هذه تفاصيل ليلة سجن الريف لـ3 قرون..الزفزافي: الأحكام قاسية لكنني فخور بابني!
نعم… أحكام القضاء لا تناقش، لكن… الخوف على بلد، الخوف على أهله وأبنائه، أسبق من كل قواعد الصمت. ما حدث في “محاكمة الريف”، أمر يدعو إلى الخوف… خوف نقتسمه معكم …
نعم… أحكام القضاء لا تناقش، لكن…
الخوف على بلد، الخوف على أهله وأبنائه، أسبق من كل قواعد الصمت.
ما حدث في “محاكمة الريف”، أمر يدعو إلى الخوف… خوف نقتسمه معكم اليوم، كي لا نكون من عبدة الصمت.
الثلاثاء 26 يونيو 2018 …
بعد أزيد من عام وأكثر من 90 جلسة، أخيرا، ستبت غرفة الجنايات الابتدائية بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء في ملف معتقلي “حراك الريف”.
يتردد بين عائلات المعتقلين أن ناصر الزفزافي، يوصي برفع الزغاريد أثناء صدور الأحكام وإن رافقها البكاء.
المتهمون الـ49 يصرون على عدم حضور الجلسة الأخيرة، والقاضي علي الطرشي يقرر إدخال الملف للمداولة لإصدار الحكم ليلة هذا اليوم.
يتردد بين عائلات المعتقلين أن ناصر الزفزافي، يوصي برفع الزغاريد أثناء صدور الأحكام وإن رافقها البكاء.
مع مغيب الشمس، بدأت القلوب تدق أكثر فأكثر، صمت يلفه الترقب والقلق، يحدس البعض الأحكام فيقول إنها ستكون ثقيلة، فيما يحذو الأمل البعض الآخر في أحكام خفيفة.
وحده القاضي يعرف الآن الأحكام، مرت الساعات، طويلة كالدهر للبعض، قصيرة كلحظة للبعض الآخر… إنها العاشرة والنصف ليلا الآن، بضع أقرباء للمعتقلين وبعض الحقوقيين يدخلون القاعة رقم 7 بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء.
سيدخل القاضي إلى القاعة في هذه اللحظات وفق ما يعلن عنه “الشاوش”. صمت رهيب يخيم على القاعة، تكسره دقات القلوب… ثم في لحظة ما، يستفيق الصمت على وقع الصراخ، ويستحيل الأمل إلى ذهول… ففي هذه الأثناء، يتلو القاضي الأحكام!
يواصل علي الطرشي تلاوة الأحكام حتى ناهزت ثلاثة قرون من السجن موزعة على المعتقلين جميعا، أثقلها الحكم بعشرين سنة سجنا نافذا على “قائد حراك الريف” ناصر الزفزافي، و”دينامو الحراك” نبيل أحمجيق، إلى جانب وسيم البوستاتي وسمير إغيذ.
الأحكام كانت “قاسية” على نحو يجعل مسافة المصالحة بين الدولة ومنطقة الريف، أبعد أكثر من أي وقت مضى.
في الجانب الآخر، يواصل الصراخ ارتفاعه، ينتهي القاضي من تلاوة الأحكام ثم يرفع الجلسة، فيما رفع بعد ذاك الحاضرون أمام المحكمة، شعارات منددة بهذه الأحكام التي تفيد بأن سنوات الجمر والرصاص، راوحت زمنها إلى الآن، على حد تعبيرهم.
إلى هنا تحول المشهد خارجا..
الوضع في “الفيسبوك” لم يكن أقل صخبا، ما إن بدأت الأحكام ترد حتى انقلب شريط الأخبار رأسا على عقب، لا منشور إلا وتحدث عنها، إخبارا أو تعليقا، ولا تفاعل يسود المنشورات، إلا الوجه الغاضب أو ذلك الحزين، فالمعتقلون وفق جلهم، لم يطالبوا إلا بمستشفى لعلاج السرطان وجامعة وفرص شغل.
ملمح انكسار جماعي ذاك الذي يكسو الوجوه الآن، الأحكام كانت “قاسية” وفق أهالي المعتقلين وجل المتابعين… “قاسية” على نحو يجعل مسافة المصالحة بين الدولة ومنطقة الريف، أبعد أكثر من أي وقت مضى.
3 قرون من السجن، أو ما يناهزها، يبدو عصيا على البلع على عائلات المعتقلين الحاضرة في الدار البيضاء، حزن عميق يدب في ملامحهم، وإن كانت الدموع لا تستأذن، فإن وصية الزفزافي سرعان ما استأسدت الموقف… الزغاريد تعلو في الأرجاء الآن، والفخر بأبنائها يعكر صفوة الحزن.
“سنظل واقفين كالأشجار، وأقوياء كصلابة الحجر لا نلين”، يقول محمد أحمجيق أخ نبيل أحمجيق، في صفحته الفيسبوكية، مضيفا يوجه خطابه للمغاربة: “إن مصيبتكم في قضائكم، ونحن صامدون ومبتسمون، رغما عن الظلم”.
إقرأ أيضا: طوبى للجبناء فيك… يا وطن
أمّا هدى السكاكي زوجة المعتقل الحبيب الحنودي المحكوم بـ5 سنوات سجنا نافذة، فعبرت عن استغرابها من هذه الأحكام، متسائلة: “منِ المفروض أن يكون في السجن؟ أليس من طحن الشهيد (محسن فكري)؟ أم الذين فضحوه؟” ثم تابعت في منشورها على الفيسبوك قائلة: “أعدكم وأعاهدكم أني سأربي جيلا زفزافيا، وحنوديا. عاقبونا وانتقموا منا، فعادة حليمة لن تتخلى عنها، ونعلم أنكم مستعدون لطحن الشعب”.
“منِ المفروض أن يكون في السجن؟ أليس من طحن الشهيد (محسن فكري)؟ أم الذين فضحوه؟”
من جانبه، كتب خالد الحاكي، أب المعتقل محمد الحاكي، على جداره الفيسبوكي: “أزيد من ثلاثين عاما وأنا أربيه وأكونه وأعلمه ما هو الوطن، وألا يكون فاسدا أو مرتشيا، ثم في الأخير تسجن ابني يا سعادة القاضي لـ15 عاما… وكلت عليك الله”، ثم استطرد متابعا: “هذا ولدي وأنا فخور به لأنه خرج إلى الشارع ليقول لا للفساد… له وسام العز والبطولة، أما أنتم فعليكم السخط والمذلة…”
الحسيمة.. ما بين الصدمة و”الخوف”..
في الحسيمة وما يجاورها من بلدات ومدن صغيرة، استقبل السكان الخبر بكثير من الأسى والتنديد… دعوات آنية للخروج إلى الشارع تغزو “الفيسبوك”، فيما كانت القوات العمومية المرابطة بالمدينة تراقب الوضع… زغاريد تعلو في الأرجاء، ثم بين “تخوف” ساور البعض، و”شجاعة” عبر عنها البعض الآخر، أخيرا بدأت رقعة الاحتجاج بشارعي الوحدة وسيدي عابد بالحسيمة تتسع.
خرجات “محتشمة” رافقت احتجاج الحسيمة بالمدن المجاورة في وقت متأخر من الليل. حريق مهول يلتهم أقسام إعدادية القدس بإمزورن، بينما يتردد في الأثناء عند البعض أن جهات مجهولة اقترفت ذلك لتوريط المحتجين، فيما لم يلبث رجال الوقاية المدنية كثيرا حتى التحقوا بالمكان لإخماد الحريق، لتظهر بعد ذلك رواية أخرى تقول: “كانوا يودون إحراق أوراق الامتحانات لكن النار انتقلت إلى شجرة بالجوار ليشب الحريق في الأقسام ليس إلا”.
المواطنون الذين خرجوا في الحسيمة بالعشرات استذكروا شعارات “حراك الريف”، لكن الأمر لم يدم طويلا حتى طوقت القوات العمومية جميع الأحياء، ومنعت المحتجين من تحويل الوقفة إلى مسيرة تجوب المدينة، في وقت كشفت فيه بعض المصادر أن سلطات الأمن قد أوقفت بعض المشاركين في الاحتجاج.
ثم أشرقت الشمس أخيرا بعد ليلة طويلة، أعلام سوداء ترفرف على سطوح منازل معتقلي الحراك، وجل المحلات التجارية في الريف لن تفتح أبوابها اليوم (الأربعاء 27 يونيو) على ما يبدو، ففي الليلة السابقة، ذاعت في “الفيسبوك” دعوة إضراب عام، وهو الشكل الاحتجاجي الذي بدا أن بمقدور سكان المدينة وجوارها تنفيذه دون مخاطر.
يقول أحد هؤلاء لـ”مرايانا”: “الصدمة والخوف كلمتان تلخصان ما يحدث، الكثير هنا يجهل التاريخ، فكانوا يعتقدون أنه سيتم إطلاق سراح المعتقلين، غير أنهم صدموا في الأخير من الأحكام الصادرة”.
ثم يضيف فيما يشبه الحسرة: “الناس حقا غاضبون، لكنهم أيضا خائفون نوعا ما الآن، من الصعب أن تقترح عليهم المشاركة في وقفة احتجاجية، يتابعون الأحداث عن كثب لكنهم يكتفون بالتنديد في الفيسبوك، أمس بالكاد جمعنا 30 شخصا في إمزورن”.
الصدمة كانت حالة جماعية… ذاك أيضا ما عبرت عنه عائلات معتقلي حراك الريف، فمع عشية يوم الأربعاء، أصدرت بيانا تنديديا تقول فيه:
“صدمنا نحن عائلات المعتقلين السياسيين للحراك الشعبي بالريف، ومعنا الرأي العام الوطني والدولي، بالأحكام القضائية القاسية والانتقامية التي أصدرتها محكمة الاستئناف بالدار البيضاء في حق معتقلي حراك الريف المتواجدين بسجن عكاشة، والتي أقل ما يمكن وصفها به أنها مجزرة قضائية في حق العدالة…”.
البيان أضاف: “لكن المفجع أن القضاء كان له موقف آخر جسده منطوق نص القرار القضائي الذي أدان المعتقلين بتهمة المس بالسلامة الداخلية للدولة. وهو ما نعتبره مجانبا للحقيقة ولا يستند على أدلة دامغة وواقعية، خصوصا أنه لم يأخذ مصدروه بعين الاعتبار ما قدمه المعتقلون السياسيون ودفاعهم من حجج وقرائن تفنده.”
واعتبر البيان أن “القضاء أثبت، مرة أخرى، عدم حياديته؛ بتماهيه مع محاضر الضابطة القضائية المفبركة، والتي طبخت في ظلام مخافرها مع ما رافقها من تعذيب للمعتقلين وبتكييفه لتهمة المس بالسلامة الداخلية للدولة مع السيناريو المفضوح الذي اختلقته الأجهزة الأمنية والمخابراتية الهادف إلى تسفيه نضالات أبنائنا عبر إلصاق بهتان الانفصال والتآمر بهم”.
“كان لدينا حسن نية وأمل كبير فإذا به، أصبح الأمر هلاميا سرعان ما ذاب في بوثقة الواقع الحالي… بكل صراحة الثقة انتزعت الآن”.
بالمقابل، الأحكام “القاسية”، اعتبرها آخرون “خفيفة”، كالمحامي الذي ناب عن الدولة في قضية “حراك الريف”، محمد الحسني كروط، إذ قال في تصريح صحفي عقب المحاكمة “إن الأحكام الصادرة تعتبر مخففة استنادا إلى التهم التي يتابع بها المعتقلون والواصلة عقوباتها إلى المؤبد والإعدام”، وهو التصريح الذي كان محل جدل كبير بحيث عده البعض في عداد “الاستفزاز”.
أحمد الزفزافي: يكفينا فخرا أن ناصر الزفزافي وحد كلمة المغاربة..
“مرايانا” اتصلت بأحمد الزفزافي، والد “أيقونة حراك الريف” ناصر الزفزافي الذي نال من نصيب قرون السجن الثلاثة، عشرونا عاما من السجن النافذ، لتستقصي رأيه في الأحكام الصادرة، فقال: “كسائر الشعب المغربي، وجدنا هذه الأحكام قاسية وظالمة ومليئة بالإجحاف في حق المواطن المغربي الشريف، وما دام المواطن المغربي من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، استنكر وشجب وأدان هذه الأحكام، فأنا لست إلا واحدا منهم”.
“الاستياء عارم، وقد جاء كسيل جارف غمر المغرب كله، عندما تجد شخصا من تزنيت مثلا يتضامن معك، يكفينا وأهل الريف وناصر الزفزافي فخرا أنه وحد كلمة المغاربة”، يؤكد الزفزافي، ويتابع قائلا: “أولئك الذين وصفونا بالانفصاليين، هم من أصبحوا انفصاليين اليوم، انفصلوا عن الحق وعن الشعب وعن الوطن ومبادئ الديمقراطية والحرية وكل ما جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وحده الشعب المغربي من ظل متشبثا بها”.
وعما كان يحذوه من أمل في السابق ورؤيته للمستقبل الآن سألناه، فأجاب: “كان لدينا حسن نية وأمل كبير فإذا به، أصبح الأمر هلاميا سرعان ما ذاب في بوثقة الواقع الحالي… بكل صراحة الثقة انتزعت الآن”.
من جانبه، قال خالد جلول، أخ المعتقل محمد جلول والذي سبق أن قضى فترة حبسية مدتها خمس سنوات على خلفية أحداث “20 فبراير”، والمحكوم عليه الآن في خضم ملف “حراك الريف”، بـ10 سنوات سجنا نافذة: “كنا ننتظر البراءة وعندما سمعنا بالحكم صدمنا، وعرفنا أنه ليس بحكم محكمة وإنما هو حكم تعليمات، إنه الظلم بعينه”.
“إنها أحكام قاسية وانتقامية، أحكام جائرة لا أساس لها، طيلة عام كامل من أطوار المحاكمة، حوكم المعتقلون على جميع التهم الموجهة إليهم دون دليل واحد، وبالأخص أخي محمد”، يضيف جلول لـ”مرايانا”.
“لم تعد لدينا أي ثقة في مؤسسات الدولة، يفعلون ما يشاؤون، زرعوا فينا الكراهية”.
واستنكر جلول عدم وجود أدلة تثبت التهم الموجهة إلى أخيه قائلا: “كنا ننتظر البراءة، وبالأخص لأخي محمد الذي قضى خمس سنوات من الحبس سابقا، ثم نعم بالحرية لشهر فقط بعد خروجه، ماذا فعل؟ ليس هنالك أي شريط أو دليل يدينه، حتى المحامون قالوا إن الأستاذ جلول مكانه ليس في المحكمة بل في مدرجات الجامعة يلقي المحاضرات… ليس هنالك من دليل واحد يورطه”.
“لم تعد لدينا أي ثقة في مؤسسات الدولة، يفعلون ما يشاؤون، زرعوا فينا الكراهية. بكلمة واحدة: مللنا! ولكن لا يأس ولا قنط من رحمة الله كما يقول أخي محمد”، يشدد خالد جلول في تصريحه لـ”مرايانا”، متابعا: “قال لي محمد في المحكمة قبل أيام: لن ننكسر بهذه المحاكمة الظالمة والجائرة، ولا تنازل عن العيش الكريم في وطننا ولا يأس ولا قنط من رحمة الله”.
وتساءل أخ محمد جلول خاتما: “حكموا على 49 معتقلا في ساعة فحسب، يقول أخي محمد إنه من المفروض أن تمتد المداولة لأسبوع على الأقل، كيف يعقل أن تصدر في ساعة واحدة، أحكام بالسجن لعشرين عاما وما إلى ذلك، متى قاموا بإعداد ذلك؟ هذا يعني أن هذه الأحكام كانت جاهزة”.
في الأخير، وبعدما أجمع جل من تابع الملف على “قسوة” الأحكام، طفت إلى السطح مجموعة من الأسئلة وفق هؤلاء: ما الجدوى من هذه الأحكام؟ وماذا بعدها؟ هل هي استعادة لسنوات الجمر والرصاص في ثوب جديد؟ ما الفائدة من سجن شباب طالب بالحق في العيش الكريم وفي وطن يسع الجميع؟ وما مآل مسلسل المصالحة مع الريف بعد هذه الأحكام؟ مؤكدين أن قراءة في الواقع الحالي، تجزم بأن القادم، ربما ينذر بالأسوأ ما لم تحتكم الدولة إلى الحكمة!
وكان حراك الريف قد تشكل بعدما لقي محسن فكري، بائع الأسماك، مصرعه في شاحنة نفايات بالحسيمة يوم 28 أكتوبر 2016، إذ خاض سكان منطقة الريف احتجاجات سلمية ناهزت السبعة أشهر، قبل أن يصفهم مجموعة من الفاعلين السياسيين بتهمة الانفصال… تهمة نفوها جملة وتفصيلا، لكن المطاف انتهى بهم معتقلين في بعض سجون المملكة بتهم عديدة أبرزها المس بالأمن الداخلي للدولة،ليُحكم قبل أيام على الموجودين منهم بسجن “عكاشة” في الدار البيضاء، بما يناهز 3 قرون من السجن.
سرد كرونولوجي وتحليل رائعين من صحفية مقتدرة عادة بقوة مسيرة موفقة الى جانب روزاق.