تاريخ الخلافة بين الواقع والخرافة: الحسن بن علي… صفقة الحكم (الجزء 7)
في ظروف غريبة، استلم الحسن بن علي الخلافة بعد مقتل والده.
وفي ظروف أكثر غرابة، عنوانها صفقة مالية تثبتها الكثير من الروايات، تنازل الحسن بن علي عن الخلافة، لينتهي به المطاف ضحية للطريقة الأكثر شيوعا لحسم الخلافات: السم.

أغرب نموذج للخلافة الراشدة كما سنرى، سواء من حيث شخصية وسلوكيات الرجل، أو من حيث السياق العام الذي تولى فيه الخلافة ثم تنازل عنها.
الحسن بن علي بن أبي طالب، الابن البكر لعلي بن أبي طالب، وريحانة الرسول وسبطه، “وسيد شباب أهل الجنة”.
ولد سنة ثلاث للهجرة. وعرف عنه أنه كان “منكاحا، مطلاقا”. وقد تزوج “نحوا من سبعين امرأة، وقلما كان يفارقه أربع ضرائر”. وفي حديث آخر “أحصن الحسن تسعين امرأة”. إلى حد أن أباه، بعد أن ضجر من أفعاله تلك، قال: “يا أهل الكوفة! لا تزوجوا الحسن، فإنه مطلاق”. الغريب أن أحدهم رد على علي: “والله لنزوجنه، فما رضي أمسك، وما كره طلق”.
هواية الحسن هاته، اقتضت منه البذل بسخاء طبعا. من الأمثلة على ذلك أنه تزوج امرأة “فأرسل إليها بمائة جارية، مع كل جارية ألف درهم. وكان يعطي الرجل الواحد مائة ألف”. والظاهر أن المقصود بالرجل: والد الزوجة المصونة.
وكان من فرط كرمه، أن عليا نفسه خاطب الناس مرة قائلا: “إن الحسن قد جمع مالا، وهو يريد أن يقسمه بينكم، فحضر الناس، فقام الحسن، فقال: إنما جمعته للفقراء. فقام نصف الناس”. طبعا لا أحد يكلف نفسه عناء إخبارنا بمصدر تلك الأموال!
إضافة لتبرم علي من أفعال ابنه، يبدو أنه لم يكن راضيا عنه في المجمل، فقد قيل له: “هذا الحسن في المسجد يحدث الناس، فقال: طحن إبل لم تعلم طحنا”. وفي حديث آخر أضاف: “إن لكل قوم صدادا، وإن صُدّادنا الحسن”. (الصداد في “لسان العرب”، “بالضم والتشديد: دويبة، وهي من جنس الجرذان”).
كيف ولي الحسن
يوم وفاة أبيه، “بويع الحسن، فوليها سبعة أشهر وأحد عشر يوما”. لا يذكر الرواة تفاصيل عمن بايعه، باستثناء قيس بن سعد. وأغلب الظن أن المبايعة كانت تحصيل حاصل، بفعل القداسة التي سربلته بها أحاديث نبوية عديدة، لكنه وخلافا لما يتوقعه منه المخلصون لأبيه، “سلم الأمر إلى معاوية”.
ويدافع الفقهاء باستماته، عن كون الحسن خلع نفسه وتنازل لمعاوية عن الحكم، بهدف حقن دماء المسلمين، وإخماد نار الفتنة المستعرة وقتها، مصداقا لحديث جده الوارد في صحيح البخاري: “ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين”.
غير أن هذه الصورة ليست مطابقة لواقع حال السردية الإسلامية نفسها.
كيف تنازل عن الخلافة
تفيد رواية أنه، لما بايع أهل العراق الحسن بن علي، “قالوا له: سر إلى هؤلاء الذين عصوا الله ورسوله وارتكبوا العظائم، فسار إلى أهل الشام، وأقبل معاوية حتى نزل جسر منبج، فبينما الحسن بالمدائن، إذ نادى مناد في عسكره: ألا إن قيس بن سعد قد قتل”. وقيس هذا، للإشارة، هو ابن الصحابي الأنصاري سعد بن عبادة (الذي كانت “الجن” قد قتلته بعد أن نزا عليه عمر وصحبه، في سقيفة بني ساعدة)، وقائد جيش الحسن الذي فتك به معاوية، بعد أن أمنه. وهو ما أجج غضب أهل العراق من الحسن، “فشد الناس على حجرة الحسن، فنهبوها (وفي حديث، انهم انتهبوا جواريه) وأخذوا رداءه، وطعنه رجل من بني أسد في ظهره بخنجر مسموم في أليته”، فقال الحسن مغضبا: “عليكم لعنة الله من أهل قرية، قد علمت أن لا خير فيكم. قتلتم أبي بالأمس، واليوم تفعلون بي هذا”. ولما مر الحسن بأحدهم “دنا من دابته فأخذ بلجامها، ثم أخرج معولا كان معه وقال: أشركت يا حسن، كما أشرك أبوك من قبل؟ وطعنه بالمعول في أصل فخذه، فشق في فخذه شقا، كاد يصل إِلَى العظم”.
وهو ما زاد الحسن إمعانا وإصرارا على الكتابة “إلى معاوية في الصلح”، دون أدنى قتال أو حتى مناوشة، وحدد لذلك الصلح جملة شروط هي:
– أن “يسلم له بيت المال فيقضي منه دينه ومواعيده ويتحمل منه هو وآله”.
– أن “لا يسب علي وهو يسمع”. بمعنى أن معاوية حر في أن يسب عليا ما لم يكن الحسن حاضرا.
– أن يحمل إليه خراج فسا ودرابجرد (مدينتان إيرانيتان) كل سنة إلى المدينة”.
– أن ” يكون له الأمر من بعده”. وفي حديث آخر أن يكون الأمر للحسين من بعده.
قبل معاوية بتلك الشروط “فسلم إليه الحسن الأمر، وبايعه.
للتوضيح، فقد كان في بيت المال “يومئذ، سبعة آلاف ألف درهم” أي سبعة ملايين درهم، “احتملها الحسن، وتجهز هو وأهل بيته إلى المدينة”.
.. علاوة عن إجازة سنوية بمليون درهم، فقط لا غير! “مع ما له في كل زيارة من الجوائز والتحف والهدايا”، كعربون شهامة من معاوية.
يجهد بعض الرواة في التأكيد على أن معاوية كف عن سب علي، لكن روايات أخرى كثيرة، تؤكد أن سب علي تحول وقتها إلى أذكار للصباح والمساء في كل مساجد الشام. لا بأس، ما دام معاوية قد نفذ أهم بندين في الاتفاق: المال ثم المال.
هكذا تحلل الحسن من كل متاعب السلطة، وضمن لنفسه مداخيل ضخمة، غير مقطوعة ولا ممنوعة، وصار بإمكانه أن يتفرغ، بقية عمره، لمتع الحياة الدنيا، فطوابير الجواري الحسان، اللائي لم يطمثهن بعد إنس ولا جان، تنادي.
وللتأكد من أن الحسن قايض حكمه فقط مقابل المال، لن نجد أبلغ من هذا النص: “أرسل الحسن بن علي وعبد الله بن جعفر إلى معاوية يسألانه المال، فبعث إليهما – أو إلى كل منهما- بمائة ألف. فبلغ ذلك عليا فقال لهما: ألا تستحيان؟ رجل نطعن في عينه غدوة وعشية تسألانه المال؟ فقالا: بل حرمتنا أنت وجاد هو لنا”.
بمعنى أن معاوية كان يعطي الحسن قيد حياة أبيه، لتأليفه وإعداده المسبق للتنازل على الحكم، فسحر المال لا يقاوم، والحسن كان صغيرا.
وبعد أن أعتاد الحسن الحياة السهلة المرفهه، أيقن معاوية أن موعد قطاف فاكهته قد أزف.
وفاة الحسن
عاش الحسن بعد ذلك “عشر سنين”. صال فيها وجال، ولم يكن شيء ليعكر صفوه، سوى بعض شربات من العسل، كان تناولها في أخر حياته، ويبدو أن آخرها عجلت بموته. “يقال: إنه سم أربع دفعات فمات في آخرهن”.
ويحكى أنه من شدة مفعول السم، “دخل كنيفا، ثم خرج، فقال: إني والله قد لفظت طائفة من كبدي قلبتها بعود، وإني قد سقيت السم مرارا، فلم أسق مثل هذا”. وهو ما أكده طبيبه حين قال: “هذا رجل قد قطع السم أمعاءه”.
من سمه، ولماذا؟ لا أظن أن أي بنان سيشير إلى غير معاوية. “كان معاوية قد تلطف لبعض خدمه أن يسقيه سما”. والمقصود ببعض خدمه، “جعدة بنت الأشعث بن قيس”، زوجة الحسن، أو لنقل: إحدى زوجاته. وللإشارة، فهذا الحديث لا يختص بالشيعة وحدهم كما ادعى بعض السنة. وبالمناسبة، هناك حديث آخر، يطعن فيه السنة، يشير إلى أن يزيد بن معاوية هو من وعد جعدة بالزواج إن هي سمت الحسن، وبعد أن فعلت، قال لها: “إنا والله لم نرضك للحسن، أفنرضاك لأنفسنا؟”.
هكذا كانت نهاية سبط الرسول وريحانته. بقي فقط أن أشير إلى أن عائشة، حين سُئلت أن يدفن الحسن في حجرة الرسول قالت: “نعم وكرامة”. وحين انبرى لها مروان، بالسلاح، مصمما على منع ذلك، قالت: “البيت بيتي، ولا آذن أن يدفن فيه أحد!!!”. للإشارة فعلامات التعجب الثلاث، ليست من عندي.
أخيرا، بعد كل هذه الممارسات العصاباتية، من غدر وقتل وتسميم ورشاء، بين فريقين يدعي كل منهما التقوى والحرص الأكيد على إعلاء راية الإسلام، يصر بعض الفقهاء، ومنهم ابن الأثير، على ادعاء أن الرسول شهد “للفرقتين بالإسلام، فمن كفرهم أو واحدا منهم، لمجرد ما وقع، فقد أخطأ وخالف النص النبوي المحمدي، الذي لا ينطق عن الهوى”.
لقراءة الجزء الأول: تاريخ الخلافة بين الواقع والخرافة. مقدمة لابد منها
لقراءة الجزء الثاني: تاريخ الخلافة بين الواقع والخرافة. ولاية أبي بكر الصديق
لقراءة الجزء الثالث: تاريخ الخلافة بين الواقع والخرافة. ولاية عمر بن الخطاب
لقراءة الجزء الرابع: تاريخ الخلافة بين الواقع والخرافة. عمر بن الخطاب، من توسع الخلافة إلى الاغتيال
لقراءة الجزء الخامس: تاريخ الخلافة بين الواقع والخرافة. عثمان بن عفان: الولاية والنهاية
لقراءة الجزء السادس: تاريخ الخلافة بين الواقع والخرافة: علي بن أبي طالب… الإمامة وبداية الفتنة (الجزء 6)
المراجع
الأعلام للزركلي
البداية والنهاية لابن كثير
الكامل في التاريخ لابن الأثير
أنساب الأشراف للبلاذري
سير أعلام النبلاء للذهبي
صحيح البخاري