العقاب الإلهي… بين كورونا وأبي النعيم!
يظلّ العقل السلفي قاصرا على استيعاب خطورة الأمراض المزمنة والأوبئة الفتّاكة؛ ولا يهمه سوى الترويج لخطابه السلفي/الماضوي الذي لا يعير بالا للمتغيّرات الزمانية والظرفيات المكانية، ولا يرى في لحظات الأزمات سوى فرصة لتسويق نفسه كمشروع أيديولوجي قادر على إنقاذ المجتمع من العقاب المافوقي/الإلهي.
يُقال إنّه “من قلب الأزمة، تولد الفرصة”…
ولأن الأزمة اليوم تتجلى بالأساس في انتشار فيروس كوفيد 19 أو ما عُرف ب(كورونا)، فقد وُلدت من رحم هذه الأزمة فرصة مواتية لمعتنقي الخطاب الديني/السلفي المتطرف. الأخير روّج لفكرة مفادها أن الأوبئة “جند من جند الله” أو “رسالة إلهية: للتنبيه وتصحيح الخطأ والخلل أو التقصير في الإيمان.
هذه الفكرة بدت مسيطرةً على التيار السلفي؛ فهي بمثابة إجابة يقينية جاهزة بشأن تفشي الأوبئة والأمراض؛ على اعتبار أن الأخيرة عقاب إلهي محض؛ في تماهي مع “العقيدة الجبرية” التي تُعيد أحوال الناس إلى إرادة الله، وتنفي في المقابل الإرادة الإنسانية في تعبير عن استقالة هذه الإرادة البشرية.
بهذا تغيب التفسيرات المنطقية التي يتبنّاها العقل النقدي للأمراض والأوبئة، وتُعوّض في مقابل ذلك بتأويلات خرافية تدعم الفكر الأسطوري المتمثل في العقاب الإلهي للأقوام “الضّالة”؛ والتي حادت عن طريق الإيمان، وانغمست في ملذات الحياة. ومن هنا يبدأ الخطاب السلفي في الترويج للمسألة على أنها محض إرادة إلهية تتصرف وفق ما تشاء؛ في محاولة للدعوة إلى الإستسلام للأمر الواقع.
كورونا… عقاب إلهي؟!
لا يتوقّف الأمر عند هذا الحد وحسب؛ بل يتعداه إلى اعتبار أي إجراء وقائي ضد الأوبئة اعتراضا على القدرة الإلهية، أو خروجا عن العقيدة وعدم إيمان بكون تلك الأوبئة والأمراض “بلاء موجه للكفار” و”رسالة إلهية” لتقويم سلوكات “المؤمنين”، في محاولة لتمرير خطابات دينية خاطئة تقوم على التهويل والتخويف النابع من التشبع بالفكر الأسطوري المعزِّز للعقل الإنهزامي المستسلم للإرادة المافوقية.
بهذه الخلفية، يبدو المرض أو الوباء كما يصوره الخطاب السلفي بشكل أو بآخر عقابا إلهيا صِرفا لا ينفعه معه شئ سوى “التضرع والدعاء” والعودة إلى الله؛ إذ لم يكن الوباء في حد ذاته كما يتصور العقل السلفي سوى نتيجة لانتهاك “المُحرّم”.
في ذات الوقت، يستثمر الخطاب السلفي لحظة الوباء لإعادة توجيه المجتمع إلى صلاحية وأحقية المشروع السلفي كمشروع أيديولوجي قادر على إنقاذ المجتمع من براثن “الإبتلاء الإلهي” كونه “الأقرب إلى السلف” وعليه، فإنه “الأقرب من الله”، حسب المعادلة السلفية المسوّقة عند النسيج المجتمعي.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى يروج الخطاب السلفي إلى فكرة مفادها أن إغلاق المساجد في زمن الأوبئة ارتداد عن الإسلام؛ كمثال على ذلك الفتوى التكفيرية/التحريضية التي صدرت عن السلفي أبو النعيم؛ والذي اعتبر مسألة غلق المساجد من لدن وزارة الأوقاف كخطوة احترازية استباقية للحد من انتشار فيروس كورونا “على أنّه ارتداد عن الإسلام، وكفر بعد إيمان”؛ في محاولة منه لتهييج العاطفة “المسلمة” وتصفية حساباته مع الدولة، حيث اعتبرها “دار حرب”، مستعملا هذا المصطلح الفقهي الذي يحيل إلى البلاد الخاضعة لحكم غير المسلمين، أو التي لا يظهر فيها تطبيق لتعاليم الشريعة. إلا أن هذا التقسيم في حد ذاته (دار كفر ودار إسلام) لا أثر له بالأساس في القرآن ولا في السنة؛ إنما نشأ المصطلح في العهد الأموي.
إن شريط الفيديو المتداول للسلفي أبو النعيم لهو من الخطورة بمكان؛ إذ فيه دعوة صريحة إلى إعلان المغرب أرضا مستباحة لشن الحروب، وترويج فتاوى التكفير، كما أنه تحريض على الفتنة، ودعوة إلى العنف الديني المؤدي إلى المساس بالنظام العام.
“درء المفسدة أولى من جلب المصلحة”
بيد أن السلفي أبو النعيم نسي أو تناسى أن الإجراء الإحترازي المعمول به من لدن الدولة؛ والقاضي بإغلاق المساجد إلى حين التمكن من السيطرة على الوباء، إنّما هو من باب حفظ النفس الذي يدخل أساسا في دائرة (مقاصد الشريعة) المتمثلة في حفظ (الدين، النفس، العقل، النسل، المال).
حفظ النفس في هذه الحالة يتجلى في النهي عن تعريض النفس للهلاك؛ ولأن القاعدة “درء المفسدة أولى من جلب المصلحة” (1) فإذا ما “تعارضت مفسدة ومصلحة، قدّم دفع المفسدة غالبا؛ لأن اعتناء الشارع بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات” (2) فإن “تعذر الدرء والتحصيل فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة ولا نبالي بفوات المصلحة” (3).
درء المفسدة أولى إذن من جلب المصلحة. هذه القاعدة مندرجة تحت القاعدة الأم “لا ضرر ولا ضرار”؛ أي ما معناه منع الفعل الضار في جميع صوره قبل وقوعه احترازاً، ومعالجة أثره بعد وقوعه إزالةً ورفعاً.
لا شك أن إغلاق المساجد في هذه الظّرفية إنّما جاء من باب الإحتراز، وكإجراء وقائي لمنع الفعل الضّار المتمثل في انتشار العدوى بفيروس كورونا. كما أنه يدخل في باب حفظ النفس التي أمر (الشارع) بالمحافظة عليها، ومنه فإنه مقدم على الحفاظ على الصلاة جماعة؛ التي تدخل في حكم المختلف عليه؛ إذ اختلف في المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: ذهب الحنابلة إلى كون صلاة الجماعة واجبة.
القول الثاني: ذهب الشافعية إلى اعتبار صلاة الجماعة فرض كفاية.
أما القول الثالث: فقد ذهب المالكية إلى أنّها سنة مؤكدة، وهو قول الشافعية، ورواية عند الحنابلة.
بهذا، والحالة هاته؛ وعلى اعتبار أن صلاة الجماعة ليست شرطا في صحة الصلوات المكتوبة؛ فالأولى أن يقدّم حفظ النفس مراعاة، ومخافة الإصابة بالعدوى في المسجد.
لكن، يظلّ العقل السلفي قاصرا على استيعاب خطورة الأمراض المزمنة والأوبئة الفتّاكة؛ ولا يهمه سوى الترويج لخطابه السلفي/الماضوي الذي لا يعير بالا للمتغيّرات الزمانية والظرفيات المكانية، ولا يرى في لحظات الأزمات سوى فرصة لتسويق نفسه كمشروع أيديولوجي قادر على إنقاذ المجتمع من العقاب المافوقي/الإلهي.
(1) شرح الكوكب المنير، (1/ 599).
(2) الأشباه والنظائر، (1/ 87).
(3) قواعد الأحكام، (1/ 98).
اقرأ أيضا: “أبو النعيم” في قبضة الفرقة الوطنية بعد تسفيهه لجهود الدولة في مكافحة “كورونا”