مصطفى المعتصم يكتب: أحب الناس إلى الله
” أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ”، هكذا تكلم رسول الإسلام. أتذكر هذا الحديث كلما تذكرت روزاليندا إلسي فرانكلين، عالمة الفزياء الحيوية والخبيرة بالتصوير الإشعاعي، مكتشفة تركيبة وشكل الحمض النووي …
” أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ”، هكذا تكلم رسول الإسلام.
أتذكر هذا الحديث كلما تذكرت روزاليندا إلسي فرانكلين، عالمة الفزياء الحيوية والخبيرة بالتصوير الإشعاعي، مكتشفة تركيبة وشكل الحمض النووي DNA التي ماتت بالسرطان عن سن يناهز 38 سنة نتيجة تأثرها بأشعة X؛ أو الأم تيريزا أو مكتشف البيليسنين أو السكانير أو الطائرة وغيرها من الاختراعات التي نفعت البشرية. هؤلاء أقرب إلى الله وأحبهم إليه من الكثير من الأشخاص اللذين لم يقدموا للبشرية شيئا ينفع،ها حتى ولو كانوا من المسلمين.
قبل الحديث في القضايا المرتبطة بالمرأة والإرث وقضايا حقوق الإنسان والحريات الشخصية، لا بد من تحرير العقل المسلم وتنويره
للأسف الشديد، في زمن حضارة التليفزيون ووسائل التواصل الإجتماعي والثورة المعلوماتية، تتعرض عقول أبناء الأمة ذات الأغلبية الإسلامية للقصف اليومي من منابر ومصادر تحرص على تقديم مفاهيم وقراءات رجعية ومتطرفة للنصوص الدينية. بل أن هناك جهات ودول تنفق أموالا وتسخر طاقات هائلة لنشر تأويلات مخالفة لفلسفة الوجود كما يحددها الإسلام ولمقاصد الدين الإسلامي.
لذلك، وقبل الحديث في القضايا المرتبطة بالمرأة والإرث وقضايا حقوق الإنسان والحريات الشخصية وعلى رأسها حرية العقيدة وحقوق الأقليات إلخ، لا بد من تحرير العقل المسلم وتخليصه من محنته وتنويره عبر إعادة الاعتبار لفلسفة الوجود في الإسلام.
أي رب نعبد؟ هل هو رب يحتاج إلى عباده لنصرته والدفاع عنه وعن دينه؟ أم نعبد إلها متعالٍ بذاته وصفاته على كل الوجود، يهيمن على هذا الوجود وهو القاهر فوق عباده وقادر بـ “كن فيكون” أن ينصر دينه؟
هل نتبع دينا يفرض على أتباعه إكراه الناس ليصبحوا مؤمنين به بالسيف والقتل والحروب، أو نتبع دينا جاء ليتمم مكارم أخلاق الأمم والديانات السابقة بما يتناسب مع تطور البشرية؟ وعلى رأس هذه القيم، التعارف والتعاون بين البشر بغض النظر عن اختلاف أديانهم وألوانهم وألسنتهم؟
أي رب نعبد؟ هل هو رب يحتاج إلى عباده لنصرته والدفاع عنه وعن دينه؟ أم نعبد إلها متعالٍ بذاته وصفاته على كل الوجود، يهيمن على هذا الوجود وهو القاهر فوق عباده وقادر بـ “كن فيكون” أن ينصر دينه؟
نحن اليوم مطالبون باستحضار فلسفة الوجود التي اعتمدها المسلمون في عصر الرسالة لبناء تصورهم لله والكون والإنسان، وجعلت منهم بناة حضارة متميزة؛ تلك الفلسفة التي حددت الغاية الأساسية من وجود الإنسان على وجه الأرض في:
ـ تحقيق عبودية الإنسان لله: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات 56). ويتفرع منها هدفان أساسيان:
ـ الاستخلاف: ” إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً” (البقرة : 30)
ـ والعمارة: ” هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا” (هود 61).
“وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ شَهْرًا”، حديث
هي إذن ثلاث مصطلحات : العبودية، الاستخلاف والعمارة، التي تؤسس بدورها لما يلي:
العلاقة بين الله والإنسان بما هي علاقة عبودية. وحينما يكون الإنسان عبدا لله فهو يتحرر من عبودية ما سواه.
علاقة الإنسان بالإنسان بما هي علاقة تعارف: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا” (الحجرات 13)، وبما هي علاقة تعاون: “.. وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ”( المائدة2)، وبما هي علاقة تدبير للتنوع :”وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ” (الروم 22)، واعتبار الاختلاف والتنوع من سنن الله: “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ” (هود 118)؛ مما يدفع إلى نبذ العنصرية والكراهية والتعصب والتطرف وإرهاب المختلفين أو قمعهم أو اكراههم على الدين أو استغلالهم واستعبادهم أو التضييق على أرزاقهم أو السطو على ممتلكاتهم أو أكل أموالهم بالباطل.
علاقة الإنسان بالطبيعة بما هي علاقة إصلاح وعدم إفساد :”وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا” (الأعراف 56)، لكي تأخذ هذه الأرض زخرفها وتتزين باستعمال البحث والتطور العلمي والتكنولوجي وتحويل ما تزخر به هذه الأرض من ثروات الطبيعة إلى قدرات متطورة تتماشى وحياة الإنسان من دون تبذير للموارد الطبيعة وتلويث للأرض.
إذا كان معنى مصطلح العبادة في الإسلام يتعدى الشعائر التعبدية، كالصلاة والصيام والحج، ليشمل كل ذلك وما فوقه، كالاستخلاف والعمارة، بل كل ما يحبه الله ويرضاه من أقوال وأعمال ظاهرة وباطنة كما جاء في الحديث الشريف : “أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنا. وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ (يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ) شَهْرًا. وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَتَمَ غَيْظَهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ، مَلأَ اللَّهُ قَلْبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رِضًا، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يُثْبِتَهَا، أَثْبَتَ اللَّهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ تَزُولُ الأَقْدَامُ” .
في زمن حضارة التليفزيون ووسائل التواصل الإجتماعي والثورة المعلوماتية، تتعرض عقول أبناء الأمة ذات الأغلبية الإسلامية للقصف اليومي من منابر ومصادر تحرص على تقديم مفاهيم وقراءات رجعية ومتطرفة للنصوص الدينية
نعم، حتى إماطة الأذى عن الطريق عبادة، و التبسم في وجه الجار وافشاء السلام بين المارة عبادة. إلا أن القرآن حرص بشكل ملفت على الإشارة للاستخلاف والعمارة، منفصلين في سورتي البقرة وهود؛ تأكيدا على أهميتهما ولتحديد مسافة الفصل والوصل بين الدنيا والآخرة.
لقد اتضح هذا أكثر في الآية 77 من سورة القصص التي جاء الأمر الرباني فيها واضحا بضرورة اهتمام المسلم بالدنيا قدر اهتمامه بالآخرة : “وابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا و أحسن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ”.
فلكل إنسان -مسلم وغير مسلم- نصيب في هذه الدنيا لا يمكنه التفريط فيه. وإلا يكون قد أخل بواجبي الاستخلاف والعمارة: الحق في الحياة، الحق في التربية والتعليم، الحق في العلاج، الحق في الشغل، الحق في السكن، الحق في الأمن، الحق في الكرامة، الحق في العدالة، الحق في الحرية، الحق في المشاركة في القرار عبر آلية الشورى/ الديمقراطية؛ بل حتى الحق في الفرح والترفيه والمتعة والترويح عن النفس للإنسان نصيب فيه.
هكذا فَهِم المسلمون الأوائل الإسلام ولا غرابة أن نجد الإمام علي ابن أبي طالب رضي الله عنه يقول: “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل للآخرة كأنك تموت غدا”.