عبد الكريم جويطي يكتب: مجنون الكرة… محمد التيمومي السائر في السماء - Marayana - مرايانا
×
×

عبد الكريم جويطي يكتب: مجنون الكرة… محمد التيمومي السائر في السماء

في الحلقة الثانية من سلسلة “مجنون الكرة” التي يكتبها لــ “مرايانا”، يأخذنا الروائي المغربي عبد الكريم جويطي إلى عوالم التيمومي…”السائر في السماء”.
محمد التيمومي… لعب الكرة بأناقة وترفع وكبرياء من بإمكانه أن يلعب في الأرض وفي السحاب، وتحرك في الملعب بفرح نحلة ودأب نملة، ونثر الشعر والخيال.
لاعب الكرة بمهارة راقص وإبهار ساحر، ونقلها بدقة حيثما شاء. وزع الهدايا على المهاجمين من هنا وهناك. وتسلح بأعين كثيرة في رأسه يرى بها كل الجهات.

عبد الكريم جويطي

… حين تراه وهو متأثر، أو متألم، أو شارد، حين ترى الدمع يتلألأ في عينيه وجبهته تتغضن وتقاسيم وجهه الأخرى تتداعى من الوجع أمام شهادة في حقه أو استحضار ذكرى أو مشهد، حين ترى ذلك الوجه السمح الهادئ غير القادر على أن يحتد ويحقد ويلحق الأذى ولو بذبابة، وجه من امتلك صفاء رؤية الحياة كشيء مليء بالخذلان والفقد والخسارات المتوالية، تتعجب من النار التي كانت تضطرم داخل هذا الرجل وهو يملأ الملاعب الوطنية والدولية بحضوره اللافت. تتعجب أكثر كيف كان يسمح لنفسه بأن ينافس ويتحدى! كيف كان قلب هذا الزاهد الكبير يطاوعه ويدفعه للبحث الشرس عن الانتصار ورؤية الانكسار والأسى في عيون المنهزمين؟ كيف كان هذا الملاك يتحمل رؤية الألم الذي سببه، هو وزملاؤه للآخرين؟

بدا لي التيمومي دوما من أولئك القادمين للحياة لا لينالوا شيئا منها، بما في ذلك الشهرة والمال والانتصارات العابرة، وإنما ليقدموا، بحياتهم نفسها، شهادة على أننا يمكن أن نحيا بهدوء ووقار، دون أن نغضب أو نزاحم بشراسة أو نؤدي الآخرين في طريقنا لحيازة مكان تحت الشمس. مادامت الحياة لعبة كبيرة لا أحد يخرج فائزا فيها لنلعب، إذن، لعبتنا الصغيرة بتواضع شديد، وبأقل ما يمكن من تفاخر وأكثر ما يمكن من تواضع.

لكل هذا… التيمومي هو المغربي الوحيد الذي لا يصدق بأنه أسطورة حية، وهو الرمز الوطني الذي لا يأخذ نفسه مأخذ الجد، وهو الشهير الذي يتمنى لو يمتلك طاقية إخفاء حين يبدأ الناس في الحديث عنه…

ولد التيمومي بموهبة لا تخطئها العين. وهو فتى يلعب في الملاعب الصغيرة المرتجلة، التي يهيئها الأطفال على عجل في الأزقة الضيقة وفي الساحات وفي البقع المنذورة للإسمنت، كان كل من يراه يلعب يجزم بأن الولد سيكون نجما كبيرا.

لم يكن على الفتى الموهوب أن يبذل جهدا خاصا ليلعب مع من هم أكبر منه ويتفوق عليهم. ولماذا لا يفعل ذلك، هو من دفعته الوفاة المبكرة لوالده لأن يكبر وبسرعة في ملعب الحياة الواسع والخطير. لم تكن الجوهرة الصغيرة التي استحقت مكانا راسخا ضمن فريق اتحاد الكرة التواركة لتفلت من عيني كليزو الثاقبتين، مدرب المنتخب الوطني والجيش الملكي آنذاك.

