مسَّ يقينيات وقطعيات من الدين: التأويل الاضطراري
كل الأحكام الشرعية موضع المراجعات والتأويلات، كانت يقينيات وقطعيات قبل الاحتكاك الثقافي مع الحضارة الغربية المتغلبة، بل كان مجرد الشك فيها يُعتبر كفرا بواحا مُخرجا من الملة وردا لأحكامٍ شرعية قطعية استقرت في الأذهان والمذاهب الفقهية.
فكيف أصبحت مناقشة هذه الأمور اليوم، شيئا يتفاخر به الشيوخ وتتبناه المؤسسات الرسمية، في ظل تطور وسائل التواصل وسهولة الوصول للمعلومة والاهتمام بالحريات والحقوق والاطلاع على حياة الشعوب في الضفاف الأخرى من العالم؟
لم تكن المراجعات الفكرية والخطاب الديني الجديد، المُتَبنَّى من طرف المنظمات الإسلامية والكثير من الشيوخ والدعاة، ليُطرح على الساحة الفكرية وتنال منه مشارط النقد والتحليل وتحفل به المنتديات وتعقد حوله المؤتمرات قبل القرن 19، حين استفاق العالم الإسلامي على البون الشاسع بين الحضارة الغربية، التي تقف بجيوشها وعتادها وثقافتها على سواحل وحدود العالم الإسلامي. لم يكن يدور بخلد معظم فقهاء الإسلام ومدارسهم العريقة، كالأزهر والزيتونة والقرويين، التكلم عن جهاد الطلب وتأويل آياته، ولا الحديث عن السبي ورد أحاديث الاستعباد ورجم الزاني المحصن، ولا تأويل كل آية وأثر لا يتماشى مع ثقافة العالم الجديد، كزواج الصغيرة والأحاديث المخالفة للعلوم والمنطق. بل ظهرت مدارس إسلامية أحرجتها ما تزخر به الكثير من مدونات السنة من مخالفات صريحة للعقل والمنطق والذوق السليم، فألغت المصدر الثاني للتشريع بالكلية وطعنت في منهج المحدثين بذريعة ابتعاده عن قواعد العلوم كما هي متعارف عليها كونيا.
كل الأحكام الشرعية موضع المراجعات والتأويلات، كانت يقينيات وقطعيات قبل الاحتكاك الثقافي مع الحضارة الغربية المتغلبة، بل كان مجرد الشك فيها يُعتبر كفرا بواحا مُخرجا من الملة وردا لأحكامٍ شرعية قطعية استقرت في الأذهان والمذاهب الفقهية.
اقرأ أيضا: موقف ابن رشد الأندلسي من صورة الجنة والنار في الخطاب الديني
فكيف أصبحت مناقشة هذه الأمور اليوم، شيئا يتفاخر به الشيوخ وتتبناه المؤسسات الرسمية، في ظل تطور وسائل التواصل وسهولة الوصول للمعلومة والاهتمام بالحريات والحقوق والاطلاع على حياة الشعوب في الضفاف الأخرى من العالم؟
الجواب عن هذه الإشكالية يتطلب منا طرح سؤالين أساسيين، أولهما عن شرائع الإسلام ومدى صلاحيتها لكل زمان ومكان، وهل هذا الزعم المتفق عليه بين عامة المسلمين، وتخالفه قراءتهم الحديثة للإسلام، هو زعم مبني على التفريق بين الثابت والمتغير في الإسلام، أم مجرد دعوى وجدانية ترفع من شأن الدين دون النظر في حيثيات شرائعه؟ والسؤال الثاني حول حاجة المسلمين لرَجَّة حضارية ثانية كالصدمة التي تلقوها إبان الاحتلال العسكري تدفعهم لمناقشة ما تبقى من شرائع الإسلام؟
إن المتأمل لخطابات التجديد الديني، التي أصبحت أمرا يكاد يكون مجمعا عليه من طرف المؤسسات الرسمية وخطاب معظم الشيوخ والدعاة، يرى حقيقة كيف ينحو هذا الخطاب لمخالفة الكثير مما كان يعتبر معلوما من الدين بالضرورة، فأعيد الكلام حول الفتوحات وشرعيتها الدينية، وسبي الشعوب وفرض الجزية و صحة بعض بنود العُهدة العمرية، وأُلِّفت رسالة دكتوراه لتبرئة الرسول من زواجه بعائشة وهي بنت 9 سنين، وأُهملت دون غضاضة تفسيرات ابن عباس، حبر الأمة، للآيات المنافية للمسائل العلمية، وصودق على الوثيقة العالمية لتجريم الرق والاستعباد، وتُكُلم في أحاديث بعض الحدود والوقائع التاريخية كَسَمْل أعين العُرَنِيِّين وقتلهم صبرا وذبح من أنبت من بني قريضة، وعُقدت المقارنات بين الديمقراطية والشورى، وكفلت الفتاوى الجديدة حرية الاعتقاد وتبرأت من حد الردة…
اقرأ أيضا: ملف “مرايانا”: الشك… بين انفتاح النص وتطرف الفقهاء. 1/3
وأُحدث لكل ذلك مجامع فقهية ومنظمات إسلامية دولية شغلها الشاغل تلميع شرائع الدين بكل الوسائل الممكنة، والإنفاق على هيئات الإعجاز العلمي لتلوي ما استطاعت من الآيات والأحاديث، في تعسف سافر، حتى توافق النظريات والحقائق العلمية، ولم يعد مسموحا لمن يناوئ هذا الخطاب أن يتولى مهمة رسمية أو يصعد منبرا أو يفتح قناة لنشر الاغتراب والنشاز الثقافي.
