مصطفى مفتاح يكتب: جولة أولى في ذاكرة سنوات الرصاص اليسارية
لم تحفل الحركة بكل أنواع الاقتراب من النظرية الاشتراكية لدى الحزبين “اليساريين” الأخريين، رغم سبقهما التاريخي وما تصرح به وثائقهما، التي لم تلق عنايةً من أطر ومفكري “اليسار الجديد” إلا قليلاً، وبنفس بوليميكي غالبا لا يقدم معرفة للمناضلين.
لهذا السبب، كانت شتيمة “التحريفية” دارجة عندنا، لأنه لم يكن ممكنا التشطيب على سبق الشيوعيين المغاربة في تبني ومحاولة نشر الماركسية-اللينينية، فالتجأت الحركة إلى التعامل الرائج حول الديانات السماوية التوحيدية الأخرى باعتبارها حرفت، إلى هذا الحد أو ذاك، التعاليم السماوية!

لقد اعتقد العديد من المهتمين أن الكلام عن سنوات الرصاص في أسمائها اليسارية قد انتهى مع هيئة الإنصاف والمصالحة، خصوصا أن جزءا من طاقم إخراج هذا المسلسل الجميل للعهد الجديد، كانوا من أبرز رموز ضحايا “الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان”، من اليساريين على وجه الخصوص. سواء كمنشطين أو مخرجين أو فاعلين أو مساهمين باسم الدولة في كل حلقات “الإنصاف والمصالحة”. بل إن منهم من استمر في الواجهة لـ”العهد الجديد”، “الحزبية” منها، أي “الأصالة والمعاصرة” أو الرسمية في وظائف ومسؤوليات مرتبطة أو غير مرتبطة بالملف.
ولكن الأمر يبدو غير ذلك، فسرديات بعض الضحايا، ما تزال تصدر وتأخد نصيبا معتبرا من الاهتمام، كما رأينا في الدورة الأخيرة لمعرض الكتاب بالرباط، وفي المتابعة الإعلامية. مع إعادة تسليط الضوء على بعض الإصدارات السابقة المعروفة.
سيختصم المتتبعون والباحثون حول سر هذا الاستمرار في الحديث عن الموضوع وفي الاهتمام به، وربما أنهم، قد يملون من نجومية ملحاحة لمجموعة من الناس الذين، منحت لهم الأضواء والاهتمام والتعويضات، والتلفزة… وما زالوا يكتبون ويتكلمون.
يبدو أن المهتمين، في الحقيقة، لا يهتمون إلا كمتفاعلين، سلبا وإيجابا، مع موضوع، أصبح ربما محط توافق ضمني لأنه لا يربك، بشكل كبير ومؤثر، كل المآل الذي يعرفه “العهد الجديد”، بل ربما أن مسلسل و “الانصاف والمصالحة”، مثل قضايا أخرى، ما تزال تذرُّ فوائد في رصيد الوضع.
ثمة أسئلة كبرى، لم تتقدم فيها معرفتنا العلمية، التاريخية والاجتماعية والسياسية، رغم أنها تهم مرحلة وقضايا ذات أهمية في تاريخنا المعاصر ورغم أنها كانت وراء كَمٍّ مُهِمٍّ من الإصدارات فيما يسمى “أدب السجون” اليساري.
وأوضح أنني أتناول الموضوع انطلاقا من تجربة وفكر الحركة السياسية اليسارية، التي سمت نفسها “حركة ماركسية-لينينية مغربية”، عبر بعض أدبيات فاعلين انتسبوا إليها. ولا تزعم محاولتي أنها دراسة علمية مستفيضة، كما هو متعارف عليه في هذا النوع من النشاط البحثي.
أوضح أيضا، أنني أتناول الموضوع، انطلاقا من تجربتي كمنتسبٍ لهذه التجربة، كمناضل في صفوفها، وكمعتقل “سياسي” بسبب الانتماء إليها، مع كل ما يعنيه الانتساب-الانتماء من “ذاتية”، وما تركته تجربة الاعتقال من آثار، حتى في علاقاتنا ببعضنا ومواقفنا الحالية من ماضينا ذاك.
ثمة قضايا “حارقة” تفرض نفسها على من يريد معرفة هذه التجربة بحقليها الرئيسيين: تجربة الحركة اليسارية باعتبارها حركة سياسية ناهضت الوضع القائم في البلاد، وتطلعت لتغييره، من جهة، وتجربة الاعتقال والمنفى التي عرفها عدد كبير من المنتسبين لهذه الحركة، من جهة أخرى. مع العلم أن السجون كانت أيضا مجالا لترجمة أفكار وخطط هذا اليسار في مناسبات أساسية منها: الاصطدام مع آليات مواجهة النظام المغربي لهذه المعارضة، في الاعتقال والاستنطاق والتحقيق، وتدبير البقاء والخلافات التي دخلت بها هذه الحركة هذه المرحلة، وإدارة المحاكمة والسجن “الكريم”، أي تحسين ظروف الاعتقال وضمان الحد الأدنى من الاستمرارية والإشعاع.
موضوعة الصمود
يعنون أحد مؤسسي “منظمة 23 مارس”[1]سرديته لتاريخ اليسار الماركسي-اللينيني: “تاريخ اليسار، تاريخ خلافاته”. وبالفعل فإن السجال بدأ مباشرة مع تشكيل هذه المنظمة مثلا، حين انبرى جزء من هيأة القيادة المشكلة حال توحد الحلقات الأصلية الثلاث، لإصدار بيان ضد رفاق من الجزء الآخر، يرميهم بتهم تتراوح ما بين السلوك “البورجوازي الصغير” و اليمينية والتعالي عن الجماهير… وصولا إلى إصدار نشرة خاصة، والانتظام في بنية خاصة، في غفلة عن رفاقهم، حتى افتضح الأمر عند الشرطة. وبالنسبة للعلاقات بين المنظمتين الأكثر شهرة: “إلى الأمام” و”23 مارس”، تراوحت الأمور بين البحث المحموم عن الوحدة والتعبير السجالي “شبه العنيف” عن الاختلاف، ومحاولة تبوأ المكانة الأولى في النقاء الثوري والحزم النضالي والالتزام بجوهر “الالتزام” اليساري البروليتاري.
لهذا وكما لم يكن منتظراً، وقع الاصطفاف منذ الأيام والأسابيع الأولى للاعتقال والاستنطاق والتنكيل، بين فرقة صمدت صامدةً، وفرقة أقل صمودا وأكثر انهياراً.
بل إن بعضنا ما أن وصل للسجن ونزعت عنه العصابة والقيد، حتى أشاع أحكاما على المعتقلين الذين انهاروا أو خانوا أو لم يصمدوا أحسن!
ولعل هذه المسألة تسببت في العذاب والمعاناة الكبيرة لعدد من المعتقلين اليساريين، لم تَمَّحِ آثارها بسهولة، خصوصاً أنها لم تستند إلى أي مسوغات واقعية أو تنظيمية أو حقوقية.
موضوعة الفكر الماركسي
هناك سؤال الإيديولوجيا، لأن الحركة الماركسية-اللينينية المغربية، اعتبرتها عنصرا مؤسسا لانطلاقتها، وحجةً حاسمة في افتراقها عن باقي القوى السياسية التي كانت تناهض النظام القائم بعد الاستقلال، رغم أن إحدى هذه القوى، وهي “الحزب الشيوعي المغربي” ومسمياته اللاحقة، رفع راية الماركسية منذ الأربعينيات، ورغم أن تيارات أخرى، داخل “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”، كانت تدفع داخل الحزب لتبني الاشتراكية العلمية، دون أن تذكر الماركسية أو اللينينية بالاسم، لاعتبارات يمكن فهمها أو حدسها. لكن حركتنا كانت تتشبث بتميزها الإيديولوجي، رغم أن “ماركس” لم يستعمل نعت الماركسية ولا “لينين” نطق بـ”اللينينية”، ولكن الغرض كان، في نظري، هو التميز لتبرير الانفصال أو الانشقاق أولاً، ولرُبَّمَا، ليتسنى للحركة إعلان أحقيتها على قيادة النضال ضد الأوتوقراطية والامبريالية والرأسمالية والتخلف، في انتظار، أن تأخذ الطبقات المنذورة لهذه القيادة موقعها الطبيعي، وهي طبقتا البروليتاريا والفلاحين الفقراء.
بل إن الاتهام بعدم الوفاء للإيديولوجية الماركسية-اللينينية، سيستمر سلاحا يشهر في الصراعات الداخلية داخل الحركة نفسها، وبين فصائلها، مع استعمال أوصاف “اليمينية” و”التجريبية” و”الإطاروية”… وغيرها من أشكال الابتعاد عن الإيديولوجية الثورية العلمية الحقة…
لم تحفل الحركة بكل أنواع الاقتراب من النظرية الاشتراكية لدى الحزبين “اليساريين” الأخريين، رغم سبقهما التاريخي وما تصرح به وثائقهما، التي لم تلق عنايةً من أطر ومفكري “اليسار الجديد” إلا قليلاً، وبنفس بوليميكي غالبا لا يقدم معرفة للمناضلين.
لهذا السبب، كانت شتيمة “التحريفية” دارجة عندنا، لأنه لم يكن ممكنا التشطيب على سبق الشيوعيين المغاربة في تبني ومحاولة نشر الماركسية-اللينينية، فالتجأت الحركة إلى التعامل الرائج حول الديانات السماوية التوحيدية الأخرى باعتبارها حرفت، إلى هذا الحد أو ذاك، التعاليم السماوية!
وعلى أية حال فباستثناء حزب “النهج الديمقراطي العمالي”، ومجموعات أخرى وعدد من المناضلين، ضمرت الإحالة على “ماركس” و”لينين” و”الشيوعية” و”البروليتاريا” حتى اختفت من الخطاب.
لكن التميز الجوهري أو الأساسي أو الرئيسي، والتي كانت تعض عليه بالنواجذ فهو “الثورية” في مواجهة “الإصلاحية”، وأحسن الصفات هي تلك التي تغدقها حركة على نفسها دونما حاجةٍ إلى تقديم الدليل إلا بخطابها نفسه، الذي يضخم هذا الحدث المناسب والمتوائم مع الصفة المعلنة وإخفاء الأحداث التي هي غير ذلك. وهو تميز تم التخلي عنه تدريجيا، هو الآخر.
إفلاس الإصلاحية
رغم كل الاعتداد بنفسها كحركة سياسية وفكرية موعودة بالتبشير والتحضير للثورة البروليتارية الديمقراطية الشعبية، كانت الحركة الماركسية-اللينينية المغربية، تعرف وتقر أنها لا تمثل الطبقات الثورية، ولم تنغرس فيها بما يكفي. بل إن وجها رئيسا من الصراع بين فصائلها وداخل هذه الفصائل نفسها، تجسد في الطريق الأسرع والأوثق لتحقيق الانغراس المنشود داخل العمال والفلاحين في البداية، وداخل منظمة “23 مارس” هناك من قال بحل التنظيم والانتشار للارتباط مع الشعب، ثم كانت رؤية “التراجع التكتيكي وخطة العمل” وتوجيه المناضلين للعمل في المعامل مقابل رؤية “بناء الحزب الثوري تحت نيران العدو” والصمود في المعارك ضد النظام.
وبنفس الشكل، فيما تعلق بالاصطفاف، كان موقف يحسب على النزوع “اليميني المتخاذل” وموقف على مقابله يوصف بـــ”الإرادوي العفوي والتجريبي”، في سلوك يعتبر أن أول الخطو نحو الثورة، هو تنقية الحركة من الآخرين، مع الاستمرار في البحث والتداول لبناء الوحدة!
وتم اعتبار الحركات الشعبية، تعبيرا عن تطلع تلقائي للجماهير الثورية مبدئيا، وكل مواقف الأحزاب “الإصلاحية “، تعبيرات عن مناورات من أجل الفتات الذي يمكن أن يمنحه النظام. وبالمناسبة، لم يكن لمصطلح “المخزن” نفس الحمولة التي أصبحت له، لما صار اللمز في الملكية، يشكل خطرا على من قام به…
…يـــتــبـــع
[1] محمد الحبيب طالب: “أوراق من تجربة اليسار” سلسلة كتاب النهضة، ص. 165