تاريخ الخلافة بين الواقع والخرافة: علي بن أبي طالب… الإمامة وبداية الفتنة (الجزء 6)
حاول علي بن أبي طالب، إعادة ربط الإمامة بالخلافة، في ظروف لم تعد تتيح ذلك، وفي سياق مختلف حكمته المصالح والاصطفافات.
مصالح، وجدت في قميص عثمان عنوانا مغريا، ارتفعت تحته السيوف، واستبيحت الدماء، و… أعلنت بداية الفتنة.

علي بن أبي طالب، نموذج لمحاولة إعادة ربط الإمامة بالخلافة، بعد أن بدءا في الانفصال بالتدريج، واضمحلت الأولى لصالح الثانية، بفعل تركز السلطة والثروة بيد الأمويين، وبروز طبقة جديدة مكونة من “صغار الصحابة”، الذين صاروا يطالبون علنا بنصيبهم من السلطة والامتيازات.
وبما أن التاريخ لا يعيد نفسه حرفيا، فإن هذا النموذج لم يفض في النهاية إلا إلى المزيد من حمامات الدم، التي وسمت تاريخ الخلافة الطويل.
رابع الخلفاء الراشدين، علي بن أبي طالب. أو “أبو تراب”، كما سماه الرسول. “ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وختنه على ابنته فاطمة الزهراء”.
قيل إن الرسول تبنى عليا بسبب عوز وكثرة عيال أبي طالب “فلم يزل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله نبيا، فاتبعه علي وآمن به وصدقه” بعد سنة من مبعثه، وهو: “ابن سبع وقيل ابن ثمان، وقيل تسع، وقيل عشر، وقيل أحد عشر، وقيل اثني عشر، وقيل ثلاثة عشر، وقيل أربع عشرة، وقيل ابن خمس عشرة، أو ست عشرة”. واضح حرج الرواة الشديد، من أن يكون سن أول مصدق للرسول سبع سنوات.
شجاعة علي
باختصار، فإن عليا قاتل إلى جانب الرسول في كل غزواته، وكان له اللواء في أغلبها، وأبلى البلاء الحسن فيها، خلافا لباقي الصحابة. وذاد عن الرسول “حين شج في وجهه وكسرت رباعيته” في معركة أحد. كما أنه الصحابي الوحيد الذي صمد مع الرسول في وجه المشركين في غزوة حنين، يوم هرب جميع الصحابة من وجههم، مؤثرين السلامة على الخلود في الجنة. علاوة عن كونه قاد “سبع عشرة سرية”.
حتى إن بعض الظرفاء ادعوا أنه قاتل الجن رأسا.
الموقعة الوحيدة التي تخلف فيها علي عن القتال، هي غزوة تبوك، لكون الرسول طلب منه أن يبقى في المدينة لحماية الأطفال والنساء.
غير هذا فقد كان علي “من كتّاب الوحي، والكاتب لعهود الرسول إذا عهد، وصلحه إذا صالح”. إذ كان قد “اختلف إلى الكتّاب، فتعلم الكتابة به”. وقيل: إنه “أول من وضع النحو”.
علاوة عن أنه كان أقضى الناس، وأعلمهم بالفرائض بشهادة عمر نفسه.
الزلتان الوحيدتان اللتان كانتا له مع الرسول، هما:
– حادثة رفضه الكتابة للرسول حين طلب منه أن يكتب “محمد بن عبد الله” مكان “رسول الله” في صلح الحذيبية.
– حادثة الإفك، والتي كلفته كُره عائشة إلى الأبد، لكونه أشار على الرسول باتخاذ غيرها.
الخلافة
لن تفيدنا كل الأحاديث النبوية، الصحيح منها والموضوع، والتي اعتمدها هذا أو ذاك في الترويج لأحقية علي في الخلافة، إذ كما يقول ابن الأثير: “لو كان مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه نص فلم لا كان يحتج به على الصحابة على إثبات إمارته عليهم وإمامته لهم؟ فإن لم يقدر على تنفيذ ما معه من النص فهو عاجز، والعاجز لا يصلح للإمارة. وإن كان يقدر ولم يفصله فهو خائن، والخائن الفاسق مسلوب معزول عن الإمارة. وإن لم يعلم بوجود النص فهو جاهل”.
لنبدأ إذن من حيث انتهينا.
بعد مقتل عثمان “امتنع علي من إجابتهم إلى قبول الإمارة حتى تكرر قولهم له وفر منهم (..) وأغلق بابه فجاء الناس فطرقوا الباب وولجوا عليه، وجاءوا معهم بطلحة والزبير، فقالوا له: إن هذا الأمر لا يمكن بقاؤه بلا أمير، ولم يزالوا به حتى أجاب”.
وطبعا لم يتم الأمر بكل هذه السلاسة، ولا كل هذا الإجماع، إذ يقال إن “طلحة والزبير إنما بايعاه بعد أن طلبهما، وسألاه أن يؤمرهما على البصرة والكوفة، لكنه رفض بلباقة. وبعد تلكؤ من قبلهما، انتهى الأمر بأن بايعا “عليا كرها” وسيف الأشتر على رأسيهما. وقد قال الزبير نفسه في ذلك: “إنما بايعت عليا واللج (السيف) على عنقي”.
كما أن هناك “من يزعم أنه لم يبايعه طائفة من الأنصار، منهم حسان بن ثابت (..) وهرب قوم من المدينة إلى الشام ولم بايعوا عليا”.
زد على ذلك أنه في الأصل، كان المصريون يلحون على تولية علي، والكوفيون على تولية الزبير، والبصريون على تولية طلحة، لما لم يستجب لهم أحد من هؤلاء “قالوا فيما بينهم: لا نولي أحدا من هؤلاء الثلاثة” وحاولوا مع غيرهم (سعد بن أبي وقاص، ابن عمر) دون فائدة. ثم قالوا: إن نحن رجعنا إلى أمصارنا بقتل عثمان من غير إمرة اختلف الناس في أمرهم ولم نسلم. فرجعوا إلى علي فألحوا عليه، وأخذ الأشتر بيده فبايعه وبايعه الناس.
أشار ابن عباس وغيره على علي بإبقاء نواب عثمان على الأمصار، وإقرار معاوية على الشام، ريثما تستقر الأمور “فأبى عليه ذلك كله، وطاوع أمر أولئك الأمراء من أولئك الخوارج من أهل الأمصار”.
بعد تولية علي لسهل بن حنيف، سار الأخير “حتى بلغ تبوك فتلقته خيل معاوية، فقالوا: من أنت؟ فقال: أمير، قالوا: على أي شيء؟ قال: على الشام” فمنعوه “فرجع إلى علي”.
بداية الفتنة
ما إن تولى علي الخلافة “حتى انتشرت الفتنة وتفاقم الأمر، واختلفت الكلمة (..) وبعث علي إلى معاوية كتبا كثيرة فلم يرد عليه جوابها”. وبعد لأي، بعث معاوية رجلا فدخل على علي “فقال: (..) جئتك من عند قوم لا يريدون إلا القود (القصاص) كلهم موتور، تركت سبعين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان، وهو على منبر دمشق، فقال علي: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان”.
إذ لما قتل عثمان، خرج النعمان بن بشير (أحد صغار الصحابة)، “ومعه قميص عثمان مضمخ بدمه، ومعه أصابع نائلة التي أصيبت حين حاجفت عنه بيدها، (..) فورد به على معاوية بالشام، فوضعه معاوية على المنبر ليراه الناس، وعلق الأصابع في كم القميص، وندب الناس إلى الأخذ بهذا الثأر (..) ممن قتله من أولئك الخوارج (..) وغيرهم من التابعين”. فكانت فرصة سانحة لمعاوية لتأليب الناس على علي وحشدهم حوله.
زد على ذلك أن أزواج النبي هربن من علي إلى مكة “وفر جماعة من بني أمية وغيرهم إلى مكة”، وفيهم طلحة والزبير. كما أبى أهل المدينة الخروج مع علي لقتال أهل الشام.
موقعة الجمل
اجتمع في مكة “خلق من سادات الصحابة، وأمهات المؤمنين، فقامت عائشة رضي الله عنها في الناس تخطبهم وتحثهم على القيام بطلب دم عثمان، (..) فاستجاب الناس لها”. وقال بعضهم: “نذهب إلى البصرة فنتقوى من ذلك بالخيل والرجال، ونبدأ بمن هناك من قتلة عثمان. فاتفق الرأي على ذلك (..) وسار الناس صحبة عائشة في ألف فارس (..) من أهل المدينة ومكة، وتلاحق بهم آخرون، فصاروا في ثلاثة آلاف، وأم المؤمنين عائشة تُحمل في هودج على جمل اسمه عسكر“.
وكذلك فعل علي ومن معه، “فنشبت الحرب، وتواقف الفريقان، وقد اجتمع مع علي عشرون ألفا، والتف على عائشة ومن معها نحوا من ثلاثين ألفا. فإنا لله وإنا إليه راجعون! يعلق ابن الأثير.
قُتل خلق كثير جدا، إلى حد أن عليا قال: “يا حسن ليت أباك مات منذ عشرين سنة، فقال له: يا أبه قد كنت أنهاك عن هذا، قال: يا بني إني لم أر أن الأمر يبلغ هذا”!
في محاولة متأخرة منها لاستدراك الأمر، “تقدمت عائشة رضي الله عنها في هودجها، وناولت كعب بن سوار قاضي البصرة مصحفا وقالت: ادعهم إليه”. لكن قدسية القرآن (ومعها أمومة المسلمين) كانت قد تآكلت في أعين متصيدي السلطة، إذ لما رأى جنود علي الرجل “رافعا المصحف، رشقوه بنبالهم رشقة رجل واحد، فقتلوه. ووصلت النبال إلى هودج أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فجعلت تنادى: الله الله! يا بني اذكروا يوم الحساب”!
اشتد أوار الحرب “ولم تُر وقعة أكثر من قطع الأيدي والأرجل فيها من هذه الوقعة (..) ويقال إنه قطعت يد سبعين رجلا وهي آخذة بخطام الجمل (..) فكلما قُتل واحد ممن يمسك الجمل، يقوم غيره. حتى قتل منهم أربعون رجلا (..) ثم أخذ الخطام سبعون رجلا من قريش وكل واحد يُقتل بعد صاحبه”. ثم جاء رجل “فضرب الجمل على قوائمه فعقره وسقط إلى الأرض (..) فعقر الجمل (..) ويقال إن الذي أشار بعقر الجمل علي”.
ولما سقط الجمل “حُمل هودج عائشة (..) وجاء إليها على بن أبى طالب أمير المؤمنين مسلما فقال: كيف أنت يا أمه؟ قالت: بخير فقال: يغفر الله لك (..) فلما كان الليل، دخلت أم المؤمنين البصرة”.
خارج هودج أم المؤمنين، سقط يومها “من الفريقين، عشرة آلاف. خمسة من هؤلاء وخمسة من هؤلاء”.
أما الزبير قد قتله “ابن جرموز، فجاءه وهو نائم فقتله غيلة”.
وأما طلحة فقتله سهم “يقال: رماه به مروان بن الحكم”.
ولما أرادت أم المؤمنين “الخروج من البصرة، بعث إليها علي رضي الله عنه بكل ما ينبغي من مركب وزاد ومتاع وغير ذلك”. ولما “كان اليوم الذي ارتحلت فيه جاء علي فوقف على الباب (..) وخرجت من الدار في الهودج فودعت الناس ودعت لهم… وكأنها كانت في رحلة استجمام ليس إلا.
ولما دخل علي البصرة “فض في أصحابه أموال بيت المال، فنال كل رجل منهم خمسمائة”، مكافأة لهم على حسن صنيعهم. ووعدهم بمثلها من الشام، إن هم أبلوا البلاء الحسن.
موقعة صفين
لم تكد تمر سنة واحدة على معركة الجمل حتى بادر علي إلى محاولة إخضاع معاوية لسلطته، بأن كاتبه بالأمر ببيعته. وبعد أن استشار معاوية “عمرو بن العاص ورؤوس أهل الشام فاستشارهم فأبوا أن يبايعوا حتى يُقتل قتلة عثمان”. وهو ما اعتبره علي عصيانا، خرج لحرب أهل الشام. تهيأ هؤلاء بدورهم “وتأهبوا، وخرجوا”، “فتواجه الفريقان وتقابل الطائفتان فبالله المستعان”، على حد تعبير ابن الأثير، “وقد اقتتلوا في مدة شهر ذي الحجة كل يوم، وفي بعض الأيام ربما اقتتلوا مرتين، وجرت بينهم حروب يطول ذكرها”.
حروب قُتل فيها من الفريقين “سبعون ألفا. خمسة وأربعون ألفا من أهل الشام، وخمسة وعشرون ألفا من أهل العراق”. وكان “يدفن في القبر الواحد، خمسون نفسا”.
ولما استحر القتل بأهل الشام “قال عمرو بن العاص لمعاوية: أرسل إلى علي بمصحف فادعه إلى كتاب الله فإنه لن يأبى عليك”. “فرفع أهل الشام المصاحف، وقالوا: ندعوكم إلى كتاب الله والحكم بما فيه. وكان ذلك مكيدة من عمرو بن العاص”. ورغم علمه بأنها كانت مكيدة، أبدى علي استعداده للتفاوض، فانقسم أتباعه إلى طائفتين، تريد إحداهما الاستمرار في القتال وتجنح الأخرى إلى التفاوض.
وانتهى الأمر إلى تعيين حكمين (أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص) على أساس أن يخلع أبو موسى عليا ويخلع عمرو معاوية، ثم يصير الأمر شورى.
لكن، بعد أن خلع أبو موسى عليا، انقلب عليه عمرو وقال: “إن هذا قد قال ما سمعتم، وإنه قد خلع صاحبه، وإني قد خلعته كما خلعه، وأثبت صاحبي معاوية فإنه ولي عثمان بن عفان، والطالب بدمه، وهو أحق الناس بمقامه”.
خروج الخوارج
بعد سقوطه المدوي في فخ معاوية وعمرو، خرج على علي زهاء “اثني عشر ألفا” من جنوده و “أبوا أن يساكنوه في بلده” ثم “تحيزوا إلى موضع يقال له النهروان، وهناك قاتلهم علي”، ثم بعث إليهم بأن “ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم حتى أقتلهم، ثم أنا تارككم وذاهب إلى العرب، يعنى أهل الشام”. سخرية الأقدار، المطالَب بدم عثمان يطالب غيره بدم أصحابه.
أثناء ذلك، بعث معاوية “عمرو بن العاص إلى ديار مصر فأخذها من محمد بن أبى بكر واستناب معاوية عمرا عليها (..) وهرب محمد بن أبي بكر فاختبأ عند رجل” بلّغ فورا عن مكان اختبائه فقُتل.
صارت الخلافة بعد هذا خلافتان. واتفق الطرفان على أن “يكون مُلك العراق لعلي، ولمعاوية الشام”!
مقتل علي
نقم الخوارج على علي كما سلف، فكان أن اجتمع ثلاثة منهم، على رأسهم ابن ملجم، “فتذاكروا قتل علي إخوانهم من أهل النهروان (..) فقال ابن ملجم: أما أنا فأكفيكم على ابن أبى طالب. وقال البرك وأنا أكفيكم معاوية: وقال عمرو بن بكر وأنا أكفيكم عمرو بن العاص”. فأخذوا “أسيافهم فسموها واتعدوا (..) فجلسوا مقابل السدة التي يخرج منها علي، فلما خرج (..) ثار إليه شبيب بالسيف فضربه فوقع في الطاق، فضربه ابن ملجم بالسيف على قرنه فسال دمه على لحيته رضي الله عنه (..) وهرب وردان فأدركه رجل من حضرموت فقتله، وذهب شبيب فنجا بنفسه (..) ومُسك ابن ملجم”. هذا الأخير، قتله الحسن “ثم أخذه الناس فأدرجوه في بواري (وعاء من قصب) ثم أحرقوه بالنار، وقد قيل إن عبد الله بن جعفر قطع يديه ورجليه” وقيل أيضا قُطع لسانه.
أخيرا فإن عليا سئل وهو يحتضر: “ألا تستخلف علينا؟ فقال: ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستخلف، ولكن إن يرد الله بالناس خيرا فسيجمعهم بعدي على خيرهم، كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم”.
… ويستمر العبث.
لقراءة الجزء الأول: تاريخ الخلافة بين الواقع والخرافة. مقدمة لابد منها
لقراءة الجزء الثاني: تاريخ الخلافة بين الواقع والخرافة. ولاية أبي بكر الصديق
لقراءة الجزء الثالث: تاريخ الخلافة بين الواقع والخرافة. ولاية عمر بن الخطاب
لقراءة الجزء الرابع: تاريخ الخلافة بين الواقع والخرافة. عمر بن الخطاب، من توسع الخلافة إلى الاغتيال
لقراءة الجزء الخامس: تاريخ الخلافة بين الواقع والخرافة. عثمان بن عفان: الولاية والنهاية
المراجع:
البداية والنهاية لابن كثير
المفصل لجواد علي
تاريخ الطبري
سير أعلام النبلاء للذهبي