عبد الكريم جويطي يكتب لمرايانا: مجنون الكرة… دموع ميسي - Marayana - مرايانا
×
×

عبد الكريم جويطي يكتب لمرايانا: مجنون الكرة… دموع ميسي

لدموع ميسي في وداع فريق برشلونة شأن عظيم في تاريخ الدموع التي ذرفتها البشرية. إنها أكثر دموع شوهدت مباشرة في التاريخ، وأكثر دموع شغلت الناس بين باك معه ومتأثر ومشكك ولا مبال. إنها دموع نادرة ثمينة واسثتنائية لأنها، حين كانت تسيل، كانت تنهي وفاء بين لاعب وفريق أوشك أن يصير وفاء أسطوريا.

عبد الكريم جويطي Jouiti Abdelkerim
عبد الكريم جويطي

بكت البشرية كثيرا، حتى أن تاريخها هو، بشكل أو آخر، تاريخ للدموع.

بكت البشرية العجز، الموت، الفراق، المرض، الهزيمة… وبكت أيضا الفرح، النجاح، الإنتصار، الانتشاء، والسعادة الغامرة.

كانت الدموع هناك حين يبلغ التأثر مبلغه، وحين يريد الجسد أن يشارك في قول عاطفة ما يصعب عليه أن يبقيها مخبأة.

بكت الآلهة والملوك والفرسان والقادة الكبار وبكت العامة. بكى الناس، نساء ورجالا، فرادى وجماعات، حتى أن الدموع لم تعد سائلا مالحا تذرفه العين، بل هندسة إجتماعية كاملة واقتصادا رمزيا وتواصليا لا تملك اللغة إلا أن تتوارى معه ذليلة.

منذ طفولة الخليقة، عملت البشرية على السيطرة  على الدموع وترتيب مكانتها في الحياة العامة وتوجيهها ووضع شعائر لها وقوانين. بل إن مجتمعات بدائية كثيرة عرفت، وقبل كل الحرف، حرفة البكاء، خصوصا في المآتم، وقامت بها نساء لهن القدرة على البكاء وإبداء حرقة الفراق نيابة عن أهل الفقيد.

كان مشهد ميسي وهو يصارع دمعه لحظة جليلة ومؤثرة وسامية، غير أن بؤس عالم المال ودأبه على تحويل المآسي إلى مهازل عبث بجسامة هذه اللحظة وقدم ورق الكلينيكس للبيع بمليون دولار

حاول كل عصر وكل نسق ثقافي أن يضبط الدموع ويحدد دلالاتها وقراءاتها الممكنة. بل إنه يضع صنافة للدموع يمكن أن نتبين من خلالها الدموع الصادقة، المرائية، المشروعة، الشريفة، المدلسة والوقحة.

ومادام ليس هناك أقدر على إخراج دمع من المآقي أكثر من دمع آخر، وليس هناك أقدر على الإقناع من دمعة، فإن الدموع سكنت الفن والأدب منذ أزمنة قديمة، وكان أبلغ ما تهدف له التراجيديات الأولى هو الإتحاد في الدمع بين الممثلين والجمهور ليتحقق الكاتارسيز الجماعي.

هناك بالتأكيد تاريخ للدموع يمكن كتابته داخل كل لغة وثقافة، وقد كتبت آن  فانسان_ بيفو “تاريخ الدموع في القرنين الثامن والتاسع عشر”، وكتب توم لوتس: “البكاء :التاريخ الثقافي والطبيعي للدموع”، واشتغل المسرحي الفرنسي جان فابر في عمل مسرحي وكوريغرافي على تاريخ الدموع.

