الدين في البودكاست: نقاش صحي أم قضية مربحة؟
تبرز خطورة النقاش الشعبوي في المجال الديني، في عدم قدرة العامة على الجدال وتبين الصح والخاطئ منها، باستعمال معرفتهم البسيطة، لأن هدف المؤثر في الأصل هو زيادة نسبة المشاهدة بالدرجة الأولى، أما التثقيف ونشر الوعي فهي مسألة نسبية وراجعة لقناعات أطراف الحوار، وعندما يصبح الربح (المشاهدات) هو المحرك للنقاش، فمن المتوقع أن لا تكون الغاية تثقيفية، بل سيسعى صناع المحتوى بشتى الطرق لخلق صراع مفتعل لجذب المشاهدات.
برز مؤخرا اهتمام مُهول بالقضايا الدينية على المنصات الرقمية، فبعد أن كانت هذه المواضيع حكرا على القلة من المتخصصين، صار التداول فيها في الآونة الأخيرة، شأنا يخوض فيه العامة، كما صارت من النقاشات المرغوبة والمغرية بالمشاهدة، وأصبحت تتصدر القضايا المجتمعية المُغلفة بالدين الويب المغربي التي ينحصر أغلبها في مواضيع مثل: زواج القاصرات، الإرث، الحريات الفردية وحكم الدين فيها…
بدأت موجة هذا النوع من النقاشات مع بداية الإعلان عن تعديل مدونة الأسرة، واحتدم النقاش حول حدود هذه التعديلات، إذ ما كانت ستمس المبادئ الجوهرية المُؤطرة دينيا كأحكام الزواج، الإرث والطلاق…، ومن هنا كانت انطلاقة التضاربات بين الآراء، أو ما يُعرف بصراع الثابت والمتحول، بين من يرى أن تعديل مدونة الأسرة ستكون فرصة لمراعاة التحولات الأسرية والمجتمعية، واتجاه آخر يرى أن هناك ثوابت لا يجب العبث بها تحت مسمى الحداثة، وما زاد الطين بلة هو ظهور فئة -تجهل بالمسار التشريعي للمدونة- تجزم بوجود مدونة جاهزة لا تمتثل للضوابط الدينية، رغم أن المسار التشريعي للمدونة يمر عادة بمسطرة طويلة جدا، تقتضي إشراك جل الفاعلين والمهتمين بالشأن الديني والأسري، وهذا ما أكدته الرسالة الملكية الموجهة لرئيس الحكومة المتعلقة بالتعديل كانت واضحة في مضامينها بأن يتم التعديل: “في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية، وخصوصيات المجتمع المغربي، وأن يتم الاعتماد على فضائل الاعتدال، والاجتهاد المنفتح، والتشاور والحوار، وإشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية”.
لكن هناك فئة وجدت في جهل المجتمع مدخلا للربح، وبين التوقعات والتطلعات، برز جدال حاد بين تيار وُصف بالحداثي وآخر بالإسلامي، رغم أنهما في كنههما لا يتعارضان من حيث الهدف، ألا وهو “حماية الأسرة”، وعلى هذا الأساس بدأ التنافس على استضافة الضيوف وعقد لقاءات، وانهالت التدوينات، والمنطلق: الدين وأحكامه في القضايا المجتمعية وحدود التعديل، وتساؤلات حول من ستنتصر له المدونة هل للرجل أم المرأة، لتنطلق شرارة حرب افتراضية مفتعلة.
القضايا الدينية: هيمنة النقاش الشعبوي والمرأة كمادة للاستهلاك الرقمي
يعد نقاش القضايا المجتمعية ظاهرة صحية، خاصة إذ تعزز بوجود متخصصين، لهم مؤهل علمي يمكنهم من الخوض في هذه المواضيع دون الوقوع في الخطأ، أو زيادة منسوب الالتباس لدى المشاهدين، لكن ما يثير القلق، هو تحول هذه اللقاءات من البحث عن الإجابة ورفع اللبس، إلى ساحة للمعركة والمنافسة الكلامية، وكثرة التأويلات عن من سينتصر في النهاية، وكأنها حرب فيها مهزوم ومنتصر، هذه الحرب الظاهرية كانت مادة دسمة للمؤثرين والصحافة، ومن هنا كانت الانطلاقة: المدونات الصوتية podcast، مناظرات، مقالات رأي وتدوينات، كلها تنطلق من جدلية صراع الدين والتيار الحداثي حسب وصفهم، لقاءات لساعات، وكل يحاول البحث عن مبرر لطرحه، والغاية تصدر قائمة الأكثر مشاهدة، بعناوين جذابة للعامة، قد لا تعكس مضمون اللقاء بحد ذاته.
تزداد حدة وخطورة هذا النقاش الديني، عندما يكون المتدخلين غير متخصصين، مما يفتح نقاشا على مصرعيه وبشكل فوضوي، دون مراعاة ما يُخلفه من تأثير على المتابعين، ويجعلهم يتبنون قناعات، وآراء لا تمت للدين بصلة، لأن نمط هذه النقاشات يتأسس على قضايا مثيرة مثل: زواج القاصرات، عمل المرأة، المهر، اللباس…، وكل هذه المواضيع يُتداول فيها تحت غطاء غير متخصص، مما يؤشر بحجم المغالطات المنتشرة، وغالبا ما تحمل في طياتها تحريضا على الكراهية اتجاه المرأة، ومدفوعة بجدالات يحركها الانتصار الخطابي ومنطق الغلبة أكثر من منطق توسيع أفق الحوار، وكل ما سبق، يُنذر بنوع من التسيب في تناول هذه المواضيع الحساسة، التي لا ينبغي أن تبقى مفتوحة على مصرعيها دون تمحيص ما ينشر، والمقصود هنا، ليس تقييد حرية التعبير بل ضمان جودة ومصداقية المُعبر عنه، وقس على ذلك أغلب المواضيع المرتبطة بهذا المجال.
