من مصر، منى حلمي تكتب: أيها الألم، كم أحبك.. أشتهيك.. وأنتظرك!
إذا كان من الجنون
أن أشتهى وطنا
لا يتعدى سكانه 2 مليون
لا يتعاطى الدين كما الأفيون
يرفض عبادة الإله الفرعون
يضمن للنساء كرامة البشر
يفسر بإرادته الشرع والقانون
فأهلا وسهلا بالجنون
قال محمود درويش، الشاعر الذي أقدره وتختبئ في أعماقي بعض من حكمته وطريقة تذوقه للعالم: “من حُسن حظي أنني أنام وحيدا، فأصغي إلى جسدي، وأصدق موهبتي في اكتشاف الألم“.
هذه المقولة الفلسفية الشاعرية، التي تتدفق شِعرا وشجاعة وفهما عميقا للحياة وللذات، اختبرتها عقليا، وأيضا عشتها بأعصابي وعواطفي واغترابي. وهي تناسبني تماما، وتتناغم مع طباعي فى النوم وحيدة، بجسد أملكه وأقرر أنا، ولا أحد غيري، مصيره وسلوكياته ومعايير شرفه وكرامته.
مقولة تعتبر أن اكتشاف الألم موهبة تحتاج إلى وحدة وتأمل واستغراق وتركيز، تماما مثل كتابة الشِعر والرواية والقصة وتأليف الموسيقى. هكذا، ترتفع مكانة الألم، ويفتح لنا دروب أسراره العظيمة، التي لا تقل أهمية عن أسرار الكون والنفس.
أغلب البشر يتفنون في تفادي الألم، ويهرولون إلى المتعة وهم يعتقدون أن هذه هي السعادة والحياة ذات المعنى.
أعتقد أن القضية ليست في الألم أو في المتعة في حد ذاتهما. ولكن كيف ننظر إلى الألم، وإلى المتعة. كيف يكون الألم طريقا للمتعة وسببا جوهريا لعمقها، وشرطا لا غنى عنه لجني الثمار المتفردة المفيدة.
هناك سوء تفاهم أزلي أبدي بيننا وبين الألم. البعض يراه شرا، والبعض يراه عدوا، والبعض يراه ضعفا، والبعض يراه شؤما ونحسا. البعض يراه عائقا أمام السعادة والمتعة و الابداع والإنجاز، والبعض يراه سُما فتاكا قاتلا، والبعض يراه شقاء، والبعض يراه مؤامرة، والبعض يعتبره داء.
لكن الحقيقة أن الألم هو مصدر كل الاكتشافات العظيمة، هو سر النبوغ الفكري، وهو الدواء المُرّ الذي نشربه من أجل الشفاء وقهر المرض.
الألم يصنع الفارق بين الإنسان الحقيقي والإنسان الديكور. الإنسان الصلب والإنسان الهش. الإنسان الحكيم والإنسان الأحمق. الإنسان في أعلى مكانته والانسان فى أدنى مراتبه.
الألم هو البطاقة الشخصية الدالة على منْ حقا كنا في الماضي، ومنْ نكون في الحاضر، ومن نصبح في مستقبلنا .
لقد عانقت سحابات من الجمال، لكنني لم أمطر، ولم أذق نشوة التحليق، إلا حينما امتزجت واحتفيت بلحظات الألم.
بل أنني أدركت أن كل متعة حقيقية لا تستطيع الدخول إلينا إلا إذا أخذت “تأشيرة” معتمدة من الألم.
لا شيء يؤهلنا لمعرفة وتذوق الجمال، مثل ألم تنزف له الروح وتضطرب معه كيمياء الجسد. ألم يعتصر الكيان ويأبى إلا أن نشرب حتى الثمالة رشفات المرارة.
الألم ليس عضوا غريبا ينمو فى جسد الحياة. إنه “القماشة” المتجددة التي صنعت نسيج الحياة في إتقان مبدع. الألم إذن، شئنا أم أبينا، هو قدر البشر.
تكمن مشكلة الانسان، فى كل زمان ومكان، فى محاولته المستمرة للهروب من نصيبه الطبيعي، من جرعة الألم، مدفوعا بقناعة خاطئة أن الحياة بدون ألم، أجمل وأمتع وأكثر لذة وسعادة.
