برسالة الصحابة… ابن المقفع يؤسس للعلمانية (الجزء الثاني)
يبدو أن ابن المقفع يقصر مجال الدين على فكرة الفرائض الدينية أو أركان الإسلام الخمسة، وعلى الحدود الشرعية المتعلقة بالحرام والحلال. غير أنه يتلاعب بتلك المنطقة الرمادية في مجال التقدير أو التفسير فيما بين هو {مندوب ومكروه}، والتي تخضع للتقييم البشري.
ابن المقفع يتناول هنا العلاقة بين الوحي والعقل. فالوحي عنده لا يغطي كل مجالات الحياة، وإلا لكان الدين ثقلا زائدا وتكليفا مرهقا للإنسان.
مما يثير الانتباه عند ابن المقفع، أن الحكم بالرأي والاجتهاد في {ما لم يكن فيه أثر}، كان بمثابة النقطة المركزية التي هاجم عبرها ابن المقفع سلطة الفقهاء، وذلك من خلال تلك المنطقة الرمادية التي لا تكون فيها الأحكام مبنية بنص ثابت. فالتمييز بين المؤول وغير المؤول في مجال القانون الديني يعتبر أمرا أساسيا. وهو تمييز لم يخف قط عن قريحة ابن المقفع الذي استكشفه تحت عناوين: دين وعقل. ولما كان الدين في أصله عند ابن المقفع ليس تكليفا مرهقا للإنسان، فلو أن الدين جاء من الله لم يغادر حرفا من الأحكام والرأي والأمر، لأصبح {ثقلا زائدا} للناس، ولكلفوا غير وسعهم وطاقتهم، فضيق عليهم في دينهم وأتاهم ما لم تسع أسماعهم لسماعه ولا قلوبهم لفهمه، ولحارت عقولهم وألبابهم التي امتن الله عليهم بها.
بصيغة أخرى قد نقول، إن عقول الناس ليست قادرة، بلا مساعدة، على كل ما هو مطلوب لإرضاء الله. فلا بد من تزويدهم ببعض معلومات إضافية في صيغة وحي منزل، فإن كان الله قد وضع كل تشريعاته غير منقوصة، وفي حاجة لأن تعرف عن طريق الوحي، حينئذ يكون:
1 ستبدو كما لا متناهيا لعقول الناس، و2 عقول الناس لا حاجة لها إذن، وستستخدم فقط للتأمل في تلك المسائل، ولن يكون هناك شيء ليستكشف.
لذلك أوحى الله لهم، أن لهم عقولا قد جبلت على الفهم، فيما عدا تلك الأمور اليقينية بنص ثابت، فجميع المسائل الأخرى من الأمر والتدبير {إنه الرأي}، يسند إلى سلطة سياسية أو سلطة تقديرية، فكل شيء وكل سلطة محفوظة بشكل خاص وحصري لحاملي لواء السلطة السياسية {ولاة الأمور}.
مما سبق، يبدو أن ابن المقفع يقصر مجال الدين هنا على فكرة الفرائض الدينية أو أركان الإسلام الخمسة، وعلى الحدود الشرعية المتعلقة بالحرام والحلال. غير أنه يتلاعب بتلك المنطقة الرمادية في مجال التقدير أو التفسير فيما بين هو {مندوب ومكروه}، والتي تخضع للتقييم البشري.
ابن المقفع يتناول هنا العلاقة بين الوحي والعقل. فالوحي عنده لا يغطي كل مجالات الحياة، وإلا لكان الدين ثقلا زائدا كما سبق الإشارة، وهناك ما يترك للعقل البشري لتقييمه. فهذين المفهومين {الوحي والعقل} عنده، إنما يستخدمان كفئات إبستمولوجية تؤثر في الحالة التأويلية لبنية القانون الديني.
الجزء الأهم في رسالة الصحابة، والذي يوجد في خضم مناقشته للبصرة والكوفة، والتي تتعلق بإشكالية صدور أحكام متضاربة، هي وثيقة الصلة برؤيته الإبستمولوجية للفقه الإسلامي. فتناقض الأحكام في المصرين، البصرة والكوفة، قد بلغ أمرا عظيما في الفروج والدماء والأموال، فبينما يستحل الدم والفرج هنا، يحرمان هناك. فالأحكام التي تؤثر على هذه النواحي الحيوية للشريعة، لا تتعارض فقط بين الأمصار العراقية، ولكنها متعارضة أيضا داخل المدينة الواحدة. وهذه الأحكام، بالرغم من تنوعها، نافذة ضد المسلمين وصادرة عن قضاة السلطة القضائية المختصة، وتعليل تلك الخلافات الفقهية عند ابن المقفع، هو الإماءة إلى المذاهب الفقهية الموجودة، تلك التي كان يسميها {جوزيف شاخت} بـ{المذاهب الفقهية القديمة}. أي ما قبل تأسيس الشافعي لأصول الفقه، كمذهب أهل العراق ومذهب أهل الحجاز. فابن المقفع إنما يتناول إشكالية التنوع المذهبي وتناقض الأحكام، من خلال ثلاث نزعات أو اتجاهات بين الفقهاء. فأولا، مجموعة الفقهاء المنظمين إقليميا والمقللين من شأن المذاهب الفقهية الأخرى.
وثانيا، أولئك الذين يدعون إلى الاعتماد على {السنة} في حجاجهم الفقهي، يحيلون بشكل خاطئ إلى أفعال الحكام الأمويين بتضمينها لمفهوم السنة تعليلا لآرائهم، واجتهاد العلماء بالرأي والتطرف في القياس، أو ابتداء أمر على غير مثاله. تلك اعتبارات حددها ابن المقفع، وكانت حسب {جوزيف شاخت}، خارج مجال اهتمامات الفقهاء والمحدثين القدامى، وكان لابن المقفع قصب السبق في ذلك حتى على الإمام الشافعي نفسه. فإذا نظرنا إلى تناول الشافعي لتلك المفاهيم الفقهية القديمة، نراه يقول إنه قلما اتفق على مسألة فقهيه واحدة، أو على أصل عام، أو وجود اتفاق استدلالي حتى بين العلماء، وإنما اعتمادهم جميعا بالتحديد على ما أسماه جوزيف شاخت بـ{ السنة الحية}، وتوظيفهم للرأي الشخصي أو الاجتهاد. ويجب علينا أن نوضح هنا، أن نقد ابن المقفع لـ{المفهوم القديم} للسنة، يختلف كليا عن نقد الشافعي لها، فالشافعي حسبما يذكر {نصر حامد أبو زيد}، قد عمل على توسيع مصطلح السنة ليشمل كل الأقوال، بصرف النظر عن سياق القول، فصار كل {قول} عن النبي بمثابة {وحي}، بينما نرى ابن المقفع عمل على العكس من ذلك، فلم يلجأ إلى الأحاديث النبوية، بل اعتمد استنتاجا مناقضا، مفاده أن الخليفة حر في تحديد ما يُدعى بالسنة وتقنينها.
لكن ما المقصود بـ{المفهوم القديم} للسنة، الذي اتنقده ابن المقفع ومن بعده الشافعي، وفي أي نقاط التقى الشافعي مع ابن المقفع وفي أي نقاط اختلفا؟.
كانت النظرية التقليدية للسنة النبوية، أنها السلوك النموذجي للنبي، غير أنها في معناها الإصطلاحي تعني {أمر سابق} أو {طريقة حياة}. وقد بين {غولديزهير} بأن الإسلام قد استعار هذا المصطلح وقام بتطويعه، أما {مارجيليوث}، فكان يرى بأن السنة، بوصفها أصلا من أصول الفقه، كانت تعني في الأصل، الممارسة المثالية أو المعيارية للأمة، ولم تكتسب المعنى الدقيق لعمل السلف الذي وضع النبي أسسه إلا لاحقا.
كانت السنة بمفهومها القديم تعني (العمل) أو (الأمر المجمع عليه)، ولم تكن المدونة الحديثية قد تبوأت بعد منزلتها في المنظومة الفقهية، فكانت الأحاديث، ولا سيما أحاديث الآحاد زمن الشافعي، تعد شيئا حديثا نسبيا، عكر صفو {السنة الحية} المعتمدة لدى المذاهب الفقهية القديمة. وقد أتى معظم النقد الموجه إلى {السنة الحية} للمذاهب الفقهية القديمة من المحدثين باسم الأحاديث التي تنسب إلى النبي، وقد تواصل هجومهم عند ظهور الشافعي، الذي قبل أطروحتهم الأساسية، ونأى بنفسه عن تطور التفكير الفقهي للمذاهب القديمة. كانت هذه النظرة إلى تطور وظيفية الأحاديث الفقهية، هي البديل الوحيد لاعتبار الآراء الفقهية للمذاهب القديمة، كما هائلا من حالات الخلط والتعارض كما ذهب إلى ذلك الشافعي، وقد كان الأوزاعي مثلا بالشام، على علم بمفهوم سنة النبي، ولكن لا يجعلها متماثلة مع الأحاديث النبوية. فعنده {السنة الحية} هي ما دأب عليه المسلمون من عمل متواصل بداية من النبي والخلفاء والأئمة من بعده. وجزء من {السنة الحية} عنده، يعتمد على الأعراف المتداولة.
أما فيما يخص {المفهوم القديم} للسنة عند أهل العراق، وهي البيئة التي خط فيها ابن المقفع رسالته، ورأى من خلالها التناقض في الأحكام، فأقدم الشواهد التي تشير إلى وجود مصطلح {سنة النبي} المنسوب إلى أهل العراق، كان في كتاب في العقائد وينسب للحسن البصري، ويحيل بصريح العبارة إلى سنة النبي، إلا أن تفكيره واستدلاله يستند في الواقع على القرآن دون سواه، مما يعني ذلك أن مفهوم أهل العراق للسنة النبوية، لا تعني أحاديث النبي ولا تعبر عنها بالضرورة، وإنما تتمثل بالسنة الحية أو {العمل} كما عند المذاهب القديمة بالاستناد إلى النبي مباشرة، وهو نفس المفهوم الذي رأيناه قبل قليل عند الأوزاعي، ثم جاء الشافعي، فكان يرى بأن السنة لا تثبت بالعمل أو الإجماع، بل بما روي عن النبي باعتبار ما يرد في الأحاديث النبوية، التي كانت سرعة تطورها آخذة في التزايد، وفاقت تطور المذاهب الفقهية القديمة. وقد كانت هذه المذاهب القديمة بصدد التصدي لظاهرة تضمين الحديث النبوي قبل ظهور الشافعي، فالواضح أن السنة في عصر الشافعي كانت في حاجة إلى تأسيس مشروعيتها بوصفها مصدرا ثانيا من مصادر التشريع، وهذا ما عمل عليه الشافعي، لا على جعلها شارحة ومفسرة للكتاب فحسب، بل إدماجها في أنماط الدلالة وإدخالها جزءا جوهريا في بنية النص القرآني وانفرادها أيضا بالتشريع. وبذلك أحدث الشافعي قطيعة فكرية مع المذاهب الفقهية القديمة، وذلك بانزياح {السنة الحية} وإحلال المدونة الحديثية مكانها.