من مصر، منى حلمي تكتب: الأحلام “المستوردة” أحظر دخولها إلى بيتي
أتذكر عندما كنت أستقبل أمي “نوال السعداوي” في المطار، عائدة من السفر، أول جملة تقولها لي، ضاحكة، وهي تأخذ نفسا عميقا: “رائحة الوطن يا مُنى”. أقول لها: “رائحة الوطن إيه يا ماما اللي مليانة تراب وعفار وطين ومعاناة وتعب”.
تقول : أمال ماسكة فيها ليه؟ “.
نضحك، ونمضي إلى طريقنا، سعيدتان برائحة الوطن التي نعيش ونموت وهي في أنفاسنا، رغم شدة انتقادنا لها.
رائحة الوطن، نرتمي في أحضانها، وإن خنقتنا.
لا أدري لماذا لم يراودني أبدا “الحلم الأميركي”، أو “الحلم الأوروبي”، تلك الأمنية الكبرى التي داعبت خيال الكثيرين من الجنسين، ومازلت رغم التغيرات في الوطن، وفي العالم، تشكل الطموح الأقصى.
لم يحدث أبدا، في أي مرحلة من مراحل حياتي، أنني قررت بناء مستقبلي في الكتابة والسعادة إلا في مصر التي ولدت على أرضها.
هناك شئ بداخلي كان طول الوقت ينبذ “الحلم الأميركي”، أو “الحلم الأوروبي”، المسيطر على العقول.
أنا مصرية، المفروض، والطبيعي، إذن ، أن أحلم بـ “الحلم المصري” ، وليس “الحلم الأميركي” ، أو أي حلم آخر.
يقول المنطق إننى، إذا كنت سأفشل فى مصر، الأرض التى ولدت فيها، وأتكلم لغتها، وأعرف واقعها، وتذوقت إبداعاتها المختلفة، ومررت بما مرت به، وأحمل في دمي “الجينات” الممتزجة المتداخلة من الحضارات والثقافات التي شهدتها، إذن، سأفشل أكثر على أرض غريبة.
على مدى مراحل العمر ، زرت بلادا عديدة ، شرقا وغربا، شرقا وجنوبا، من فنلندا والسويد، وإيطاليا، والمجر، والمملكة المتحدة، وأمريكا ، وكندا، وهولندا، وألمانيا، والنمسا، وغيرها الكثير. سافرت إلى الهند وأثيوبيا ومدغشقر وتونس والمغرب.
كان من السهل جدا أن أستقر خارج مصر، حيث أن لغتي الإنجليزية تساعدني، وعاداتي وأفكاري ومزاجي وأخلاقي تتناغم أكثر مع النمط الأوروبى والأميركي.
كنت أشعر بأن تحقيق النجاح والسعادة لن يكون بحلاوة المذاق نفسه، الذي سأشعر به إذا حققت هذه الأشياء في مصر.
أقول: سأكون ناجحة، مثلا، وفي رفاهية اقتصادية، لا دوشة ميكرفونات، ولا قمامة متناثرة فوق الأرصفة. الدين منفصل عن قوانين المجتمع، لا فتاوى دينية تعتبر المرأة غير محجبة عاصية، وليس هناك شئ اسمه استئذان الزوجة من زوجها قبل الخروج. لا ازدراء أديان أو نبذ اجتماعي بسبب العقيدة أو اللاعقيدة، ولا تشويه أو تجاهل اعلامي للكاتبات والشاعرات اللائي يكسرن الخطوط الحمراء. لا تطفل على أجساد النساء. الكتابة تؤتي ثمارها ماديا وأدبيا. نظام منضبط من الألف إلى الياء، في كل الأشياء والمجالات. أعيش بكامل طاقاتي الكامنة، لا ولاية أو وصايا على النساء. أمارس هواياتي وأسمع وأشاهد الفنون الراقية، وإذا مرضت سأجد مستشفيات طبية ترعاني فورا دون أن أكون فاحشة الثراء، وإذا حدثت لي حادثة على الطريق، أو في المنزل، سوف تأتي سيارة الاسعاف أو سيارة البوليس في ثوان معدودة. ثم ماذا بعد؟؟
أهذا كل شيء في تحقيق السعادة والرفاهية والاستمتاع؟ شيء بداخلي يتمنى لو كنت فى مصر، أعيش فى أمان اقتصادي وأمان صحي وأمان ثقافي. لكنني فى الوقت نفسه، لم تداعبنى مجرد الفكرة فى بناء مستقبلي خارج مصر.
حتى أنني بعد الثانوية العامة، لم أفكر في دخول الجامعة الأميركية، كما كان يفعل البعض. لا الجامعة الأميركية كانت أمنيتي، ولا الحلم الأميركي كان هدفي.
دخلت جامعة القاهرة وأحببت بناء مستقبلي في مصر، وتحمست لتحقيق “الحلم المصري” الخاص بي وحدي. وعندما تحتل “فيينا”، مدينة الموسيقى، المرتبة الأولى، لعدة سنوات متتالية، في جودة نوعية الحياة، وكنت أمشي في شوارعها تحت المطر أغني لأسمهان من تلحين فريد الأطرش وكلمات أحمد رامي: “ليالي الأنس في فيينا”، لم أندم على عدم الإقامة هناك. كنت أتوق إلى “ليالى الأنس فى القاهرة”.
كنت أقول لنفسي: كل مجتمع له مشاكله، وكل شعب له ما عليه، وكل حضارة لها عيوبها، وكل ثقافة لها سلبياتها، وكل بيئة لها أمراضها. المجتمعات الأخرى لا تحتاجني لكي أغيرها.
كنت أتسائل: لو في مصر مشاكل وأزمات وأمراض وعيوب وسلبيات، فمنْ سيحلها، لتكون وطنا أفضل، إذا كان أهلها يهجرونها، للاستمتاع بالحياة في وطن آخر؟ لا أحد يستطيع تحمل عيوبنا إلا أنفسنا، أصحاب العيوب أنفسهم.
هل نستورد شعبا آخر، ليجعل الوطن أجمل وأعدل، وأكثر حضارة وحرية؟
لن أزعم أنني في وطني مرتاحة كل الراحة، التي من المفروض أن أشعر بها، ومن المفروض أنني أستحقها بالكامل، دون أن أطالب بها. لكنني إنسانة مخلوقة بشكل، أنني أجد “نصف الراحة”، أو “ربعها”، في وطني، أكثر متعة من الراحة “الكاملة”، على أرض أخرى.
لم أرغب فى مثل هذه الأحلام “المستوردة”. كنت دائما أريد، ومنذ نعومة أظافري، حلما من إنتاج مصر، “صُنع فى مصر”، “ماركة مسجلة مصرية”.
حلم يتطلع إليه العالم، مثل “القطن المصري”، و”الآثار المصرية”.
أتذكر عندما كنت أستقبل أمي “نوال السعداوي” في المطار، عائدة من السفر، أول جملة تقولها لي، ضاحكة، وهي تأخذ نفسا عميقا: “رائحة الوطن يا مُنى”. أقول لها: “رائحة الوطن إيه يا ماما اللي مليانة تراب وعفار وطين ومعاناة وتعب”. تقول : أمال ماسكة فيها ليه؟ “. نضحك، ونمضي إلى طريقنا، سعيدتان برائحة الوطن التي نعيش ونموت وهي في أنفاسنا، رغم شدة انتقادنا لها. رائحة الوطن، نرتمي في أحضانها، وإن خنقتنا.
رحلت أمي، “نوال”، وتركت لي ضحكتها وكلامها.
رحلت أمي “نوال”، وبقيت “رائحة الوطن”.
لست أضع شروطا للبشر، ولست أحكم على رغباتهم أو اختياراتهم . كل إنسان، امرأة أو رجلا، يضع تعريفاته للأشياء ومقاييسه للنجاح والتحقق.
لكنني امرأة تبهرها الأهرامات، وتمثال أبي الهول، وبرج القاهرة، أكثر مما يبهرها الأكروبوليوس أو تاج محل أو برج بيزا المائل أو تمثال الحرية. امرأة لا يرويها نهر الميسسبي أو نهر الدانوب أو نهر التيمز أو نهر دجلة، وإنما الماء الذي يشق طريقه عبر أفريقيا، في نهر النيل، يتحمل طول وعناء الطريق، ليصل سالما إلى بيتي، حاملا أفراحي وأحزاني.
الشِعر خاتمتى
قصيدة منْ أنا؟
إنسانة أنا
سلمت أغلى ما أملك
للسكون والهدوء
إلى رائحة البحر والقهوة والشِعر
طلبت حق اللجوء
لا يأتيني سن اليأس
منتصف وآخر العمر
معطف أمي… حكمة الألم
وصمت البكاء هم أصدقائي الأوفياء
إنسانة أنا
في تعقيد الظمأ
أعيد هفواتي
أكرر حماقاتي
وفي بساطة الماء
يطربني صوتي حينما يغني
يشجيني الرقص تحت المطر
أكره بيت الزوجية
لا أحب الأطفال
والاستسلام للقدر
تنفرني الجواهر
لم ألبس يوما
خاتما من الذهب
أو عقدا من الماس
يصيبني الجنون
إن امتلكت الأشياء
أو كدست الأموال
وأصبحت واحدة من الأثرياء
محال أن يعولني رجل
كافرة بعقيدة الطاعة والولاء