لكنني أعتقد أن الحياة الخالية من الألم حياة لا طعم لها.
وإذا كان الألم هو المادة الخام أو النسيج الطبيعي الذي اختارته الحياة لتصنع مأساتها النبيلة، فإن تفادي الألم يعد خيانة عظمى للحياة.
إن الشخص الذي ينتحر يقول: “ألم الحياة أكثر مما أحتمل”.
وأكثر الناس يريدون الحياة بشروطهم هم، لا بشروط الحياة. يريدون حياة هاجرت من وطن الألم. وهذا مستحيل. مثلهم كمنْ يريد للطائر التحليق، شرط أن يقص جناحيه. أو كمنْ يريد تعلم حكمة البحر دون أن يبتل.
إن الرغبة في استبعاد الألم ليست فقط خيانة للحياة؛ لكنها، أيضا، خيانة لأنفسنا. فقط الألم يكشف عن طاقاتنا الكامنة، وعن قدراتنا المختبئة.
المفارقة المدهشة أنه، كلما ازداد الألم، كلما ازدادت عظمة ما نكتشفه.
الألم نار تحرق النفوس الضئيلة، الخاوية. لكنه نور يضيء النفوس الممتلئة، الثرية. إذن، فالهروب من الألم ضرر جسيم.
تجارب الألم تجعلنا نعيد ترتيب الأشياء، وتجبرنا على إعادة تأمل الحياة، وكيف نعيد الانتماء إليها، والخروج بصياغة جديدة، تقوينا، تسعدنا، وتمنحنا الحكمة.
من تجاربي الخاصة مع الألم، أقول إن كل الأشياء الجميلة تنطوي على قدر ما من الألم. المنظر الجميل، مؤلم. الذكريات الجميلة مؤلمة. الفن الجميل مؤلم. والإنسان الجميل مؤلم. والحب الجميل مؤلم.
علمتني الحياة ألا أخاف لحظات الألم. علمتني أن أفتح لها الباب، أحسن استضافتها، أتعطر وأرتدي لها أجمل أثوابي. أجالسها وأشرب معها نخب زيارة. لست من الحماقة أو التطفل لأردها.
الإنسان القادر على التألم العظيم، هو وحده القادر على الإحساس العظيم. هو المثقف الأكبر، والمتحضر الأرقى القادر على إعطاء الآخرين إضافة حقيقية من المعرفة والمحبة والفرح.
لنرحب بالألم، “أستاذ الأساتذة”، لفنون وعلوم الحياة. يطرق الأبواب حين يشعر أننا بحاجة إلى وقفة مع الذات ومع الوجود، إلى ثوب جديد نرتديه أكثر دفئا، إلى أغنية أقل رتابة نرددها ونرقص على إيقاعاتها.
الشِعر خاتمتي
قصيدة “جنون”
إذا كان من الجنون
أن أخلف التوقعات والظنون
ألا تفرحني أيام العيد
لا أتابع مونديالات كرة القدم
لا أطيع إلا ارادة القلم
من صخب الناس أهرب
لأختبئ فى قلبك الحنون
فألف أهلا وسهلا بالجنون
إذا كان من الجنون
أن أزهد المال والبنون
نعيم وزينة الحياة الدنيا
أصمت حينما يتكلم الآخرون
أتكلم حينما الجميع يصمتون
فألف أهلا وسهلا بالجنون
إذا كان من الجنون
أن أفضح الضحك على الذقون
أعري التجارة بأجساد النساء
والسوق الرائجة لفتاوى الفقهاء
أترك وجهي دون مساحيق
لا أضع الكريمات والعطور
وأكتفي بالماء والصابون
فألف أهلا وسهلا بالجنون
إذا كان من الجنون
أن أشتهى وطنا
لا يتعدى سكانه 2 مليون
لا يتعاطى الدين كما الأفيون
يرفض عبادة الإله الفرعون
يضمن للنساء كرامة البشر
يفسر بإرادته الشرع والقانون
فألف أهلا وسهلا بالجنون