“وإن ولدت بغلاً فجاء به البغل”… حكاية نساء أفحمن أزواجهم بالهجاء
بين الحجاج بن يوسف الثقفي الذي أذلته زوجته، حتى قاد ناقتها حافيا وهي في هودجها إلى قصر أمير المؤمنين، وبين هند الهمدانية التي أعادت زوجها بحنكة ودهاء، حكايات تصدرت فيهن النساء “ترند” الهجاء.
سجالات شعرية تفوقت فيها النساء على رجال، أظهرت فيهن الزوجات تحكما رهيبا باللغة، وتمكنا من الفصاحة والبلاغة، فخلدتهن كتب التاريخ في صفحات “أولئك النسوة التي أفحمن أزواجهن شعرا”.
يحفل التراث العربي، قديمهُ وحديثه، بالكثير من قصائد الهجاء بين الشعراء وأندادهم، سواء أكان هذا الهجاء بين شاعر وآخر، أو بين قبيلة وأخرى، باعتبار أن الشاعر قديما، كان اللسان الناطق بقبيلته والمنافح عنها.
قصائد “الهجاء” دائما ما كانت تحظى بمتابعة هامة، لما فيها من كشف وتعرية لمساوئ الآخرين، بطريقة أدبية فنية، تأخذ فيها التشبيهات والاستعارات أشكالا مثيرة.
لربما كان الهجاء مشهورا بين الشعراء الذكور “جرير والفرزدق”، “المتنبي وكافور”…لكن، من غير العادي أن يكون الهجاء بين رجل وامرأة، فما بالك أن يكون بين زوج وزجته؟!
حين كسرت هند بنت المهلب شوكة الحجاج بن يوسف
ربما لا يذكر الحجاج بن يوسف الثقفي، إلا وذكرت خطبته الشهيرة “يا أهل العراق…يا أهل الشقاق والنفاق..”. كانت هذه الخطبة دالة على عناد الحجاج وجبروته في سفك الدماء.
جبروت لم يكسره سوى هند بنت المهلب، امرأة عرفت في شبه الجزيرة العربية بأنها من أجمل النساء، علاوة على نسبها؛ إذ إن والدها هو المهلب بن أبي صفرة. إلى جانب نسبها وحُسنها، تميزت هند بفصاحة لسانها وبلاغته.
من أجلها، دفع الحجاج بن يوسف صداقا قدره 100 ألف درهم، رغم عدم رغبتها الزواج منه، إلا أن شوكته وقوته، ثم صلته بآل المهلب، دفعها للزواج منه، وكانت الزوجة الرابعة للحجاج، إلى أن…
دخل عليها غرفتها يوما، فوجدها تتزين وتتأمل حسنها في المرآة وتقول:
وما هند إلا مـهـرة عــربـية سـلالة أفـــراس تحللـها بـغـل
فإن ولدت فحلاً فللـه درهـا وإن ولدت بغلاً فجاء به البغل
غير أن الحجاج لم يُبد ردة فعل حينها تجاه هند بنت المهلب. لما سمع ذلك، عاد أدراجه غاضبا، فبعث إليها غلامه وطلب منه أن يرد إليها صداقها، وأن يطلقها بكلمتين لا يزيد عليهما، فذهب الغلام إلى هند وقال لها: كُنت… فبنت (أي كنت زوجة، فأصبحت طالقا بالثلاثة)، فأجابته هند قائلة: “كنا فما فرحنا…فبنا فما حزنا”، ومن فرحتها بحدوث الطلاق، أعطت الصداق كاملا للغلام (وكان قدره 20 ألف دينار) قائلة: هذه بشارة خلاصي من كلب ثقيف.
أبو الأسود الدؤلي وزوجته… في حضرة الخليفة
لأبي الأسود الدؤلي، بعيدا عن تميزه في علم النحو واللغة، قصة طريفة مع إحدى طليقاته، في حضرة الخليفة “معاوية بن أبي سفيان“، والذي انتصر في هذه الخصومة لطليقة أبي الأسود الدؤلي.
ذُكرت الحكاية في كتاب “بلاغات النساء” لابن طفيل.
تقول الحكاية إن أبا الأسود الدؤلي طلق زوجته، فأتته وهو في مجلس معاوية بن أبي سفيان، فشكت له حالها، بعد طلاقها، وظلم زوجها أبي الأسود لها.
حينها، التفت معاوية للدؤلي وقال: “أحق ما تقول هذه المرأة؟”. فقال أبو الأسود: “إنها تقول من الحق بعضا، وليس أحد يطيق عليها نقضا”.
هنا، طلب معاوية من أبي الأسود الدؤلي أن يرد على قولها. فقال: “هي يا أمير المؤمنين كثيرة الصّخب، دائمة الذّرب (الشتائم)، مهينة للأهل، ومؤذية للبعل (الزوج)؛ إن ذكَر خيراً دفنته، وإن ذكر شرّاً أذاعته، تخبر بالباطل، وتطير مع الهازل، لا تنكل عن عتب، ولا يزال زوجها معها في تعب“.
بعد هذا القول، اغتاظت طليقة الدؤلي، فألح الخليفة على أن ترد على قول طليقها، فكانت أن قالت: “يا أمير المؤمنين، ما علمته إلا سؤولاً جهولاً، ملحاً بخيلاً. ليثٌ حين يأمن، وثعلب حين يخاف، شحيح حين يُضاف (عندما يأتيه ضيف)، ضيفه جائع وجاره ضائع؛ لا يحفظ جاراً، ولا يحمي ذماراً، ولا يدرك ثأراً. أكرمُ الناس عليه من أهانه، وأهونهم عليه من أكرمه“.
توفقت المرأة على أبي الأسود، وأعجب الخليفة بسجعها وبلاغتها، فكان أن طلب منها العودة من أجل الفصل في خصومتهما، فأحضرت معها من بعدُ ابنا لهما، فأراد الدؤلي أن ينتزعه منها قبل أن يتدخل الخليفة طالبا إياه بالسماع لحججها. فقالت: “أصلح الله الأمير، هذا ابني، بطني وعاؤُه، وحِجْري فناؤُه، وثديي سقاؤُه، أَكْلَؤُهُ إذا نام، وأحفظُهُ إذا قام”.
أفحمت المرأة أبا الأسود الدؤلي، ونازعته شعرا فهزمته. في تلك اللحظة، حكم الخليفة على أبي الأسود الدؤلي، وظل الابن مع أمه، وخسر معها الدؤلي هيبته أمام الخليفة والملأ.
في الحنكة والدهاء…
يروي الجاحظ في كتابه “المحاسن والأضداد“، قصة بين الشاعر عثمان الهمداني، وزوجته هند الهمداني.
القصة تقول إن عثمان خرج في جيش مع قائده إلى خرسان، تاركا وراءه زوجته هند لسنوات، قبل أن يغنم هناك جارية سماها (جمانة)، وفرسا سماه (وردا)، وأقام هناك بعيدا عن زوجته التي كانت تنتظره مع الجند.
فكان أن قال في جاريته وفرسه:
ألا لا أبالي اليوم ما فعلت هندُ إذا بقيتْ عندي الجمانة والوردُ
شديد مناط المنكبين إذا جرى وبيضاء مثل الرّيم زيّنها العقدُ
فهذا لأيامِ الهياجِ وهذه لحاجةِ نفسي حين ينصرف الجندُ
فلما بلغت الأبيات هند الهمداني، انقبض قلبها، واشتعلت نيران الغيرة، ما دفعها إلى محاولة استفزازه بدهاء وذكاء حتى يعود إليها، فنظمت أبياتا بنفس الوزن والقافية تقول فيها:
ألا أقره مني السلامَ وقل له عُنينا بفتيان غطارفة مُردِ
فهذا أمير المؤمنين أميرهم سبانا وأغناكم أراذلة الجندِ
إذا شاء منهم ناشئٌ مدّ كفه إلى كبدٍ ملساء أو كفَل نهدِ”.
والغطارفة هم الشبان الوسيمون، والمُرد هم من لم تنبت لهم شوارب أو لحى بعد.
لما قرأ زوجها كتابها، أخبر قائد كتيبته، فلامه على فعلته، ثُم أذن له بالانصراف والعودة إلى زوجته.
بدهاء فني وموسيقي وشعري، كسبت هند الهمداني زوجها، وآلت الأمور لصالحها، وفعلت ما كانت تشاء بعودة زوجها إليها.
هذه بعض من طرائف الهجاء، هي ليست مجرد طرائف، بقدر ما هي أمثلة على التمكن اللغوي والبلاغي لنساء أفحمن رجالا عُرفوا بالتحكم واللعب بناصية اللغة، وآخرون تخلدهم كتب التاريخ فُرسانا أشداء باسلون، إلا أنه في حضرة النساء تبخر كل ذاك.