هارون بن مشعل: حلم دولة اليهود في تازة - Marayana
×
×

هارون بن مشعل: حلم دولة اليهود في تازة

على امتداد سنين خلت، كان للوجود اليهودي في المغرب حضور قوي، وعلاقات سياسية مع الملوك والأمراء.
علاقات رفعت من طموحات اليهود، وصلت حد سعي هارون بن مشعل لتأسيس دولة يهودية في تازة.

هارون بن مشعل…

كلَّما ذُكر هذا الاسم إلا عاد بنا التاريخ إلى زمن محاولات اليهود تسلق هرم الحكم، ومحاولة الظفر بالسلطة.

كان اليهود حينها مقربين من الدوائر الحاكمة، عاشوا حياة البذخ والترف، غير أن علاقتهم بالسلطة عرفت، في مراحل عديدة، تراجعا أو مدا وجزراً، وذلك راجع لسعيهم الدائم إلى مزيد من النفوذ والسلطة.

وُلد هارون بن مشعل بمدينة وجدة، وهو سليل أسرة يهودية ثرية، عُرفت حينها بعلاقاتها الوطيدة مع الملوك المغاربة.

هذا ما سيستغله هارون بن مشعل، ليُحاول الانقلاب على تاريخ أسرته، ويحلم بدولة يهودية عاصمتها مدينة تازة.

تقليد الملوك وحياة الترف

هارون بن مشعل، واحد من هؤلاء الذين سعوا إلى السلطة. عاشَ حياة الملوك، وحاول التمهيد لتأسيس دولة يهودية في المغرب، بعيدا عن “الهيكل وأرض الميعاد”، فكانت تازة عاصمة هذا الحلم.

سعى هارون بن مشعل إلى بسط سيطرته على مدينة تازة، فحاول جمع اليهود المقيمين بالمنطقة ونواحيها، ليبدأ في مشروعه الرامي إلى التوسع في المنطقة، غير أن هذا المشروع كان على حساب المسلمين الذين طغى وتجبر عليهم.

خلال هذه الفترة، كان لليهود حضور وتموقع قوي في بنية النظام، وقد وصل بعضهم إلى أعلى مراكز القرار. في هذا الصدد، نجد عن ابن خلدون في كتابه “تاريخ العبر وديوان المبتدأ والخبر” فكرة مفادها أن عائلات يهودية عديدة وصلت مراكز القرار.

يذكر ابن خلدون نموذج حاجب للسلطان أبي يوسف يعقوب، الذي طغى وتجبَّر، وعين أفرادا من عائلته في مراكز مهمة كالوزراء والعمال.

دولة على أنقاض السعديين

تزامنت فترة نفوذ هارون بن مشعل مع بداية تشكل معالم الدولة العلوية وأفول الدولة السعدية، وقد ساهمت علاقاته في أخذ مركز قيادي، حيث أصبح حاكما على منطقة تازة. كان هارون يُقلد السلطان في خرجاته وحركاته.

خلال هذه الفترة، عرف المغرب تصدُّعات داخلية وصراعات سياسية وخلافات قبلية، فكانت السلطة الحاكمة حديثة التشكل والنشأة، وكان أصحاب النفود والمال يتقربون من الدولة للحصول على مناصب متقدمة في الحكم.

كان هارون بن مشعل من طليعة هؤلاء. في هذا الصدد، يقول المؤرخ عبد الهادي التازي في كتابه “التاريخ الدبلوماسي للمغرب: من أقدم العصور إلى العهد العلوي” إن هارون بن مشعل استغل فرصة اختلال الأمور بفاس أواخر دولة السعديين، فحدثته نفسه بتأسيس مقاطعة يهودية في نواحي بني يزناسن، ليصبح حاكمًا لتازة وفاس.

الحاكم المُفترس

تروي بعض السرديات التاريخية أن تسلط بن مشعل تجاوز الحدود، فقد كان متجبرا ظالما في حكمه، يحاول تقليد الملوك في أفعاله، كما أنه كان مدمنا على الخمر و”ماء الحياة”.

فرض بن مشعل الجزية والإتاوات، وسنَّ قوانين اشتكى منها مسلمون ويهود. كان جباراً متسلطاً يسلب الأراضي ويفرض ضرائب على أهالي تازة، كما أجبر القبائل المحيطة على أن تهدي له بنتًا عذراء مسلمة كل عيد حصاد يهودي.

تسلط بن هارون وطغيانه سيتقوى أكثر بعدما تملك العتاد العسكري والجيش والأسلحة، كما سعى إلى تقوية علاقاته الخارجية، بمساعدة ابنته زليخة، التي عملت مترجمة للوفود الأوروبية التي كان يستقبلها.

بالعودة للمؤرخ عبد الهادي التازي، فقد أفاد أن ابن مشعل كان يحوز سلطة مطلقة على المنطقة، كما كان يملك المال والعدة التي تمكنه من إقامة دولة يهودية، هذا فضلًا عن السمعة التي منحها لنفسه. صحيح أن الناس عانوا من ظلمه المتوالي، لكنه، يقول التازي، كان يدعي أنه “يريد بالكبار خيرًا وبالضعفاء برورًا والبلاد استقرارًا”.

نفهم من خلال حديث التازي، أن بن مشعل أصبحت له كل مقومات تأسيس دُويلة يهودية تنطلق من تازة.

استغل ابن مشعل ظرفية بداية تشكل الدولة العلوية، وهي مرحلة صعبة في تاريخ المغرب. ظرفية كانت تتسم بالتقلبات السياسية والأمنية، حيث كان المغرب يعيش سياقات ما يسمى بعهد السيبة، وخلال الفترة ذاتها، كانت الدولة العلوية تصارع الزاوية الدلائية، التي بسطت نفوذها وسيطرتها على المنطقة.

اللافت للانتباه في الحكاية هنا، أن اليهود الذين وعدهم بن مشعل بدولة لهم في تازة، سئموا من جبروته واستفزازاته المتتالية، وصاروا مستعدين لدفع أموال طائلة لقتله، إلا أن الوصول إليه كان شبه مستحيل، لأنه كان يتحصن داخل قصر يصعب اختراقه.

دولة اليهود: حُلم مجهض

لكل بداية نهاية…

نهاية بن مشعل ستكون عن طريق ابنته زليخة، التي وقعت في حب شاب مسلم، فأغرمت به وبدأت تتقرب منه لتدخله القصر العصيَّ على الاختراق، فأسكنته معها وصار يعرف مداخل القصر ومخارجه.

تقرب الشاب من والدها بن مشعل، فصار ينادمه في جلسات الخمر، وتعرف على طباعه وتفاصيل حياته اليومية، وكان ينقل كل ما يقع داخل القصر إلى المولى الرشيد، الذي كان قد عقد العزم على إنهاء حلم بن مشعل.

ما أجَّج الوضع لدى المولى الرشيد، هو أن “ابن مشعل كان مارًا ذات يوم وإذا به يقف على امرأة تحمل طفلًا صغيرًا وبيدها جرة ماء طلب إليها أن تسقيه وهو يختبر مدى شعورها نحوه، لكنها رفضت، وهنا طوّح بصغيرها! وجمعت الأم أشلاء الطفل ورجعت إلى القرية لتلهب الناس ضد ابن مشعل”. حسب ما رواه المؤرخ عبد الهادي التازي.

كان المولى الرشيد، حينها، طالباً بجامعة القرويين بفاس، وكان متابعا لحركات بن مشعل وكل أفعاله، فعقد العزم على قتله. هنا تختلف الروايات حول تفاصيل قتله، حيث نصطدم بروايتين.

تفيد الرواية الأولى أن المولى الرشيد جمع طلاب جامعة القرويين، واتجه صوب ابن مشعل لإخراجه من قصره، مستخدمًا الحيلة التي لم يذكر المؤرخون تفاصيلها. كما استعان الرشيد بطلبة زاوية الشيخ الواطي بمدينة تازة لتنفيذ هذه الخطة.

تفيد هذه الرواية أنه، بعد القضاء على بن مشعل، أصبح ذلك اليوم طقسا سنويا، وهو ما يُعرف بـ “عيد سلطان الطلبة”، حيث يحتفي الطلبة بسلطان منهم عدة أيام، إحياء لقصة القضاء على طاغية تازة اليهودي، لتخليص ساكنة تازة منه.

الرواية الثانية تذهب، في المقابل، إلى أن المولى الرشيد استعان بعشيق ابنة هارون بن مشعل، ليعرف مداخل القصر ومخارجه، وهو ما سيساعده على التسلل إلى داخله وقطع رأس ابن مشعل.

روايتان مختلفتان تقودان إلى نهاية واحدة. نهاية ابن مشعل أواخر سنة 1663، الذي طغى وتجاوز طغيانه حدود تازة ونواحيها. وقد ساهم القضاء عليه في تقوية المولى الرشيد الذي أحكم السيطرة على تازة.

استفاد الرشيد من تركة بن مشعل، الذي ترك خلفه أملاكاً وأموالاً وعتادا عسكريا وأمنيا، آلت كلها إليه.

المولى الرشيد استطاع تقوية جيش وتأسيس دولة… وهنا تبدأ فصول حكاية أخرى.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *