أحداث فرنسا… حين تغلّب الفقيه على الرسول
قال ابن القيم: “إن عدم قتل المنافق المعلوم إنما هو في حياة الرسول صلى ﷲ عليه وسلم فقط”، بهذه الفتوىٰ يكون ابن عثيمين قد نطق بما في نفس محمد نبي الإسلام على الرغم من عدم خوض الأخير في المسألة.
ليس الأمر محصوراً بين ابن القيم وابن عثيمين فقط، بل يقرر في ذلك ابن تيمية من جهته أيضا، بقوله: “… الآن قد تعذر عفوه (يقصد الرسول) بموته، فبقي قتل الساب حقا محضاً لله ورسوله وللمؤمنين لم يعف عن مستحقه، فيجب إقامته”.
ربّما، على غير العادة، أجازفُ وأراهن أن “أغلب” من ينتفض اليوم دفاعاً عن محمد نبي الإسلام، لم يُطالع سيرته، عدا أن يقرأ بتمعنٍ ما تحملُ حياته ما بين “الجاهلية” و”الإسلام” من دلالاتٍ وأبعاد.
هذا الدفاع المحموم لا يعدو أن يكون “حميّة” تحرك الفرد المُسلم ضمن إطار “جمعي” للذات المسلمة، دون أن يدرك كُنه الشَّخصية التي يدافع عنها، وذلك في ظل صراع مؤدلج، تقوده تيارات متطرفة، تنفضُ الغُبار عن عنف-داخلي دفين يُحاول أن يجد مسوغات دينية لإخراجه إلى العلن حتى يصير “عنفا مستباحا”، أو يسعىٰ إلى أن يتعلق بأستار الحرية للتنفيس عنه، فيمسي “عنفا مُشرعنا”.
لاغرو، إذن، في كون ضحايا الإرهاب، من أي جهة كانت، هم -بالضرورة- ضحايا العنصرية والتطرف، ضحايا بكل ما تحمل الكلمة من مدلولات، دون خوض في التفاصيل.
يمكن القول، اليوم، إن عبارة “الإسلام بريء” لم تعد مجدية في ظل “توحُّش” المسلم المحسوب على الإسلام، والذي يتصدى للدفاع عن الإسلام عن طريق السب والشتم، وأحياناً القتل، مستنداً في فِعله إلى الموروث الفقهي بُغية “شرعنة الذبح”، مما يُظهره بمظهر المُصاب بـ “السُّعار الديني”.
الإسلام دين السَّلام…
بشرط… أن تخضع له!
اقرأ أيضا: العصر الذهبي للدولة الإسلامية… حين شهد الإمام مالك على فساد العصر 4/4
هذا لسان حال المُسلم في شتى بقاع المعمور؛ إذ ينطلق من مُسلَّمات دينية لا تقبل النقاش لكونه يعتمد في تفسير الآية القرآنية “ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه” على موروث فقهي “جاف” لا يعترف بكينونة الآخر إلا بقدر ما ينصاع الآخر لمُعتقده؛ وإلا فإنه، بخروجه عن دائرة الإسلام، يمسي بلا قيمة… عرضه مستباح… دمه مهدور… حُقَّ أن يُجزَّ رأسه عن جسده دون اعتبارٍ لكينونته-الإنسانية.
لئلا تكون المسألة في نطاق إطلاق الكلام على عواهنه، يمكن الرجوع إلى أدلة ما سبق ذكره، عن طريق البحث في الموروث الفقهي، القائم على “شرعنة الذبح”، والذي يتجاوز “المُشرع” نفسه إلى “شرعنة” ما يخدمه، ولو على حساب إزهاق الأرواح.
قبل الخوض في “حُكم سابّ الرسول” في الموروث الفقهي، جاز التساؤل ماذا كان سيكون موقف محمد نبي الإسلام ممن تعرض له بالسب أو التجريح؟!
لنفترض، جدلا، أن محمد نبي الإسلام، بين ظهرانينا اليوم، وحدث ما حدث. أي تصرف يمكن أن يصدر عنه في ظل اللّغط الدائر والعنف المستباح؟
اقرأ أيضا: “نصوص متوحشة”: هكذا وطّد ابن تيمية خطاب التكفير في التراث الإسلامي 4/4
أعتقد أن الجواب يبقى عند ذات الشخصية. بيد أنه من حق الكل، اليوم، محاولة معرفة الجواب، على الرغم من صعوبة معرفة ذلك يقيناً.
لكن، ربما يسعفنا في هذا الرجوع إلى شخصية محمد نبي الإسلام كشخصية مذكورة في القرآن بكونها تتسم بالرحمة (فبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)[1]. نفسه المُخاطِب يتحدث في المرحلة المكية بقوله: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)[2].
لا يقتصر الأمر على المرحلة المكية فقط، بل تعدى ذلك إلى العهد المدني (مرحلة التمكين) حيث تتوضح صورة التعامل مع يهود المدينة بالقول: (وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[3].
ألا يمكن، مما سبق، أن نستشف أن صاحب الشأن، نفسه، لا يُعير بالا لمثل تلك التصرفات؟ وربما لو وُجد اليوم، لاتخذ الأمر هُزءً وابتسم كما لو أنه سمع نكتة، كعادته زمن “الجاهلية” يوم وُصف بمذمم، يبتسم ويرد: (ألا تعجبون كيف يصرف ﷲ عني شتم قريش ولعنهم، يشتمون مذمما، ويلعنون مذمما، وأنا محمد)[4].
لكن، ما سر التحول من السماحة والعفو عمَّن سب محمد نبي الإسلام إلى رد الإساءة بالمثل، بل بالقتل حتَّى؟
الجواب عند الموروث الفقهي الذي اتخذ فيه الفُقهاء دور الرسول، بل تعدوه إلى الحديث بلسانه وإصدار الحُكم مكانه. لنقرأ ما يلي: “أليس الغالب أن الرسول صلى ﷲ عليه وسلم يعفو عمن سبه؟ أجيب: بلى، وربما كان العفو في حياة الرسول صلى ﷲ عليه وسلم متضمنًا المصلحة، وهي التأليف، كما كان صلى ﷲ عليه وسلم يعلم أعيان المنافقين ولم يقتلهم؛ “لئلا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه”، لكن الآن لو علمنا أحدًا بعينه من المنافقين لقتلناه؛ قال ابن القيم: “إن عدم قتل المنافق المعلوم إنما هو في حياة الرسول صلى ﷲ عليه وسلم فقط”[5]، بهذه الفتوىٰ يكون ابن عثيمين قد نطق بما في نفس محمد نبي الإسلام على الرغم من عدم خوض الأخير في المسألة.
ليس الأمر محصوراً بين ابن القيم وابن عثيمين فقط، بل يقرر في ذلك ابن تيمية من جهته أيضا، بقوله: “… الآن قد تعذر عفوه (يقصد الرسول) بموته، فبقي قتل الساب حقا محضاً لله ورسوله وللمؤمنين لم يعف عن مستحقه، فيجب إقامته”[6].
من هُنا، أمسى الفقهاء ناطقين رسميين، باسم محمد نبي الإسلام، وباسم الإسلام ككل إذا اقتضىٰ الأمر، ومنه صار (تكفير من سب النبي واجب، وقتله من أوجب الواجبات)، ومن ذلك ما جاء على لسان ابن المنذر: “أجمع عامة أهل العلم على أن من سب النبي عليه القتل، وممن قال ذلك: مالك والليث وأحمد وإسحاق، وهو مذهب الشافعي”[7].
ونقل أبو بكر الفارسي أحد أئمة الشافعية: “أن من سب النبي مما هو قذف صريح: كفر باتفاق العلماء، فلو تاب لم يسقط عنه القتل؛ لأن حد قذفه القتل، وحد القذف لا يسقط بالتوبة”[8].
اقرأ أيضا: كيف نطهر الإسلام من الإرهاب ؟
قال ابن حزم: “كل من آذى رسول ﷲ فهو كافر مرتد يُقتل ولابد”[9].
ماذا لو أسلم من أساء اليوم لمحمد نبي الإسلام، هل ينجو من القتل؟
قطعاً، لا.. “لا يسقط الإسلام قتله؛ لأنه حق النبي، وجب لانتهاكه حرمته، وقصده إلحاقه النقيصة والمعرة به، فلم يكن رجوعه إلى الإسلام بالذي يسقطه، ولا يكون بأحسن حالا من المسلم”[10].
بناءً على ما سبق من أحكام مدسوسة في الموروث الفقهي، لا يمكن أن يستغرب المرء ما فعله منفذ هجوم كنيسة نوتردام بمدينة نيس، الهجوم الذي أسفر عن مقتل 3 أشخاص طعناً وذبحاً؛ فهو طبَّق ما نظَّر له الفقهاء، سابقاً، من “شرعنة” لفعل الذبح، وإباحة العُنف لفظياً كمعايرة ماكرون بزوجته أو جسدياً كذبح الأستاذ أو قتل الأشخاص الثلاثة.
يبقى أن الرد الفرنسي على العمليات الإرهابية، نعم، أشعل فتيل النار في تلابيب مشاعر ربع البشرية المسلمين، مما ضيق الخناق عليهم، ودفع بهم إلى زاوية الإحراج. هذا الأمر دفع التطرف الديني إلى درجة كبيرة من التضاد مع دول اللجوء، الشيء الذي تسبب في إعطاء صورة سيئة عن فرنسا. بيد أنه، على الرغم من هذا، لا يمكن، بأي حال من الأحوال، تبرير العنف وشرعنة فِعل القتل، من أي جهة كانت، مهما بلغت حدة الأمور…
اقرأ أيضا: لماذا نستطيع السخرية من الأديان لكننا لا نستطيع إنكار الهولوكوست؟
[1] سورة آل عمران، الآية: 159
[2] سورة الحجر، الآية: 85
[3] سورة المائدة، الآية: 13
[4] رواه البخاري
[5] فتاوى العقيدة للشيخ ابن عثيمين: ص157 – 158
[6] الصارم المسلول، 2/16
[7] تفسير القرطبي، 4/432
[8] فتح الباري شرح صحيح البخاري، 12/348
[9] المُحلى، 11/414
[10] الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، 8/81