يمكن كتابة تاريخ ضخم جدا للدموع في الثقافة العربية الإسلامية من “قفا نبك” إلى دموع تجار الدين في الفضائيات، مرورا بمكانة الدموع في المتون الشعرية والدينية وفي ممارسة التجهد الصوفي وفي كرامات الأولياء وفي التاريخ السياسي وفي السير والقصص والأغاني الشعبية والأمثال… تاريخ طويل رخصت فيه الدموع حتى صارت ترابا وتسامت حتى صارت لؤلؤا تنجبه عين الحبيبة، تاريخ طويل تداخلت فيه دموع الخسارات الفادحة الصادقة بالدموع المشبوهة أو الاستعراضية… تاريخ تشتبه فيه دموع كثيرة لكننا لا نعلم من بكى ممن تباكى…

ما الذي منع ميسي المثخم بثروة هائلة أن يتنازل عن كل شيء ويبقى في برشلونة ولو بدون مقابل!؟ لماذا كل تلك الدموع وكل تلك الفجيعة وبامكانه أن يقول كلمة واحدة: سأبقى، ينهي بها عذابه وعذاب جمهوره ويدخل بها آخر القلوب المتمنعة!؟

لدموع ميسي في وداع فريق برشلونة شأن عظيم في تاريخ الدموع التي ذرفتها البشرية. إنها أكثر دموع شوهدت مباشرة في التاريخ، وأكثر دموع شغلت الناس بين باك معه ومتأثر ومشكك ولا مبال. إنها دموع نادرة ثمينة واسثتنائية لأنها، حين كانت تسيل، كانت تنهي وفاء بين لاعب وفريق أوشك أن يصير وفاء أسطوريا.

أرادت دموع ميسي أن تفحم وأن تعيد اللاعب الخارق إلى إنسانيته المفقودة… إنسانية رأت دوما في حالات الانكسار والهشاشة جوهرا يحمل في ذاته برهان صدق تام. لقد ربت البشرية، دوما، ضعفا كبيرا إزاء دمع يذرفه جبار يوجد في أعلى التراتبية دينيا أو سياسيا أو عسكريا أو شهرة، ولم تصدق أحدا مثلما صدقت دموع بطل وزعيم كانت تتصور بأنه لا يقهر…

دخل ميسي مكان حفل الوداع وهو يبكي، وقبل أن ينطق بالكلمة الأولى، كان قد قال كل شيء: أنا محطم تماما. أنا حزين جدا لأنني سأفارق فريقا هو بمثابة أم ثانية لي.

بكى ميسي بصدق وحرقة لا شك فيهما، وبما أن أشد بكاء وأصدقه هو ذاك الذي يواجه القدر والمشيئة العلوية، فإن بكاء ميسي حاول أن يدرج نفسه تحت اليافطة العريقة منذ أن اكتشف الإنسان بأن مصيره ليس بيده: البكاء  بين يدي العجز عن تغيير القدر.

لكن، ما الذي منع ميسي المثخم بثروة هائلة أن يتنازل عن كل شيء ويبقى في برشلونة ولو بدون مقابل!؟ لماذا كل تلك الدموع وكل تلك الفجيعة وبامكانه أن يقول كلمة واحدة: سأبقى، ينهي بها عذابه وعذاب جمهوره ويدخل بها آخر القلوب المتمنعة!؟

ربما أقنعت دموع ميسي العالم كله، لكنها فشلت في إقناع أسرته لسبب بسيط هو أنهم أبناء الشريعة نفسها، وهم يعرفون أكثر من غيرهم بأن الدموع مؤقتة وعابرة والمال مقيم، ويعرفون أن الرجل رتب منذ وقت طويل أمر انتقاله لباريس

في كل بكاء تراجيدي تمزق بين حدين، وفيه إذعان للقدر.

يصارع البطل التراجيدي وهو يعرف بأن المآل لا يتوقف على إرادته وشجاعته بل هو رهين بما قيد له.

في النشيد السادس بالإلياذة، يصيح هكتور: “أقول: لا أحد يفلت من قدره”.

تقوم التراجيديات الحقة على تعارض كبير بين ضعف الإنسان عن مواجهة القدر ونبله في محاولة ذلك، مهما كلفته هذه المحاولة من محن: الموت، الجنون، التشرد، المنفى والعذاب الأبدي.

في المواقف التراجيدية، هناك دوما إله يحب الدموع ويرعاها ويتعهدها لأنه هو من جعلها ممكنة وحارة ومدرارة. هناك دوما إله بلا قلب يصنع الشقاء الإنساني ويلتذ بالدموع حين يوصل الألم إلى منتهاه. فمن هو، يا ترى، هذا الإله الذي منع ميسي من البقاء في فريق حياته!؟ من هو هذا الإله الشرير الذي كمن في تفاصيل مالية وقانونية ودفع لاعبا أسطوريا للخروج صاغرا بدون نبل الصراع حتى النهاية!؟

لقد كبر ميسي وهو يرى ما معنى أن تملك وأن لا تملك، وخبِر كيف أن المال صحح مشيئة الرب وزاد في طوله، وكلما مس شيئا حوله إلى ذهب… هو يربح ومن يتحلقون من حوله يربحون، والمال سيول تنتظر من يهيء لها منحدرا مناسبا.

انتبه رسين مبكرا، في بدايات أزمنة الحداثة، إلى أن التراجيديا لم تعد في حاجة للدماء والموت، بل للعواطف الملتهبة من حسد وغيرة وكراهية وجشع.

لقد حدس رسين، رغم ارتباطه القوي بالتراجيديات الإغريقية، تشكل عالم جديد ستطرد فيه القيمة التبادلية القيمة الاستعمالية، وسيسيطر فيه التاجر على الفلاح، وتنتصر فيه المدينة على القرية، والسوق على المجتمع، والتشييء على المعاني والغايات، ويخرج فيه الفرد من رحم الجماعة إلى قساوة العزلة… عالم سيصمت فيه الرب وتتكلم أوساط المال، ولاشيء سيقدس مثل المنفعة والربح.

يبكي ميسي لوعة الفراق لأن إله السوق شاء ذلك ولا مرد لمشيئته، ولأن ملايين الدولارات لا يمكن أن ترفض أبدا، تنتظره بعد آخر دمعة.

بكى ميسي ومسح دمعه بنفس اليد التي تأكلها نشوة الملايين المعروضة من فريق باريس.

كان ميسي، وهو يبكي، ابنا بارا للسوق ولقوانينه ومشيئته. ولم لا يكون كذلك وقد تربي في عالم لا يرحم وتكفلت به وهو معاق النمو يد صناعة النجوم وهيأت له رعاية طبية جعلته ينمو لا بقدراته الذاتية وإنما بقدرات حقن باهضة الثمن.

وبما أن لا أثر في كرم صناعة النجوم لروح الخيريات، فهي تراهن على أن كل دولار صرفته سيدر أضعاف أضعافه، فإن أسطورة ميسي الكاملة كمنت في جعل جسد ضعيف كان منذورا للعجز يخلق كل تلك العجائب في الملعب ويصير آلة لإنتاج المال.

ميسي ليس هو توتي روما ولا ديل بيرو ولا ميدفيديف ولا بوفون الذين فضلوا الوفاء على المال وحكموا قلوبهم فقط في أمر البقاء. ميسي إبن إقتصاد الفرجة وتشييء القيم

كل شيء في ميسي يباع… كل شيء يقوم به ميسي يباع… إنه عجل الأزمنة الحديثة الذهبي. ولا يمكنه، مهما كانت لوعته صادقة، أن يتنكر للعالم الذي كبر فيه والذي يدين له بكل شيء ولا يقدس، رغم كل حركاته الدينية ورغم إشاراته المتكررة نحو السماء ورغم إسمه نفسه، إلا المال.

لقد كبر ميسي وهو يرى ما معنى أن تملك وأن لا تملك، وخبِر كيف أن المال صحح مشيئة الرب وزاد في طوله، وكلما مس شيئا حوله إلى ذهب… هو يربح ومن يتحلقون من حوله يربحون، والمال سيول تنتظر من يهيء لها منحدرا مناسبا.

ميسي ليس هو توتي روما ولا ديل بيرو ولا ميدفيديف ولا بوفون الذين فضلوا الوفاء على المال وحكموا قلوبهم فقط في أمر البقاء. ميسي إبن إقتصاد الفرجة وتشييء القيم. إنه إبن عالم لا يؤمن إلا بالربح ولا شيء غير الربح.

من كانوا يفهمون جيدا الوضع هم عائلة ميسي. لقد شاهدنا جميعا كيف أن زوجته كانت متماسكة إزاء دموعه وانشغل أحد أبنائه بهاتفه وبدى على ابنيه الآخرين عدم مبالاة تامة بانهيار والدهم.

في المواقف التراجيدية، هناك دوما إله بلا قلب يصنع الشقاء الإنساني ويلتذ بالدموع. فمن هو، يا ترى، هذا الإله الذي منع ميسي من البقاء في فريق حياته!؟ من هو هذا الإله الشرير الذي كمن في تفاصيل مالية وقانونية ودفع لاعبا أسطوريا للخروج صاغرا بدون نبل الصراع حتى النهاية!؟

ربما أقنعت دموع ميسي العالم كله، لكنها فشلت في إقناع أسرته لسبب بسيط هو أنهم أبناء الشريعة نفسها، وهم يعرفون أكثر من غيرهم بأن الدموع مؤقتة وعابرة والمال مقيم، ويعرفون أن الرجل رتب منذ وقت طويل أمر انتقاله لباريس.

لنقل، إذن، بأن دموع ميسي تنتمي لعالم مضى، عالم الوفاء، الصدق، الإخلاص، العيش للآخرين… بينما قراره ينتمي للراهن، لعالم القيمة التبادلية وعبادة الربح والبحث عنه أينما كان.

بكى ميسي ومسح دموعه بورق كلينيكس. إنها الحركة التي يقول عبرها باكٍ، بأنه لا يتحكم في دموعه، وإنها أقوى منه، ويقول أيضا بأن دموعه ينبغي أن تبقى سرية، تذرف من وراء ستار أو في غرفة مغلقة… والباكي بتلك الحركة يحاول أن يجعلها كذلك.

ورق الكلينيكس هو آخر محاولة لإرجاع الدموع للطاعة، فالرجال لا يبكون في العادة؛ وحين يفعلون، فإن ذلك يكون في عزلة تامة. أما حين يفعلون ذلك علانية، فهذا يعني أن القهر قد بلغ فيهم مبلغه.

كان مشهد ميسي وهو يصارع دمعه لحظة جليلة ومؤثرة وسامية، غير أن بؤس عالم المال ودأبه على تحويل المآسي إلى مهازل عبث بجسامة هذه اللحظة وقدم ورق الكلينيكس للبيع بمليون دولار…

لا تصدق بكاء لاعب، صدق رنين المال فقط. إن كنت تحتاج لدليل، أنظر للسرعة التي لملم بها ميسي انكساره ودموعه وشاهد ضحكته الأوسع من شارع الشانزيليزي في شرفات باريس…

مقالات قد تهمك:

تعليقات

  1. أحمد مستاد

    جميل أن يمحص جويطي رمزية هذه الدموع..لكنه نسي أن ميسي وافق على تخفيض رلتبه للنصف..وافق على البقاء في فريق متهالك غادره السحرة (إنيستا وتشافي وألفيس) بينما ظل هو كالإله الوحيد يحمل مستقبل فريق بأكمله ويسد كل ثقوبه ويؤجل الخسارات التي مست حبي لهذا الفريق، في المقال تجسيد لأحلام الشعراء؛ حلم أن يقبل ميسي بسنة بيضاء دون فريق فقط ليؤنسن قيم الوفاء والاعتراق بالجميل.كان يمكن لهذا الساحر أن يقاضي فريقه السنة الماضية أو أن يغادر عندما توقفت برشلونة عن الهيمنة وصناعة الكرنفال، لكن رحيله يثبت أن لاوجود للأشياء اللامتناهية وأن لاشيء يدوم سوى المرارات بتعبير جويطي نفسه.

اترك رداً على أحمد مستاد إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *