#ألف_حكاية_وحكاية: 400 ريال في ميدلت - Marayana - مرايانا
×
×

#ألف_حكاية_وحكاية: 400 ريال في ميدلت

كنا صغارا في ميدلت في نهاية السبعينات. مجموعة أولاد وبنات يقضون اليوم خارجا، إذ لم تكن هناك ألعاب في البيوت. ثم إن التلفاز لا يبدأ في البث إلا مساء. كان …

كنا صغارا في ميدلت في نهاية السبعينات. مجموعة أولاد وبنات يقضون اليوم خارجا، إذ لم تكن هناك ألعاب في البيوت. ثم إن التلفاز لا يبدأ في البث إلا مساء.

كان الشارع امتدادا للبيوت التي لا نتوفر فيها على مكان خاص بنا. كنا نحن البنات نقضي الصباح في مساعدة أمهاتنا اللواتي يفعلن كل شيء ليستمر خلق الله على الأرض وليبقى تقسيم العمل كما نزل في الناموس الأكبر: للبنات شغل البيت الذي تسميه أمهاتنا الأمازيغيات بالهم وتسميه العربيات بالشقا. كان الهم والشقا نصبينا دون الأولاد وكنا نغسل ملابس الأولاد ونكاد نمزق ملابسهم فوق فراكة الصابون.

أمي كانت ترى الخسران في كل شيء مفرح، فمشاركتي في عيد العرش بالغناء خسران ومطالبتي بمكتب أشتغل عليه خسران ونضالي من أجل حذاء جديد بدل حذائي الممزق خسران وسعيي إلى البطاطس المقلية خسران أيضا

مرات عديدة كسرت أزرار قمصان إخوتي ووسعت ثقوب الجوارب في إطار انتقام نسائي محض من عدم تكافؤ الفرص بيننا والأولاد. كانت الأمهات يفتخرن فيما بينهن أيهن ربت بناتها على الخدمة. كان في ذلك انتصارهن، إذ استطعن أن يحكمن الأجساد والأرواح ونجحن في استمرارية قانون العالم كما يتصورنه.

كانت مهمة تطويع الأجساد الأنثوية مهمة مقدسة تنكب عليها الأمهات بكل طاقاتهن في القمع والقولبة. لم تكن دراساتنا تعنيهن، بل ضمن منطق غريب، كان الآباء هم الذين يحثوننا على الدراسة، لكنهم لم يكونوا يعارضون على خدمتنا في البيت. مهمة تحريرنا مهمة خطيرة، فهم لا يضمنون تطويعنا إذا ما تحررنا من الهم والشقا.

اقرأ أيضا: #ألف_حكاية_وحكاية: التجسس على الجبنة

رغم آليات التطويع، فإننا كنا ننطلق بأجسادنا ما بعد الظهر ونشارك إخوتنا في ألعابهم: مباريات كرة القدم التي كانت تدوم ساعات، ونسجل فيها أربعين هدفا ويربح المنتصر زجاجة كوكاكولا نقتسمها، فيكون نصيبنا رشفة لكل واحد، فيما الفريق المنهزم ينظر إلى المنتصر مستعطفا وراجيا رشفة من المشروب السحري. كنا أيضا نلعب لعبة الغميضة ولعبة اللصوص والجدارمية ونسرق المزارع القريبة.

مرات عديدة كسرت أزرار قمصان إخوتي ووسعت ثقوب الجوارب في إطار انتقام نسائي محض من عدم تكافؤ الفرص بيننا والأولاد. كانت الأمهات يفتخرن فيما بينهن أيهن ربت بناتها على الخدمة

كان هناك شيء يتفوق فيه الأولاد علينا، فهم ينعمون ببعض القطع النقدية من الأقرباء أو حين يؤدون مهمة للجارات. كنا نحن أيضا نريد بعض المال لكي نذهب عند حناش في المركز ونشتري حلوى أو رايبي جميلة. حدث مرة واحدة أنني حصلت على درهم من أبي حين كنت مصابة باللوزتين، كما العادة كل فصل شتاء. أعطاني أبي درهما لكي أشرب الدواء المر. تصرف اعتبرته أمي مشينا؛ فماذا يعني أن يدفع لي أبي لكي أشرب الدواء؟ قالت إن هذا بداية الخسران.

أمي كانت ترى الخسران في كل شيء مفرح، فمشاركتي في عيد العرش بالغناء خسران ومطالبتي بمكتب أشتغل عليه خسران ونضالي من أجل حذاء جديد بدل حذائي الممزق خسران وسعيي إلى البطاطس المقلية خسران أيضا. كان كل شيء خسرانا؛ لهذا سعيت في حياتي إلى أن أخسر بشكل كلي. هكذا أستريح من نزعة الموت التي أورثتني إياها أمي. نوع من السعي ضد الحياة والاستمتاع بها، ونوع من الإستلذاذ بعذاب الذات وحرمانها حتى من الضروريات، في إطار منطق غريب تختص به أمي، هو أن الحياة ليست متعة بل هي جولات متتالية من الحرمان ومن الهم والشقا.

اقرأ أيضا: #ألف_حكاية_وحكاية: إفطار رمضاني

ضدا على منطق أمي، كنت أريد أن أخسر تماما. لهذا، ناقشت مع ثريا ابنة الجيران كيف نستولي على بعض المال ونذهب لنخسره في مركز المدينة كما يفعل الأولاد ويحكون لنا بهذف إغاظتنا.

قلت لثريا إنه لا داعي لأن أبحث في دولاب أمي، فهي لا تتوفر بتاتا على المال. أبي يعطيها ثمن الخضروات في يوم السوق الأسبوعي وانتهى الأمر.

كانت مسألة المال تلك محسومة في أسرتي، فمال أبي هو له، وهو يتفضل ليشتري ما نأكله وكفاه الله شر القتال. حتى الأكل، أحس في بعض الأحيان أنه لا يريد توفيره.

المهم، اتفقنا، ثريا وأنا، على أن تتدبر هي الأمر. اتفقنا على أن تدخل غرفة أمها وتتدبر المال. دخلت الغرفة بحجة تنظيفها، فهي وإن كانت ابنة باشا سابق، فإنه يسري عليها ما يسري على البنات من الهم والشقا. دخلت الغرفة وفتحت الدولاب ورأت المال في جورب أسود.

كان ذلك اليوم، رغم تبعاته الجسيمة من عقاب وضرب، أحد أيام الحرية القليلة التي أذكت فينا ثريا وأنا الرغبة في مال خاص بنا

في اليوم الموعود، أتت ثريا إلى البيت في الصباح الباكر خوفا من أن تنتبه أمها إلى اختفاء المال. لحقت بها وعدونا في اتجاه المركز. توقفنا  عن الجري حين وصلنا إلى الكومبينغ (المخيم). مدت إلي الجورب، يا للمصيبة… لقد سرقت كل المال، وأمها ستنتبه وسيكون عقابنا عسيرا. اتفقنا على أن نستمتع ونخسر كل المال، وبعدها سنمد أجسادنا للضرب.

عددنا المال وكان كثيرا:

–      أربع مائة ريال

–      ماذا سنشتري بكل هذا المال؟

–      كل شيء يعجبنا

كنا ندخل المتاجر ونشتري حلوى، جبنة، رايبي جميلة، آيس كريم، جابان كولوبان وأشياء لم تخطر على بالنا. قضينا اليوم ونحن نتجول في الشارع الرئيسي ونحن نمص الآيس كريم. رمينا به وذهبنا إلى شراء طعم آخر، وهكذا قضينا اليوم في حرية تامة وفي خسران المال. اقتربنا من سير آبائنا الذين يخسرون مالهم ولا يهمهم حرماننا.

كان ذلك اليوم، رغم تبعاته الجسيمة من عقاب وضرب، أحد أيام الحرية القليلة التي أذكت فينا، ثريا وأنا، الرغبة في مال خاص بنا… يوم جعلنا نركب موجة الدراسة التي أوصلتنا إلى استقلالنا المادي.

تعليقات

  1. مامة درقاوي

    حقا متعة وإبداع وفقك الله يا مبناية بلغة الضاد

  2. سعاد

    أحسنت النشر استمتعت برحلتك الإبداعية عن مدينتي الجميلة

اترك رداً على سعاد إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *