حزن الظن: معركة وادي المخازن أو عندما يَصُمُّ رنين الذهب عقل التاريخ
“يجب أن ننحي باللائمة على الايديولوجيا، بصدد الشرور التي عانت منها بلدنا فرنسا. الايديولوجيا تلك الميتافيزيقا الوهمية المبهمة التي تبحث بدقة عن العلل الأولى…بدل الانتفاع بالقوانين المعروفة للقلب الانساني وبدروس …
“يجب أن ننحي باللائمة على الايديولوجيا، بصدد الشرور التي عانت منها بلدنا فرنسا. الايديولوجيا تلك الميتافيزيقا الوهمية المبهمة التي تبحث بدقة عن العلل الأولى…بدل الانتفاع بالقوانين المعروفة للقلب الانساني وبدروس التاريخ…” صاحب كلمة إيديولوجيا في النص، ديستوت دو تراسي، فرنسي عاش الثورة الفرنسية وردّ على ايدموند بورك، اليميني الانجليزي. الإيديولوجيا هنا تجلت في التركيبة التي صاغها بورك لطرح مشروع التغيير في فرنسا على شاكلة التدرج الانجليزي. ولو أن بورك نفسه استقرأ التجربة التاريخية البريطانية ومرورها من التطرف الأول (1648-1658).
في الحالة المغربية، إذا أردنا مقارنة المغرب بالتجارب الأوربية، سنجد محور التطور الأوربي تجسّد في التجريبية على محك الطبيعة مباشرة، من داخل المجتمع، بينما بقينا ننتج الثروة والأمن عبر الحروب.
ولد كوبيرنيك الانجليزي في نفس السنة التي توفي فيها غاليليو الايطالي (1643)، وترعرع طفلا ثم يافعا على وقع إعدام الملك وما تبعه من الديكتاتوريا المذهبية لأوليفر كرومويل (1648-1658). وفي التجربة المغربية هناك بوارق لامعة من بؤر النصر التاريخية. لكن كثيرا ما صَمَّ رنين الذهب سمع التاريخ وانطفأ وميض التقدم نحو مؤسسات دولة راسخة ومجتمع منتج ومبدع.
هذا الخلط بين الدولة والنظام في استراتيجيات الفكر السياسي في المغرب، هو الذي ما زال يبرر للنظام الاستحواذ على مقاليد الدولة وجعل مصالح تحالف طبقي ضيق بمثابة المصالح العليا لكيان السياسي برمته.
لم يدر في خلد أحد أن يتأمل معلومة كون أحمد المنصور الذهبي، اقترح على إليزابيط الأولى أن يشترك المغرب وأنجلترا في رحلة استكشاف أمريكا الجديدة للتضييق على الإسبان.
كانت اسبانيا ساعتها سيدة العالم.
كما لم يدر بخلد مؤرخ مغربي، التأمل في المعطى الثاني حول اقتراح جمهورية الأراضي المنخفضة (هولاندا) تسليم قادس والمواقع الساحلية القريبة منه للمغرب، للتضييق على الإسبان، العدو المذهبي والمحتل العسكري لجزء متبق من أراضي بلجيكا وهولندا؟
لِمَ لَمْ يدر بخلد مؤرخ مغربي تجاوز الحديث عن حدود هزيمة ملك البرتغال فوق أراضي شمال المغرب؟
بقي مؤرخو المغرب وسياسيوه في حدود قدرة المغاربة على صد المسيحيين البرتغاليين. لم يتأملوا قط الأوضاع فوق القارة الأوربية. لم يتأملوا انعكاسات هزيمة ملك برتغالي شاب(24 سنة) فوق الأراضي المغربية؟ لم يقرأوا قط كيف هزم المغاربة جيشا أوربيا يتكون من البرتغاليين والألمان والطليان ولفيف من المغاربة.
لربما توقفوا عند خسارة ملك شاب لم يقدر عواقب مغامرته. لقد حاول سيباستيان محاكاة اسكندر الأكبر الذي انطلق من مقدونيا واليونان إلى مصر والشام والعراق والفرس ووصل الهند.
من السهل التوقف عند “سخافة” ملك شاب. لكنه استخلاص سهل كسول عندما نستسهل هزيمة جيش أوربي بقيادة ملك شاب مغامر، وننسى من قبله ذا القرنين ومن بعده نابليون بونابرت، وهما معا في مثل سن سيباستيان البرتغالي. أي أن لا أحد من الثلاثة كان قد أدرك الثلاثين من العمر، بطموحه الامبراطوري الكاسح. فَعِوَضَ أن نستصغر مهمة سيباستيان، علينا التوقف مليا أمام عوامل انتصار المغاربة وتأمل التناقضات الأوربية التي عرقلت طموح سيباستيان.
عطب المؤرخين والسياسيين في إهمال البعد الجيوستراتيجي لمعركة وادي المخازن، يرجع للنظرة الملتبسة لقيادات الحركة الوطنية بالضبط في المسألة العسكرية.
إذن، هزيمة البرتغاليين وأنصارهم الأوربيين ولفيفهم المغربي العميل، تجد عواملها، في بنية المعركة ككل، أي نفسية المواجهة المباشرة فوق مساحة الاقتتال بين الجيشين وما وراءها من تناقضات أضعفت معنويات الجنود المسيحيين وتركت القيادة العسكرية البرتغالية بلا خبرة كافية، وما تجسد داخلها من عوامل ميّلت النصر للمغاربة وهيّأت هزيمة الكاثوليك.
فمن جملة مكونات التفاوت بين الجيشين المغربي والأوربي، بديهية وجود المغاربة فوق أراضيهم؛ حيث ساعدهم ذلك على ترويض اللوجستيك وفق طبيعة المنطقة. إضافة إلى قيادة عسكرية خبيرة سبق لها (أبو مروان عبد الملك السعدي) المشاركة (رفقة العثمانيين) في معارك كبرى ضد الأوربيين؛ وكذا وحدة المغاربة والتعبئة العامة (من إمارة فاس وإمارة مراكش) والتعبئة المحلية (قبائل جبالة بقيادة الزاوية الريسونية).
كما تمكنت القيادة المغربية من الاستفادة من تناقضات القوى السياسية والعسكرية العالمية المتركزة في المتوسط.
من جهة، توفَّرَ للمغاربة الدعم العثماني من خلال السلاح والخبراء المستشارين وخبرة الاصطفاف في المعارك ومنظومة التكتيكات والتوفر على الأسلحة النارية رغم سياسة حجب بل ومنع بيع الأسلحة النارية المسيحية الجديدة للمسلمين بأمر من البابا.
بقي مؤرخو المغرب وسياسيوه في حدود قدرة المغاربة على صد المسيحيين البرتغاليين. لم يتأملوا قط الأوضاع فوق القارة الأوربية. لم يتأملوا انعكاسات هزيمة ملك برتغالي شاب(24 سنة) فوق الأراضي المغربية؟ لم يقرأوا قط كيف هزم المغاربة جيشا أوربيا يتكون من البرتغاليين والألمان والطليان ولفيف من المغاربة.
من جانب آخر ظل السعديون يستفيدون من تناقض الانجليز والهولنديين ضد الاسبان داخل أوربا في عز الحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت، فيقوون التبادل التجاري، وضمنه البضائع التي تصلح لتصنيع الأسلحة. سواء من جانب المغرب (ملح البارود) أو من جانب الهولنديين والانجليز (المدافع والبنادق).
عطب المؤرخين والسياسيين في إهمال البعد الجيوستراتيجي لمعركة وادي المخازن، يرجع للنظرة الملتبسة لقيادات الحركة الوطنية بالضبط في المسألة العسكرية.
لم تتمكن قيادة الحركة الوطنية من اكتساب نظرة سياسية شاملة تتضمن مصالح الدولة ومكوناتها (العرش، العسكر، الشرطة). لم تنظر الحركة الوطنية لهذه المكونات الثلاثة كإرث للمغاربة جميعا، من باب العقلانية السياسية المحضة لفهم الدولة كعمران سياسي وإداري وأمني وعسكري، من مصلحة المغاربة ممارسة التنافس السياسي خارجها، أي خارج هذه المنظومة المؤسساتية المكونة لأركان الدولة، حامية الشعب والوطن.
بالتالي تشكلت منظومة الثقافة السياسية للحركة الوطنية من عنصرين تاريخيين: عنصر تاريخي مستورد مع الاستعمار الفرنسي: اليعقوبية والانقلابية. وعنصر تاريخي محلي: التوتر الدائم بين المخزن المركزي وقياد القبائل.
ولأن الانتقال من أطروحة الاختيار الثوري (1962-1975) إلى استراتيجية النضال الديمقراطي لم يقم على خلفية النقد الذاتي في الفكر السياسي العام أولا، ظهرت استراتيجية النضال الديمقراطي كما لو كانت مجرد منظومة تكتيكات تتكامل لتخفي الفكر المؤامراتي والانقلابي بما يستقدم فيما يلي نظاما عسكريا دكتاتوريا ثانيا.
كان العقل السياسي غير متوفر على القاموس ولا على البداهات العقلانية للنضال الجماهيري السلمي الرديف لديمقراطية صناديق الاقتراع. لم تكن الديمقراطية التمثيلية مسلكا سياسيا استراتيجيا في فكر الحركة الديمقراطية ما بعد 1975. إلى أن استخلص الاتحاد الاشتراكي سنة 1978 حل الملكية البرلمانية. مما ترك الريبة والحذر متبادلا بين المؤسسة الملكية (سقف مؤسسات الدولة ورأس توابثها) وبين أحزاب الحركة الوطنية.
من السهل التوقف عند “سخافة” ملك شاب. لكنه استخلاص سهل كسول عندما نستسهل هزيمة جيش أوربي بقيادة ملك شاب مغامر
ضمن هذا التصور، على الأقل في حدود ما نعلم، ظلت الدولة مفهوما فلسفيا موروثا عن الثقافة اليونانية بشكل غامض. وبقي المحتوى السياسي للعلاقة بين العرش والجيش والشرطة مفككا، يكاد يخفي صمتا انتهازيا لدى المعارضة الديمقراطية. والصمت الانتهازي لم يكن سوى التكملة الثالثة لعنصري الانتهازية الفكرية لدى اليسار المغربي المتجلي أساسا في الحركة الاتحادية. فاتجه العمل السياسي إما يسارا شعبويا ثوروي الشعارات، وإما اتجه العمل السياسي الاتحادي نحو مزاوجة بين الوصولية الفردية وبين التبرير الحزبي الرسمي للتوافقات “اليمينية” النزعة مع النظام.
في غياب هندسة فاصلة بين ثوابت السيادة وبين متغيرات السياسة، ظلت الرؤية الاستراتيجية مفتقدة، باستثناء لدى عبد الرحيم بوعبيد، لمفصل رجل الدولة بامتياز داخل الفكر السياسي الذي يؤطر الرؤية والبرنامج والحركة. وهو المعيار المفتقد بين قيادات اليسار بنسبة 90 في المائة.
هذا الخلط بين الدولة والنظام في استراتيجيات الفكر السياسي في المغرب، هو الذي ما زال يبرر للنظام الاستحواذ على مقاليد الدولة وجعل مصالح تحالف طبقي ضيق بمثابة المصالح العليا لكيان السياسي برمته.
مسؤولية الجيل الجديد من الطبقة السياسية المستنيرة والواعية بفرص التغيير في القرن الواحد والعشرين أن تفصل في هندسة فكرها السياسي مجال الثوابت السيادية عن مجال المتغيرات السياسية. فالضبابية بصدد المجال الأول لا تقل خطرا عن خطأ التكتيك في المجال الثاني. والتاريخ هنا حيوي من حيث فوائده لتجنب كوارث الحاضر، تماما كما ذهب كل من تراسي (بصدد فرنسا) وبورك بصدد التدرج الانجليزي، ولو أنهما متناقضان كل من زاويته.
لم تتمكن قيادة الحركة الوطنية من اكتساب نظرة سياسية شاملة تتضمن مصالح الدولة ومكوناتها (العرش، العسكر، الشرطة). لم تنظر الحركة الوطنية لهذه المكونات الثلاثة كإرث للمغاربة جميعا
ومن أولويات هذه الهندسة الجديدة في الفكر السياسي المغربي إخراج المؤسسة الملكية من دائرة الصراع ومعها الجيش والأمن. ساعتها ستسهل على الخطاب السياسي مهام التواصل. سواء تجاه الشعب أو تجاه الدولة.
يقول ابن الخطيب:
وبعد فالتاريخ والأخبـــار// فيه لنفس العاقل اعتبار
وفيه للمستبصر استبصار// كيف أتى القوم وكيف صاروا
وقال قائل:
ليس بإنسان ولا عاقل// من لا يعي التاريخ في صدره
ومن روى أخبار من قد مضى// أضاف أعماراً إلى عمره
(الاستقصا:خالد الناصري السلاوي،ج1ص4)
عندما تغيب دروس التاريخ، مهما كان حسن النية حاضرا عند طرف سياسي، يبقى سوء ظن الطرف الثاني متربصا حذرا. مما يسقطهما معا في نفسية حزن الظن المتبادل.