كوثر بوبكار، من أبرز الباحثين في ميدان النانوتيكنولوجيا في العالم، تكتب: وسائل التواصل الاجتماعي… مقبرة العقل النقدي؟
في الوقت الذي أصبحت المعلومة تحاصرنا من كل جانب، وبدأت الجنود الإلكترونية تعوض الجنود المسلحة في الهجوم على الأعداء والمنافسين، یصبح التفكير النقدي ضرورة ملحة، وأولوية مجتمعية…
وقد أبانت جائحة كورونا مثلا على خطر غیابه.
أثارت محاولة الرد على قولة منسوبة للجابري، من طرف أحد الشباب، موجة من السخرية عند البعض، والتأييد المغيب للعقل، عند آخرين…
بداية، لابد من التأكيد أن من حق أي شخص أن ينتقد فكرة أو إبداعًا أو محتوى ما، لأن لا أحد فوق الانتقاد، ونحن لسنا في حاجة لأصنام بشرية جديدة، بل… ما أحوجنا لمن ينفض الغبار عن العقول ويفتح نقاشًا مجتمعيا للارتقاء بممارساتنا.
وبالتالي… لمن استهزأ بهذا الشاب، وانتقص منه لأنه تجرأ على انتقاد مفكر مغربي من قيمة الجابري، أقول… لو أنكم وجهتم جهودكم لشرح الأخطاء المنطقية والمنهجية التي وقع فيها الشاب، وناقشتموه بالتي هي أحسن، داعين إياه لامتلاك عقل نقدي تمييزي، لكفيتمونا كثیرا من النقاشات البیزنطیة الفارغة، التي تتغذى فقط على ثقافة البوز والكلاش، ولكنتم ساهمتم، حسب إمكانیاتكم، في بناء وعي فردي وجماعي لمجتمعنا.
في المقابل، إلى الشاب الذي حاول نقد الجابري، أقول… إن كان من حقك أن تمارس الانتقاد، فما العیب أن ینتقد الآخرون أیضا ما یجدونه قابلا لذلك. ومن باب الإنصاف لمن تنتقدهم، ألیس أحرى بك أن تقرأ ما انتجوه من فكر أولا، بدل أن تودع عقلك لدى آخرين یفكرون بالنیابة عنك؟
النقد ممارسة تتطلب تشغیل العقل، إضافة الى الصرامة والنزاهة الفكریة والموضوعیًة، ولابد لها من احترام أبجدیات أدبیة أقلها الاطلاع على المحتوى المعني.
لكنك بدلا من ذلك، تركت عاطفتك تحمل القولة أكثر مما تتحمل، واعتبرتها تعني أن ممارسة السیاسة سيئة، وهذا لیس منطوقا ولا مفهوما. ما العیب في ممارسة السیاسة؟ فأنت بنشر محتواك، على علاته، تقوم بنوع من ممارسة السیاسة، لأن السیاسة ببساطة… هي كل ما یعني الشأن العام.
أغلب هذه الهجمات، تتم باستعمال أحكام القیمة، والأحكام الأخلاقیة، التي تصبح مرجعیة تعلو على كل القیم العقلیة والمنهجیة. هكذا، عِوض النقاش ومقارعة الفكر بالفكر، یلجأ البعض للتبلیغ عن صفحات مخالفیهم، قصد إقفالها، أو یهجمون على أصحابها بشكل یتنافى حتى وسقف الأخلاق والقیم التي یهاجمون باسمها…
في الواقع، لا یمكن النظر إلى النقاش الاخیر بمعزل عن السیاق المجتمعي، وهو ما یدفعني إلى التأمل من جدید، في الدور الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي في هذا الأمر، فإذا كان یُروَّج أن هذه الوسائل صُمِمت للتمكن من التواصل، وتقریب وجهات النظر، وفتح باب النقاش، والتعرف على الآخر، فإن واقع الحال يقول عكس هذا تماما، إذ یكفي أن یصدر أحد رأیًا مخالفًا لما هو سائد ورائج علیها، حتى یُتهم بالمؤامرة والعمالة والتبعیة لجهة ما لترویض الرأي العام…
ويكفي أن يُصدر آخر تساؤلات عن مصدر قناعات فئة من الناس، أو ما یجعلها تؤمن بفكرة ما، وهل استعملت عقلها أو منهجًا ما للوصول إلیها، لیكون نصيبه…الهجوم والتشكیك في نوایاه وذمته.
أغلب هذه الهجمات، تتم باستعمال أحكام القیمة، والأحكام الأخلاقیة، التي تصبح مرجعیة تعلو على كل القیم العقلیة والمنهجیة. هكذا، عِوض النقاش ومقارعة الفكر بالفكر، یلجأ البعض للتبلیغ عن صفحات مخالفیهم، قصد إقفالها، أو یهجمون على أصحابها بشكل یتنافى حتى وسقف الأخلاق والقیم التي یهاجمون باسمها، حتى لو كانت هذه الصفحات تحترم سقف القوانین الجاریة، ولا تنزل لمستوى التنمر الرقمي.
يتناسى هؤلاء… أن النقاش البنّاء یبدأ بأسلوب الحوار لتقدیم الطرح، وبعدها الحجاج لتقویته وإعطائه مصداقیة، ویستوجب أخذ المسافة الكافیة بین الطرح وصاحبه، للتمكن من تبادل الأفكار بالاحترام والهدوء اللازمین، ذلك أنه -النقاش- تبادل فكري، ولیس مبارزة في حلبة ملاكمة، مع أن الملاكمة ریاضة جمیلة، لا یسمح قانونها بكل الضربات، على عكس بعض الممارسات على صفحات النت.
مرد هذا الأمر بالأساس إلى عاملين…
الأول ثقافي مجتمعي، إذ أن الناس تؤمن بأنها تمتلك الحقیقة المطلقة، فیمتزج العاطفي بالعقلي، ویصبح الأنا طاغیًا على الأفكار، ویخلط بین الحكم على الفكرة، والحكم على صاحبها في شخصنة سائدة. وقد نجد أحیانا، من یُفترض فیه أن یمثل الاتجاه المتحدث باسم الحداثة والتطور، ومن ینبغي أن یكون عقله منفتحا على النقد باعتباره أساس التقدم العلمي والفكري، یتحجر لمواقفه ویدعي امتلاك الحقیقة المطلقة… في احتقار لأسس المنطق، وفي ترسیخ لقطبیة أنت معي أو ضدي، وإن كنت معي، علیك ان توافقني في كل شيء، ویواجه المختلفین معه بالإساءة لأشخاصهم لا التطرق لأفكارهم.
هكذا… أصبحنا نرى عددا قلیلا ممن یدلي بالأفكار على صفحات التواصل، ویستدل علیها بحجج عقلیة، أو إحالات مرجعیة، في مقابل انتشار كبیر للشعبویین والمتلاعبین بعقول الناس، لأهداف… أغلبها ذاتیة نرجسیة. فكم من ممتهن للتأثیر الرقمي، لا یملك من الرشد والأخلاق إلا القلیل.
الثاني… وسائل التواصل الاجتماعي بطبیعتها لا تساعد على بناء عقل نقدي مجتمعي، من خلال ترسیخها الانحیاز التأكیدي، فهي على سبیل المثال لا الحصر، تقترح علینا المحتویات التي تتماشى وما أبدینا اعجابا به من قبل، وتحجب عنا ما یناقضه، والذي هو أساسي في مساءلة قناعاتنا، ووضع أفكارنا على المحك اللازم للارتقاء بها. بل حتى من یشعر بفخ الانحیاز التأكیدي، تراه یناقش هذا الإشكال غالبا، من شقه السیاسي فقط، ملخصا إیاه في هیمنة الرأسمالیة المتوحشة، والدولة العمیقة التي لا ترید أن یكوِّن الناس وعیا نقدیا، ويُغیِّب بذلك المسؤولیة الفردیة للشخص، الذي یودع عقله لدى من یتلاعب به ویسترزق من خلاله.
أصبحنا نرى عددا قلیلا ممن یدلي بالأفكار على صفحات التواصل، ویستدل علیها بحجج عقلیة، أو إحالات مرجعیة، في مقابل انتشار كبیر للشعبویین والمتلاعبین بعقول الناس، لأهداف… أغلبها ذاتیة نرجسیة. فكم من ممتهن للتأثیر الرقمي، لا یملك من الرشد والأخلاق إلا القلیل.
علینا أن نكون واعين… أن بعض محاولات زرع التوعیة قد تتحول لنقیضها، وأستحضر هنا بالأساس، المحتویات المرتبطة بتبسیط العلوم، التي یفترض فیها الإسهام في بناء العقل النقدي، إلا أنها أحیانا ما تنزاح للنقیض، وتعطي انطباع المعرفة عن جهل بتبسیط المفاهیم، بشكل فضفاض وغیر دقیق، ما یجعل التلاعب بالعقل باسم العلم ممكنا، على غرار صفحات الأرض مسطحة مثلا.
إن توصیل المعلومة لیس أهم من تدریس العلوم، بل الأهم، هو تعلیم كیفیة الوصول إلیها، والتأكد منها والبرهنة علیها بنفس القیمة إن لم یكن أكثر…
العقل العلمي یكون دائما في حالة تأهب لمراجعة ما یقدم له، والتدقیق في مضامینه ومفاهیمه، فالشیطان یسكن في التفاصیل. ومحتوى تبسیط العلوم الجید، هو الذي یولد عند المتلقي أسئلة وفضولا كافیین كي یبحث أكثر في ما تلقاه.
إن الطبیعة البشریة مجبولة على المیل لما یؤكد آراءها ویؤیدها بشكل غیر واع أحیانا، والتفكیر مكلف، ويتطلب تدريبا وترويضا للنفس للاعتیاد علیه، ومع ذلك… یبقى لكل منا هفواته، ولحظات ضعفه المنطقي.
ختاما… وفي الوقت الذي أصبحت المعلومة تحاصرنا من كل جانب، وبدأت الجنود الإلكترونية تعوض الجنود المسلحة في الهجوم على الأعداء والمنافسين، یصبح التفكير النقدي ضرورة ملحة، وأولوية مجتمعية… وقد أبانت جائحة كورونا مثلا على خطر غیابه.
“ما تهمني القوة العاقلة فيّ، إذا لم تطلب الحكمة بجوع الأسد”. فریدیریك نیتشه.
تحية طيبة وبعد، قرأت مقالك ولا أظن أن من لم ينعتق من إسار الأيديولوجيا ويرتقي إلى رحاب الإبستيمولوجيا بمقدوره أن يعي أبعاد ما تطرقتي إليه.
أظنك سيدتي أنت من استضافك الأستاذ أحمد سعد زايد في إحدى حلقاته وكانت مخصصة لمناقشة الذكاء الاصطناعي.
فخرت بأفق تفكيرك حتى أنني حدثت كثيرا من الأصدقاء المهتمين بالفكر عنك، وتقفيت أثرك في مواقع التواصل ولم أظفر بنتيجة.
أ جو أن يصلني رابط لتتبع أفكارك.
كل التحية والتقدير لك.
جميل ورايع، وما احوجنا الى فكر نقدي نير ، ينير هيمنة وسواد العقل والفكر
تحياتي