كان الرجل، وعلى عادة الصيادين والمنقبين العظام، يعرف بأن المواهب الكبيرة لا تطلب في الفرق المعروفة وإنما في الدواوير وهوامش المدن ومظاليم الأقسام السفلى… هناك، حيث يخلق الشغف والعوز وحرية اللعب بدون نصائح ولا تعاليم ولا إكراهات فلتات حقيقية. هناك حيث يتعلم الأبطال مجد العرق وفضائل الجهد وقيم الصبر والاستماتة وروح النصر التي لا يوقفها شيء.

لم يُعلم اللعب مع كبار فريق الجيش الملكي بأسمائه الرنانة التيمومي أشياء جديدة. لعب كما كان يلعب بتلذذ وحرية وعدم اكتراث. حاز رسميته من أول مقابلة، وبعد حين من الدهر صار الركيزة التي سُيبنى عليها عهد جديد لفريق أنقذه الملك من سقوط مهين للقسم الوطني الثاني. بل إنه سيكون كذلك بالنسبة للفريق الوطني بعد الهزيمة المذلة أمام الجزائر في الدار البيضاء.

كانت، في حالة فريق الجيش والمنتخب الوطني، نهاية مأساوية لجيل كامل من اللاعبين والمسيرين. ولأن الخسارات الفادحة تمتلك روحا ثورية، فهي تنتهي وتنظف نفسها لتهيء أسس البناء. بل إنها تسمح بميلاد شجيرات جديدة كانت الأشجار الهرمة تحجب عنها نور الشمس.

لكل هذا، فإن التيمومي سيقود مزيجا من اللاعبين المخضرمين والجدد لإعادة الهيبة لفريق عسكري لم يكن ينقصه شيء، وكان يكفي أن يخاطب مسؤولوه عامل مدينة ليأتي اللاعب الذي يريدونه بأوراقه في يده. سيكون عليه هو ونصف الفريق تقريبا أن يشكلوا النواة الصلبة لمنتخب وطني ينظف جرح ما وقع، ويتحامل على نفسه ليقف مجددا.

كان فريق الجيش الملكي والفريق الوطني آنذاك في حاجة لمن يلهب العواطف ويحث على السير الطويل، لمن يؤمن بأن الوصول للقمة لا يتطلب الجاهزية فقط وإنما، وبالأساس، الثقة، ووجدا في المهدي فاريا كل هذا…

غير أنه، وبعيدا عن كل الرهانات الكبرى للفريق والمنتخب، كان على التيمومي أن يربح رهانا خاصا به وحده. لن يساعده فيه أحد، ولن يعول فيه على أحد: رهان حمل القميص رقم عشرة داخل فريق الجيش الملكي، وداخل المنتخب الوطني وملء مكان تركه الأسطورة إدريس باموس منذ سنوات، وبدا أكبر بكثير من كل أولئك الذين حاولوا تعويضه… مقابلة بعد مقابلة وسنة بعد سنة، ومع تراكم الخبرة، لم يتمكن التيمومي من تعويض باموس، بل إنه حاز مكانة كبير من كبار الكرة المغربية بشكل لا جدال فيه…

لعب التيمومي بأناقة وترفع وكبرياء من بإمكانه أن يلعب في الأرض وفي السحاب، وتحرك في الملعب بفرح نحلة ودأب نملة، ونثر الشعر والخيال في مفاصل فريق عسكري مخلص لعسكريته. وكان حاجة آلة الانضباط والصرامة تلك ونورها لكي لا تمضي بعماء في أداء دورها.

لاعب الكرة بمهارة راقص وإبهار ساحر، ونقلها بدقة حيثما شاء. وزع الهدايا على المهاجمين من هنا وهناك. وتسلح بأعين كثيرة في رأسه يرى بها كل الجهات.

ربطته بالكرة عروة وثقى، تنشد له وينشد لها بطاقة مغنطيسية. وإن أراد أن لا تأخذ منه الكرة فلن تأخذها. في عز تألقه كان بإمكانه أن يجعل فريقا كاملا يركض خلفه. هو من يدير العمليات ويخطط للهجوم، هو من عليه إيجاد الحلول بل إبداعها.

كان التيمومي هو الوردة التي تقود دبّابة، وبفيض من إبداعاته الفنية، تمكن فريق الجيش الملكي من أن يجمع القوة والفعالية بالذكاء الخلاق، يجمع اندفاع وصلابة الجند برقص الغجر الذين يقدمون الفرجة في الطرقات.

بسط فريق الجيش الملكي مع التيمومي وجيله من اللاعبين سيطرته على البطولة الوطنية، وفي طريقه للسيطرة على الكرة الإفريقية، سيتطوع لاعب مغمور اسمه جمال عبدالله من نادي الزمالك المصري لتهشيم كعبه تماما، وسيدخل تاريخ الكرة بذلك الاعتداء. كان كأس العالم في المكسيك على الأبواب وعمل فريق طبي على إعادة التيمومي للميادين بأسرع وقت ممكن. ورغم كل الشكوك التي أحاطت بهذه العودة، فإن التيمومي فاجأ العالم في المونديال ولعب كما كان يلعب دوما، وزرع من حوله الدهشة والافتتان.

هل تحرر أيامها من آثار حادث جمال عبدالله؟ لا. وعلى عادة الفرسان الكبار حين يتحاملون على أنفسهم وهم يخفون الطعنة الغادرة لينجزوا آخر فعل بطولي، تحامل التيمومي على نفسه ولعب كأنه دفن الماضي تماما. لقد التأمت عظام كعب التيمومي على بعضها لكن الكسر تجاوز الكعب واستقر في القلب تماما. بعد انتفاضة الكبرياء، ورغم أنه سيحترف في إسبانيا وبعدها في بلجيكا فإن التيمومي لم يعد هو نفسه.

كان كل من رآه يلعب يحس بأن الرجل فقد شيئا ما. لم يعد يلعب بنفس الثقة. لم يعد يدخل الالتحامات بنفس الاندفاع. كان الخصم عائقا يسهل اجتيازه. أما بعد الاعتداء، فقد صار خطرا ينبغي الابتعاد عنه… بعد سنوات من اللعب المتعثر، سيعلق التيمومي الحذاء كما يقال ليعيش مع آلام في ركبته محنَ أداء الثمن الفادح لكل ما أنجزه بها في مساره. وستُظهر الحياة، مرة أخرى، بأنها تعطي وتأخذ، وأنها تحول النعمة إلى نقمة وتظهر بالأساس بأن لكل شيء ثمنا…

من ألم لألم ومن عملية جراحية لأخرى، يجرجر التيمومي محن ركبته ويجرجر معها ثقل ماض مجيد جعل منه رمزا وطنيا أحبه المغاربة بدون استثناء: من منا لا يحب التيمومي!؟ وحين يستحضرونه، لا يستحضرون فنياته فقط وإنما يستحضرون معها طيبته واحترامه للخصوم ونبله في الفعل والقول…

اقرأ أيضا:

. “مجنون الكرة”… عبد الكريم جويطي يكتب: الظلمي الذي رأى ما لا يراه الآخرون. (الحلقة 1)
. هشام روزاق يكتب: اعترافات رجاوي… تلك الفرحة التي نستحق

. في عشق الوداد والرجاء. من نيويورك، هشام الرميلي يكتب: الوجـــاوي

. حين كان ماكيافيلي لاعبا ودافنشي مشجعا! كرة القدم… لعبة الرعاع والمجرمين! 1/2

تعليقات

  1. محمد سالم

    مقال رائع عن لاعب خلوق مثل المغرب في منتخب العالم وحاز على الكرة الذهبية في افريقيا واستحق بجدارة لقب الجوهرة السوداء ولعله آخر من استحق حمل الرقة 10 وطنيا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *