من مصر، أحمد حجاب يكتب: نجيب محفوظ الذي لم يُسكته أحد
أحب أن أتذكر نجيب محفوظ بذلك العجوز صاحب القفشات الساخرة… الذي لم يستطع أحد أن يُسكته أبدا… حتى بعد رحيله عنا!
سنة 2006، في إحدى ضواحي القاهرة، جلست مستنداً إلى حائط المسجد الخارجي ناظراً الى السماء والسحب تمر في هدوء، أستمع إلى خطيب الجمعة.
اشتد صوته بلهجة تدل على الوعيد والإنذار، متحدثاً عن جنازة نجيب محفوظ الذي “لم يصلِّ وراءه أحد نتيجة أفعاله”.
تطلعت في وجوه من حولي، لعلي أجد أحدا يندهش مثلي من كذب خطيب المسجد على المنبر وهو يمسك الميكروفون وصوته يهز أرجاء المنطقة كذباً.
كنا جميعنا قد رأينا جنازة نجيب محفوظ الشعبية والرسمية في نشرات الأخبار.
لكن، هذا كله ليس مهما لأن خطيب الجمعة، بكل ما يحمله من سُلطة على المُصليين، كان يرى غير ذلك.
وقتها، لم أكن أدرك أن الجماعات التكفيرية والمؤمنين بظلامها، كانوا يحاولون اغتيال أفكار نجيب محفوظ لأنهم فشلوا في قتله من قبل.
رحلت عن المسجد في نصف الخطبة رافضاً أن أقول “آمين” خلف شخص كاذب.
دعونا الآن نسترجع بعض التواريخ الهامة حتى تتوضح الرؤية في سياقها التاريخي:
- 1959، هو تاريخ بدأ نشر رواية “أولاد حارتنا” على أجزاء في جريدة الأهرام.
- في 1962، صدرت رواية “أولاد حارتنا” عن دار الآداب اللبنانية في كتاب.
- سنة 1988، فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب عن مجموع أعماله.
- على مدار خمس سنين، بين 1989 و1994، أصدرت الجماعة الإسلامية وعمر عبد الرحمن مجموعات من الكتب والفتاوى التي تدين وتكفر نجيب محفوظ وترسخ لفكرة أن قتله ليس فقط حلالا، بل يفيد الإسلام.
- سنة 1994، تمت محاولة اغتيال الأديب نجيب محفوظ على يد فني أجهزة كهربائية بناء، على أمر أمير الجماعة الإسلامية.
ربما أثار فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل حفيظة الجماعات الإرهابية وشجعهم على محاولة قتله. لكن، لم تكن صراعات قوى الظلام ضد أفكار نجيب محفوظ وليدة فوزه بالجائزة، بل سبقها الكثير من الصراعات التي لم يكن الأديب العالمي يسعى إليها أساسا!
هكذا، فقد طالبت أصوات الظلام بوقفه عن الكتابة أو عزله من وظائف شغلها، اتهمت بعض أعماله بالإباحية، إلخ.
نجيب محفوظ وصف نفسه ذات مرة بتواضع شديد بأنه “كاتب من الدرجة الرابعة أو الخامسة”، بالرغم من أنه كان واحدا من أهم كتاب العالم في القرن العشرين، وأن أعماله كانت تنشر في كل أنحاء العالم. لم يكن أبدا يهرب من أي سؤال عن روايته “أولاد حارتنا“، مؤكداً أنها رواية وليست كتاب دين.
على مدار سبعين عاماً، كان شغل نجيب محفوظ الشاغل هو الكتابة. في مقابلة أجريت معه قبيل فوزه بنوبل، قال: “إذا تركتني الرغبة في الكتابة، أريد أن يكون هذا اليوم يومي الأخير”.
حتى عندما تسببت محاولة قتله بالطعنات في إصابة دائمة في يده أثرت على كتابته، اضطر للاعتماد على آخرين يكتبون ما يُمليه عليهم. لكنه لم يتوقف عن الكتابة حتى آخر عمره.
كقارئ، أرى أن أحد أوجه عبقرية نجيب محفوظ يكمن في عرض الأدب والفن للجميع. قام بخلط تفاصيل الحياة اليومية مع عبقرية الأمكنة وصبغ بهم شخصياته التي احتلت مكانة عظيمة في البناء الثقافي العربي في القرن العشرين، بين القصص القصيرة والروايات وسيناريوهات وحوارات الكثير من الأعمال الفنية الخالدة تنقل نجيب محفوظ بخفة شديدة على جناح عصفور هادئ له حضور طائر الرُخ.
لذلك، أحب أن أتذكر نجيب محفوظ بذلك العجوز صاحب القفشات الساخرة… الذي لم يستطع أحد أن يُسكته أبدا… حتى بعد رحيله عنا!