ما الموت؟… المشكل في الزمن أنه يأخذ منا كل ما نحب - Marayana
×
×

ما الموت؟… المشكل في الزمن أنه يأخذ منا كل ما نحب

القبول بالموت، موتنا الشخصي وكذا موت أقاربنا، السبيل الوحيد الكفيل بأن يجعلنا كائنات أشد ما تكون وفاء للحياة.
تمثلنا الخاطئ للموت هو ما قد يؤثر سلباً على أبسط اللحظات من لحظات حياتنا، فيجعلها بلا قيمة. علينا إذن أن نفكر في الموت، حتى نحب الحياة بشكل أفضل.

الموت، من وجهة نظر فكرية، يمكن اعتباره موضوعاً هاماً ومستحيلاً في نفس الوقت. هام لأن حياتنا كلها تحمل بصمة الموت، بحيث إن لم نكن منذورين للموت، لأصبح لكل لحظة من لحظات حياتنا مذاق مختلف؛ والجانب المستحيل هو أن كل ما في الموت لا يمكن أن نعرفه.

هذا يدفعنا إلى طرح السؤال: “ما الموت؟”

هذا بالضبط ما نجهله ولا يمكننا أن نعرفه معرفة يقينية، وهذا أيضاً ما يجعل حياتنا مليئة بالألغاز، فهي أشبه ما تكون بطريق لا نعرف إلى أين تؤدي.

الإنسان وهو الكائن الوحيد الذي يفكر في الموت، فالإنسان لا يفكر إلا فيما يُشقيه بالفعل. هو سؤال مزعج للبعض، فلا وجود لحيوان يتساءل عما يكون الموت. وقد كان الفلاسفة دائماً يتساءلون عن “ما الموت؟”، إلا أن الميتافيزيقا لعبت دوراً مهماً في إعطاء تفسيرات للموت، فالدور الذي لعبته الميتافيزيقا أثر على مجموعة من تفسيرات الفلاسفة، يمكن تقسيمها إلى قسمين:

– هناك فلاسفة اعتقدوا أن الموت “لا شيء”، أي مجرد عدم، يعني أن الموت هو عدم الوجود، بحيث أن عدم الوجود هو القاعدة والاستثناء هو الوجود.

– هناك فلاسفة آخرون يعتقدون أن الموت بمثابة حياة أخرى، يعني استمرارا لهذه الحياة نفسها، الاستثناء الوحيد هو أنهم يتصورونها حياة طاهرة ومتحررة.

الإجابتين معاً، بالرغم من اختلافهما، إلا أنهما طريقتان لنفي الموت، سواء تفسير العدم، ما دام العدم هو اللاشيء. هذا التصور نجده عند أبيقور؛ أو تفسير أن هناك حياة ما بعد الموت ما دام أن الموت وسيلة للانتقال إلى الحياة الثانية، هذا التصور نجده عند أفلاطون.

هذين التصورين، بالرغم من أنهما يصلان إلى نتيجة واحدة، لا يمكن أن نعثر على حل وسط يجمع بينهما، لأن التصوران الاثنان يقومان على الجهل واللايقين والشك. بالرغم من هذا، عند طرح سؤال ما الموت، لا يمكن أن يقبل إلا نوعين من الأجوبة:

هناك من يعتقدون بأن الموت مجرد عدم مطلق. “نجد هذا عند كل من اللاهوتيين والفلاسفة الطبيعيين”، وهناك من لا يرون في الموت إلا انتقالاً وعبوراً ما بين الحياتين “تصرح بهذا كل الديانات وكل الفلسفات الروحانية والمثالية”.

هكذا يبقى سؤال ما الموت سراً كبيراً، بالرغم من كل هذه التصورات، طالما أن التفكير في الموت هو إنكاره.

هذا يجرنا إلى طرح سؤال آخر، وهو ما الجدوى من التفكير في قضية لا حل لها؟

الفلسفة لا تشتغل على القضايا ذات حل فقط، بل إنها تشتغل على كل القضايا بدون استثناء، لأنها لو اشتغلت على القضايا القابلة حقاً للحل، فلن تعود هناك قضايا، فمن يريد أن يشتغل على قضايا القابلة للحل فقط وجب عليه أن يتخلى عن التفلسف، فهذه القضية هي التي تقوم عليها حياتنا وتمثلاتنا، التفلسف هو الانشغال بقضايا صعبة الحل، “حسب الإغريق فإننا الكائنات منذورة للموت لأننا نعرف أننا سنموت، ولكن لا نعرف ما هو فعل الموت، بالرغم من ذلك لا نكف عن التفكير في الموت”.

هذا سيجرنا إلى أن سؤال “ما الموت؟” لن يقبل جواباً واحداً أو اثنين، لهذا سنرى بعض تصورات الفلاسفة عن الموت.

الفيلسوف مونتاني له عبارة شهيرة وهي “أن نتفلسف هو ما يعني أن نتعلم أن نموت”، هذه الفكرة في الأصل مأخوذة من شيشرون، وهو الآخر يقدمها باعتبارها قول لأفلاطون بالأساس، المفيد في هذه القولة أنها تنطوي على طريقتين مختلفتين في التفسير، المعنى الأول وهو المعنى الأفلاطوني الذي يعتبر أن الموت هو حالة الفصل ما بين الروح والجسد، في اعتقاده أن هذه هي الغاية من الحياة، على حد تعبير أفلاطون “فإن الفلاسفة الحقيقيين هم من ماتوا سلفاً، ولم تعد تزعجهم فكرة الموت”؛ المعنى الثاني الذي يقصد مونتاني، يضحى الموت بموجبه “حداً للحياة” أو “نقطة نهايتها” وليس هدفها ولا غايتها، لذلك ينبغي أن نستعد لها وأن لا نستسلم لها على نحو تخرب فيه حياتنا وتفسد سعادتنا.

“فكرة الموت – حتمية الموت – الجزء لا يتجزأ من هذه الحياة، لكن الحياة هي الأهم لوحدها لا غير، لذلك دأب الفلاسفة الحقيقيون على حبها كما هي، من دون أن تزعجهم حتى ولئن كانت تنتهي بالموت”.

إن التصورين السابقين، سواء تعلق الأمر بالذي يرى أن الموت هي الخلاص الذي سيلوذ به إلى الحياة الثانية، على حد تعبير أفلاطون بأنها مجازفة رائعة تستحق العناء؛ في حين الطرف الآخر الذي لا يرى في الموت أي شيء “مجرد عدم”، يرى بالرغم من ذلك أنها فرصة للراحة ومناسبة للتخلص من العياء.

من خلال كل ما تم تطرق له، فإن كلا التصوران ممتعان طالما أن فكرة الموت قد تفيدنا كثيراً، ومن الجدير بالذكر بأن كلتا الحالتين تدفعنا إلى الحرص كلياً على عدم تضييع أي لحظة من لحظات الحياة…

أما فيما يخصني أنا، فما يزعجني كثيراً ليس سؤال حقيقة “ما الموت؟” ولكن ما يحزنني هو فقدان أقربائي بالموت، فإن موتهم يكون أشد حزناً عليَّ من موتي، فموتي أنا لن يحرمني إلا من ذاتي، فبعد موتي يستحيل أن أشعر بالحرمان من أي شيء كيفما كان، أما موت غيرنا، فهو بخلاف موتنا، يكون جد محسوس وجد مؤلم، بالرغم من كل هذا لم يتبقى لنا سوى مواجهته.

هناك شعور غريب يشعر به المرء عند فراق أحد الأقرباء، الغريب في هذا النوع من الفراق هو أننا عندما نرى شخصًا أُصيب بمرض مُستَعْصٍ، يعاني ويتألم من شدة الألم من المرض، وتتمنى له الشفاء وأن يتخلص من ذلك المرض، إلا أن ذلك المرض يكون قد انتشر في الجسم بأكمله هذا يدل على أن احتمال الشفاء من المرض صعب جداً.

المفارقة تكمن في رؤية معاناة الشخص مع المرض واستعصاء الشفاء منه، تجعل من يرافق المريض وهو يراه يتألم طِوال النهار، يتمنى له الموت لكي ينعم بالراحة والتخلص من العياء ومن تلك المعاناة، وأن يرتاح من الآلام؛ إلى أن تأتي تلك اللحظة الحاسمة ويفارق الحياة، يشعر المرء عندئذٍ بشعور غريب جدًا يصعب وصفه، الشعور بالخيانة أي خيانة الجسد للمريض وخيانة الحياة بالأساس. أن تتمنى لشخص الموت لكي ينعم بالراحة ويتخلص من المعاناة، ولكن عند حدوث ذلك يشعر المرء بالحسرة حيال الفراق. هنا بالضبط يحدث تضارب بين الاحساس بنوع من الفرحة لتحرر المريض من تلك المعاناة، وفي نفس الوقت الإحساس بالأسى حيال فراقه للحياة، بالرغم من كل هذا يصعُب تفسير هذا التضارب، الا أن حتمية الحزن إزاء الفراق تبقى ثابتة.

هناك مثل قديم قدمه فرويد “إذا أردت أن تحافظ على السلم فعد نفسك للحرب”، وفي سياقنا الحالي وجب تعديله كالتالي “إذا كنت ترغب في كسب المقدرة على تحمل الحياة، فعليك أن تكون مستعدًا لقبول الموت”.

“إن القبول بالموت – موتنا الشخصي وكذا موت أقاربنا – السبيل الوحيد الكفيل بأن يجعلنا كائنات أشد ما تكون وفاء للحياة”

تمثلنا الخاطئ للموت هو ما قد يؤثر سلباً على أبسط اللحظات من لحظات حياتنا، فيجعلها بلا قيمة. من اللازم علينا إذن أن نفكر في الموت، حتى نحب الحياة بشكل أفضل.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *