طارق البكاري لـمرايانا: الجسد في أعمالي فضاء للعري والانكشاف والذاكرة
الجسد في تصور طارق البكاري ليس مكوّناً فيزيائياً فحسب، بل هو واجهة للذاكرة والصراع والهوية، وفضاء مفتوح يتيح للرواية مساءلة المحرم وكشف المسكوت عنه. من خلاله، تتحول الكتابة إلى مغامرة جمالية تتجاوز الرقابة وتقاوم الإقصاء، لتجعل من الجسد مشروعاً سردياً مستمراً في أعماله.
في الرواية العربية المعاصرة، لم يعد الجسد مجرد عنصر فيزيائي يَردُ في السرد، بل أصبح مساحة للتعبير عن التجربة الإنسانية بكل أبعادها. من خلاله تتكشف العلاقات بين الفرد ومجتمعه، وتتضح التحولات النفسية والاجتماعية والثقافية التي تشكل النص الروائي. الجسد هنا ليس مجرد صورة، بل أداة سردية تجمع بين الرمزي والمادي، وتفتح آفاقاً لمساءلة القضايا الحساسة التي تواجهها الثقافة العربية.
في هذا السياق، تشكل أعمال الروائي المغربي طارق بكاري نموذجاً لحضور الجسد في الرواية، سواء من حيث بناء الشخصيات أو من حيث مواجهة المحظورات والرقابة التي تحيط بالكتابة في المجتمع العربي.
الجسد في الرواية: من الصورة الفيزيائية إلى المساءلة الرمزية
يرى الروائي المغربي طارق بكاري، الحاصل على الجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر” سنة 2016 عن روايته “نوميديا”، أن الوصف الفيزيائي للجسد يظل مكوّناً أساسياً في رسم الشخصيات. ويوضح في حوار مع “مرايانا” أن الكاتب مطالب بتقديم الخصائص السيكولوجية والاجتماعية والثقافية، إلى جانب الخصائص الجسدية، شرط أن يتم مع مراعاة الطابع الوظيفي لكل عنصر داخل النص.
طارق بكاري: الجسد مساحة لمساءلة المحرم في الكتابات الروائية
يكشف بكاري أن الجسد، كموضوع، يحضر بقوة في أعماله، لاسيما في” نوميديا” و”مرايا الجنرال”. ويعتبر أن وصف الجسد نزوح حسي دون الخروج عن منطق النص، بل يمثل لبنة من لبنات رؤية جمالية موسعة. بالنسبة إليه، الجسد هو الواجهة التي تعبر عن هوية الإنسان، مثلما تعبر عن ذاكرته ومخاوفه وصراعاته. غير أن البعد الإيروتيكي للجسد في نصوصه كان مصدراً لنقد أخلاقي متواصل.
ويشرح بكاري هذا البعد قائلاً: “الإيروتيكي في أعمالي طاقة حياة متجددة، وفضاء للعري والانكشاف الذي ينطق الجسد، وينطق تبعاً لذلك ذاكرته ومبهماته”. ويضيف أنه لا يسعى إلى إثارة عابرة، بل إلى مساءلة المحرم ومنح اللغة فرصة لاقتحام المسكوت عنه. فالجسد في نصوصه ليس وسيلة لإحداث الصدمة، بل أداة للكشف عن مناطق غائرة في التجربة الإنسانية.
وحول مسألة الرقابة، يرى بكاري أنها تتخذ أشكالاً متعددة، بدءاً بالرقابة المباشرة التي تمارسها السلطات، وصولاً إلى الرقابة الاجتماعية عبر العادات والدين، لكنه يشدد على أن أخطر أنواع الرقابة هي تلك التي يفرضها الكاتب على قلمه، سواء بوعي أو من دونه، ويؤكد أن النضج الإبداعي يتطلب مساءلة هذه الرقابة وتشريح أسبابها.
ويضيف: “أكتب بحرية كبيرة، وأحاول في كل عمل أن أشاكس الرقابة وأليّن جدارها الصلد، رغم الثمن المكلف لذلك”. ويوضح أنه أحياناً يلجأ إلى خطاب المباشرة، وأحياناً أخرى إلى الترميز والاستعارة، لكنه يشدد على أن هذا يتم دائماً في انسجام مع منطق النص، فالمحظور، من وجهة نظره، قد يتحول إلى أفق للإبداع والتجديد.
يرى بكاري أن تلقي النصوص يختلف من مجتمع إلى آخر، ومن قارئ إلى آخر، ويقول إنه غالباً ما يتلقى إشادات مشفوعة بعبارة “لولا”، مثل: “لولا الإسهاب في وصف التفاصيل الحميمية”، أو “لولا المساس بالعادات والأخلاق”؛ ويؤكد أنه لا ينزعج من هذه الملاحظات، بل يعتبرها جزءاً من “ضريبة الحرية”؛ فالكتابة، بالنسبة إليه، مواجهة لا مفر منها.
روايات تُباع “تحت الطاولة”: محاصرة النصوص لا تعني إعدامها
يشير البكاري إلى أن بعض رواياته منعت في معارض عربية، مما اضطر الناشرين إلى بيعها “تحت الطاولة” وتهريبها إلى القراء. هذه التجربة جعلته يدرك أن الكتابة مواجهة للبنيات الاجتماعية والسيكولوجية، خاصة حين يتعلق الأمر بالجسد، فهو موضوع لا يخلو من أسئلة ورغبات وطابوهات، ويضع الكاتب في تماس مباشر مع المحظور.
بالنسبة لمسألة الترميز، يرى بكاري أنه، بالنسبة لبعض الكتاب، منفذ للهروب من الرقابة، بينما يعتبره آخرون خياراً جمالياً يفتح النص على قراءات متعددة. لكن الترميز، بالنسبة لبكاري، ليس حلاً، بل تنازل عن قول الحقيقة. بالنسبة إليه، هذا الخيار يعكس خوفاً من المواجهة، ويكرس الجراح المفتوحة التي تعانيها المجتمعات العربية في علاقتها بذاتها وأجسادها.
يستعيد بكاري موقفاً عاشه شخصياً حين رأى إحدى رواياته تباع مهربة في معرض كتاب. ويقول إنه شعر بالحزن لاكتشاف ضيق مساحة الحرية، لكنه في الوقت نفسه، فرح لأن النص يجد طريقه إلى القارئ. فمحاصرة النص لا تعني إعدامه، بل تؤكد أن هناك نبضاً آخر في المجتمع يبحث عن الكلمة المكتوبة، ولو مهربة.
الجسد مشروع مفتوح ورحلة لا تنتهي
عن مشاريعه الأدبية المقبلة، يكشف طارق بكاري أنه بصدد إنجاز مشروعين روائيين جديدين: الأول مخطوط يتوقع نشره بالتزامن مع معرض الرباط الدولي للكتاب 2026، والثاني ما يزال في طور التفكير والتخطيط. ويوضح أنه في كل عمل يسعى لتجاوز ما كتبه سابقاً، سواء على مستوى التجريب السردي أو على مستوى معالجة القضايا الكبرى.
ويؤكد أن موضوع الجسد لن يكون عابراً في أعماله القادمة، بل سيظل جزءاً من مشروع موسع يروم سبر العلاقة بين الإنسان وذاته، غير أن معالجته ستكون من زوايا أخرى تبتعد عن التكرار، وتبحث عن أبعاد جديدة. ويرى أن الكتابة بحث دائم عن الحقيقي عبر الجمالي. لهذا، فهو يكتب متحرراً من “وهم السوق الأدبي” ومن “الرقابة”.
ويختم قائلاً: “حين أعود إلى الجسد في كل عمل جديد، فإنني أكتب بحرية وانفتاح مشروطين بهاجس وحيد؛ الوفاء لمنطق النص. إذا استدعى الأمر مشهداً إيروتيكياً فإنني أكتبه بجسارة، وإذا استدعى المباشرة في مواجهة الرقيب فإنني أكون مباشراً. فالرواية التي نخلص للحرية في كتابتها لا بد أن تجد طريقها إلى القارئ إن عاجلاً أم آجلاً”.