بتفحص بسيط للحوارات الأكثر مشاهدة، وإثارة للجدل، تتصدرها المواضيع المرتبطة بالمرأة والجنس، لكونهما يشكلان ثنائية الممنوع المرغوب، مما يحفز الفضول المعرفي والفكري للمشاهدين، لكن انحراف هذه النقاشات عن مقاصدها (كالتثقيف، والنقاش البناء)، يجعل منها أفكار متشددة تُسهم في انتشار الكراهية والعداء، فبدل أن يكون الدين مجال للنقاش السمح، أضحى ساحة للصراع والتغليط، وهنا تكمن الخطورة، خاصة أن المنتجين يجدون في هذه النقاشات، الالاف من المشاهدات التي تشكل ربحا لهم، ويستفيدون من خلق صراع بين الضيوف، ليكون النقاش مثيرا لدى المشاهدين، لكن خلف هذه المشادات والملاسنات تختبئ مجموعة من المغالطات تشكل قنبلة فكرية موقوتة.
تبرز خطورة النقاش الشعبوي في المجال الديني، في عدم قدرة العامة على الجدال وتبين الصح والخاطئ منها، باستعمال معرفتهم البسيطة، لأن هدف المؤثر في الأصل هو زيادة نسبة المشاهدة بالدرجة الأولى، أما التثقيف ونشر الوعي فهي مسألة نسبية وراجعة لقناعات أطراف الحوار، وعندما يصبح الربح (المشاهدات) هو المحرك للنقاش، فمن المتوقع أن لا تكون الغاية تثقيفية، بل سيسعى صناع المحتوى بشتى الطرق لخلق صراع مفتعل لجذب المشاهدات، والإشكال أن أغلب المتابعين لا يتملكون الأدوات والمناهج الكافية لتحليل وتمحيص الأفكار، بل يعتبرونها حقيقة مطلقة.
تسليع النقاش الديني وسؤال الرقابة
ساهم هذا الاستسهال في تناول القضايا الدينية في خلق الكثير من أوجه الكراهية، والشاهد على ذلك، بعض الحلقات المسجلة والتي طرحت على الويب المغربي، واضطر فيها المنتج لسحب المقابلة من صفحته، نتيجة تلقيه لتهديدات له ولذويه، ولتوالي السب والقذف في حق الضيف والمستضيف، إذن ما كان يبدو حوارا عاديا تحول لجرائم متكاملة الأركان، وهنا تظهر خطورة هذه اللقاءات، ليس على المشاهد فحسب، بل حتى على طرفي الحوار، ورغم أن أغلب مظاهر الاستياء أو التهديد تتخذ شكل تعليقات تحمل سبا وقذفا، لكن لا شيء يمنع من تحولها لأفعال مادية تضر بسلامة الأشخاص في الحياة الواقعية.
ومن خلال ما ذُكر، يظهر كيف يمكن أن تتحول محاولة الخوض في مواضيع دينية إلى تهديدات تضر بسلامة الأشخاص، والحالة هذه لا يمكن الحديث عن فرض نوع من الرقابة، إذ يصعب مراقبة كل المحتويات الرقمية وتمحيص مدى سلامة مضمونها، نظرا للزخم الذي تشهده، كما أن فرض أي نوع من القيود، يمكنه الحد من حرية التعبير، مما يصعب التوفيق بين الرقابة وحرية الرأي، وفي المقابل يؤدي السماح بتداول هذه المواضيع، إلى خلق مغالطات لدى فئة كبيرة من المجتمع، التي تعطي منزلة عالية للمُتحدث في الدين، دون تبيُن مساره الأكاديمي، إذ يُصنف العامة كل متحدث باسم الدين على أنه مختص لدرجة الاقتباس الفكري منه، لكن أين تقع حدود نقاش المواضيع الدينية بشكل ينسجم مع حرية التعبير دون ترويج مغالطات ؟ وهنا يكمن الاشكال الأكبر.
وتطرح صعوبة التوفيق بين حرية التعبير، والبحث عن إجابات لتساؤلات والإشكالات الدينية الذي يعد نقاشها صحيا، لكن في نفس الوقت لا يمكن التساهل مع إضفاء الشرعية على العنف وتزويج القاصرات، واضطهاد الاخر تحت غطاء الدين، فالنقاش الديني حمال أوجه يمكن أن يساهم في تطوير العقليات ونشر قيم احترام الآخر، أو أن يُستغل بطريقة عكسية، بتوظيف نصوص دينية واستغلالها لمقاصد اخرى، وتكييفها حسب ما يتلاءم مع المتحدث، أو إسقاط وقائع دينية لا تمت بصلة لوقتنا الحالي دون اعتماد حجج منطقية، فمجمل هذه الوضعيات مُعرضة لسوء الفهم، أو تبني قناعات معادية أو تُشجع على الكراهية، تحت رداء الدين لغرض رفع المشاهدات.
*فاطمة الزهراء حبيدة: طالبة باحثة بسلك الدكتوراه. القانون العام والعلوم السياسية. جامعة القاضي عياض مراكش