لكن… رغم كل هذه الجهود، لازال الوعي الجمعي للمسلمين مرتهنا لماضوية وردية، لا وجود تاريخي لها إلا في مخيلة من يحلم بعودة زمن الخلافة والمهدي المنتظر ليسود العالم، ويعيد حكم السيف ويكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية حيث سَتُطمس معالم الحضارة ليعود الناس للقتال بالسيف وركوب الحمير، ولا أدري حقيقة لِمَ يحِّن المسلم لحياة البداوة ؟!!
إنه عمل التنشئة الاجتماعية التي تأبى التغيير والتحول، رغم مخالطتها لأسمى ما وصلت إليه الأعراف الانسانية. ففي استطلاع للرأي، أجرته صحيفة الأوبزيرفر البريطانية، رأت نسبة مهمة من الطلاب المستطلعة آراءهم، ضرورة عودة نظام الخلافة والجهاد في سبيل الله. فرغم العيش في نظام ديمقراطي عريق، يحترم كل الأديان والتنعم بنظام صحي وتعليمي راقٍ، يعيش المسلم سكيزوفرينيا صارخة، فهو يهرب من جحيم وطنه إلى أروبا طلبا لرغد العيش وصونا لكرامته المهدورة، ثم ينادي بعدها بدمار القيم الإنسانية الغربية ؟؟!.
اقرأ أيضا: من اليمن، حسين الوادعي يكتب: هل يمكن عقلنة الدين؟
هذا المعطى والمأزق الوجودي، يدفعنا ضرورة لمقاربة الجواب عن السؤال الثاني حول حاجة المسلمين لرَجَّة حضارية أخرى حتى يتخلصوا من كل ما يحول بينهم وبين القيم الإنسانية و الحياة الفكرية والعلمية الحديثة.
لعل ما تجود به الجامعات والمختبرات العلمية اليوم من بحوث علمية حول نظرية التطور وفيزياء الكم واكتشاف عوالم الفضاء السحيق واستنطاق التاريخ وسبر آثار الأمم السابقة، هو صدمة ثانية جعلت الكثير من الشباب في العالم الإسلامي، يعيد قراءة واقعه ودينه وما تم تلقينه إياه في الأسرة والمدرسة؛ فظهرت قنوات كثيرة على مواقع التواصل الاجتماعي تُبسِّط العلوم لإشاعة ثقافة التفكير العقلاني ومحاربة الفكر الخرافي… قنوات لا ترى حرجا من التدليل على صحة التطور ورمزية قصة الخلق في القرآن، وجعل الشك منطلقا للبحث ثم الاعتقاد، وتحبيب الناس في دراسة الفلسفة والمنطق والنهل من الفنون والآداب والانفتاح على ثقافات العالم الأخرى.
رغم أن الطريق في بدايته، ويلقى مقاومة شرسة من حراس الفكر العتيق، لكن مسيرة التنوير ماضية لإزالة ما تبقى من آصار وأغلال مدعومة بنتائج العلوم المختلفة التي تؤيد وجهة نظرها. ومن يدري، ربما في العقود القادمة ستجرف هذه الموجة ما تبقى من جيوب للمقاومة، ليسود الفكر الحر والقيم الانسانية ويصبح ماعدا ذلك شاذا ومنبوذا كما نٌبذ الكثير في زماننا مما كان يعتبر شيئا مقدسا.