعدا كلاميا ميتافيزيقيا، والثاني بمعناها الإجتماعي. لذلك، نجد متكلمي الإسلام يعبرون عنهما بمصطلحين يختلف أحدهما عن الأخر: (حرية الارادة) و (حرية الإختيار).
ورغم أن هناك تعريفات مختلفة للحرية، إلا أن هناك مفهوما لها يعني تسليم الفرد للقانون والنظام الإلهيين، وهذا المفهوم ينطبق بشكل أو بآخر على الوضع السائد لها في الإسلام. يرى لويس غارديه، في مؤلفه “فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية” أنه، “رغم كل الإختلافات، فإن المفهومين الإسلامي والمسيحي للحرية يشتركان في أمر واحد، كلاهما على حد سواء يقف ضد البحث اللامشروع عن حرية متوهمة ولفظية.. فالمسيحي، كالمسلم، ليس عنده حس بالحرية إلا إذا كان على توافق مع نفسه ومع نظام أسمى”.
في “لسان العرب” لابن منظور، (تحرير الولد)، يمكننا أن نقرأ ما يلي: “أن يفرده لطاعة الله عز وجل ولخدمة المسجد. ومنه قوله تعالى: إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني، قال الزجاج: هذا قول إمرأة عمران ومعناه جعلته خادما يخدم في متعبداتك”.
نتحدث هنا عن الإرتباط العضوي بين مفهوم الحرية، والربط بينها وبين التعلق والتسليم بالأوامر الإلهية في فترة أبعد من ذلك زمانيا. لقد تطور هذا المفهوم في مناخ الأديان الموحدة قبل الحقبة المسيحية، فنرى أن الربّي البابلي أحابار يعقوب، الذي عاش سنة 300 ميلادية، قد رأى أن ألواح الشريعة الموسوية، كانت أقوى من الأمم واللغات الغريبة. كلمة {رقيم} أو “harut”، فُهمت على أنها تعني “الحرية”. لذلك، فإن “الشريعة”، هي “الحرية”؛ والخضوع للشريعة هو حرية.
إن المدراش اليهودي يستشهد بالفقرة نفسها ليثبت أن “الإنسان الحر الوحيد في العالم هو الذي يطبق أحكام ألواح الشريعة”؛ ويعبر أيضا متصوفة الإسلام وزهاده عن الفكرة نفسها بأشكال متمايزة. هذه الفكرة تبرز بأوضح معانيها في قصة لقمان السرخسي الذي يُروى أنه التمس من الله أن يحرره من عبوديته، أو من موقفه كعبد في مقابل الله، فكانت الحرية التي منحت له هي الجنون.
أما عن تاريخ مصطلح الحرية بمعناها المجرد في اللغة العربية، فليس واضحا على الإطلاق إن كانت قد استخدمت عند عرب ما قبل الإسلام. وأقصد هنا بمعناها المجرد البعيد كل البعد عن المعنى المجازي لها، فإذا قصدناها بمعناها المجرد، فهي غائبة تماما، وربما في الثقافة الإسلامية كلها فضلا عن عرب ما قبل الحقبة الإسلامية، حتى وإن وجدت فستكون بالمعنى المجازي كالنُبل، والسؤدد، والكرم، والشرف، والفعل الحسن، وهذا ما ورد في لسان العرب لإبن منظور: الحُرُّ: الفعل الحسن، يقال: ما هذا منك بِحُرٍ أي بحسن ولا جميل. وفي هذا يقول “طرفة”: “لا يكن حبك داء قاتلا، ليس هذا منك، ماوي، بِحُرّ”، أي بفعل حسن.
وردت أيضا كلمة الحرية بمعنى نبيل في شعر” ذي الرمة”، حيث قال:
“فصار حيا وطبق بعد خوف \ على حرية العرب الهزالي”، أي على أشرافهم. قال: والهزالي مثل السكارى.
ورغم أننا قد نجد عند عرب ما قبل الحقبة الإسلامية نزعة، وإن كانت تنم عن مبادرات شخصية، إلى فك الأسرى وعتق الرقاب، مثلما فعل ذلك بعض سادات القبائل العربية، فقد ذكر بعض العلماء أسماء رجال عاشوا في الجاهلية، عرفوا بعدم رضاهم عن الأسر، وذلك حسبما ورد في كتاب “المفصل في تاريخ العرب” لجواد علي: “فكانوا يدفعون مالا مقابل فك رقبتهم، ومن هؤلاء سعد بن مُشمت بن المُخيل، وهو من رجال قبيلة “بني المخيل”، وكان قد آلى ألا يرى أسيرا إلا افتكه. غير أنها تظل كمفهوم مفقودة في الثقافة الإسلامية قاطبة. ويظل إستخدام كلمة “حر” مقابل كلمة “عبد” واضح المعنى، فالإنسان الحر يمثل كل الصفات النبيلة، في حين يمثل العبد كل ما هو شرير ودنيء في الطبيعة البشرية.
لعل مما يلفت النظر في تعريف الحرية عند متكلمي الاسلام وفلاسفته، هو الغياب التام لمفهوم الحرية والتردد فيه، مثلما الحال مع “الكندي” الذي تجاهلها في رسالته حول الحدود. ويشير فرانز روزيتنال إلى أن أقدم تعريفات الحرية في الشرق الإسلامي، قد صدرت في الأعمال السريانية لـ(ميخائيل أوبازوذ 800 ميلادية)، حيث كتب يقول: “الحرية هي القوة غير المحددة للطبائع العاقلة التي تتعلق بالحواس والإدراك العقلي معا”.
هذا التعريف يمثل، معبراً عنه بطريقة رديئة، عن نتائج المناقشات اللاهوتية التي دارت أنذاك حول حرية الإرادة في أوساط الكنيسة الشرقية. كما يصف أفراييم السوري الحرية بأنها: “هبة الله التي قدمها لآدم، فامتدحها؛ لأنّها صورة الله التي بدونها ينهار العالم، فالحرية وجدت لكي يستطيع الإنسان أن يختارها أو يرفضها، كما يمكن أن تكون موضوع قيود ينزلها الله وتحددها الشريعة، وعبثاً يحاول الشيطان احتواءها”. ويقول أيضا فرانز روزينتال إن الجدل والنقاش حول مفهوم “الحرية” في علم الكلام الإسلامي، هو نفس الصورة القاتمة، إذا أُخذ بعين الإعتبار الصلات الوثيقة بين اللاهوت المسيحي وعلم الكلام الإسلامي، فكان الجدل الإسلامي حول مسألة حرية الإرادة، محاولة شكلية لتأكيد حيز منزوٍ للحرية في النسيج العام، وهذا الحيز، على محدوديته، كان ينظر إليه كضرب من التجاوز تجاه القدرة الإلهية المطلقة.
إذا ما بحثنا عن تعريفات “الحر” و”الحرية” عند مؤلفي المعاجم الاسلامية، فأول ما يلاحظ هو اكتفاؤهم بتعريف الحر بأنه ضد الرقيق. أي أن مفهوم الحرية، ظل كما هو دون تغيير عن معناه القانوني في حقب ما قبل التاريخ. بيد أن الواحدي النحوي المتوفى سنة 1075ميلادية، قد حاول تقديم تفسير للحرية من وجهة نظر فقهاء اللغة فأشار إلى أن اللفظ مشتق من حَر الذي هو ضد البرد؛ لأنّ الرجل الحر يمتلك كبرياء وأخلاقاً حاثة تبعثه على طلب الأخلاق الحميدة. أما الأصفهاني، فقد حاول في معجمه لمفردات القرآن أن يقدم تعريفا للحرية يقيم تمايزا بين بعدها الشرعي وبعدها الأخلاق، فحدد الحُر أولا بأنه يقابل العبد، ثم فرق بين ضربين من الحرية :”الحر خلاف العبد، يقال حر بين الحرورية. والحرورة والحرية ضربان: الأول من لم يجرعليه حكم الشيء نحو “الحر بالحر”، والثاني: من لم تمتلكه الصفات الذميمة من الحرص والشره على المقتنيات الدنيوية، وإلى العبودية، ومنه قول الشاعر: ورق الأطماع رق مخلد. وقيل: عبد الشهوة أذل من عبد الرق”.
أما فخر الدين الرازي، فإنه يقدم تعريفا فلسفيا للحرية، ويعني الرازي بحرية النفس، فـ”النفس إما ألا تكون تائقة بغريزتها إلى الأمور البدنية، وإما أن تكون تائقة، فالتي تكون تائقة هي الحرة …”.
أما الجرجاني، فيعطي للحرية بعدا صوفيا في كتابه “التعريفات”، حيث يعرفها بأنها في اصطلاح أهل الحقيقة: الخروج عن رق الكائنات وقطع جميع العلائق والأغيار، وهي على مراتب: حرية العامة عن رق الشهوات، وحرية الخاصة عن رق المرادات لفناء إرادتهم في إرادة الحق، وحرية خاصة الخاصة عن رق الرسوم والأثار لانمحاقهم في تجلى نور الأنوار.