كولن ولسن فيلسوف الحياة ما بعد الموت. “موسيقى الرواية وفيزياء الفلسفة”
رغم أن كولن ولسن كتب اللامنتمي وهو في الخامسة والعشرين من عمره، فإنه يعتبر من أهم وأشهر كتبه على الاطلاق واكثرها انتشارا.
أثار الكتاب نقاشات متعددة، كونه من الكتب الأولى التي ناقشت نفسية الإنسان المعاصر، الإنسان غير المنتمي لأي عقيدة أو دين، في إطار أدبي روائي ….
“من الواضح إني كنت مشغولا دائما بمشكلة العالمين … وأنا لا أحب الحياة حبا خاصا، إنها تضجرني.. لقد شعر الرومانتيكيون بنفس الشعور، وخلصوا إلى استنتاج بأن رفض الحياة، لا يعني بالضرورة اختيار الموت “
يعد الكاتب “كولن ولسن” المزاد سنة1931م من الكتاب الأكثر اثارة في العالم العربي، وخاصة في حقبة الخمسينيات من القرن الماضي، بعد أن قام المترجم العراقي ” أنيس زكي حسن ” الذي نسب إليه الترجمة الأولى لأعمال الكاتب الانجليزي، كتاب ” اللامنتمي”، الترجمة التي لقيت انتشارا كبيرا في المشرق العربي، بسب مرحلة نضال حركات التحرر، زمن تصارع الشك باليقين مرحلة اقتران الحرية بالاضطهاد، الايمان بالإلحاد، التحرر بالعبودية …
الكتاب الذي تزامن مع ثورات الشباب العتيقة في ستينيات القرن الماضي، الثورات التي امتزجت فيها أيضا، الليبرالية الحسية مع الدعوة إلى تجربة العقاقير الجديدة، العقاقير المهيجة لصناعة عوالم متخيلة بعيدة عن الواقع القاسي بكل أسئلته الملحة. فاقترح الكاتب “كولن ولسن” شخصية اللامنتمي كمحاولة للإجابة على التساؤل الأزلي الأكثر الحاحا، والذي سيبقى يؤرق عقولنا يوميا، ما الخطأ فينا؟ على الرغم من أن العديد من الأشخاص العاديين، عندما يقفون أمام المرأة لن يجد في خلقه أي خطاء!!!
ولا تنفك هذه الشخصية المضطربة تساءل نفسها دوما من أنا؟ ذلك السؤال العظيم والعقيم في الوقت ذاته.
كما حاول “كولن ولسن” أن يؤكد بأن “اللامنتمي” هو ذلك الإنسان الذي بات يدرك تمام الادراك، أن ما تقوم عليه الحياة هو شيء واهي … وأن الأشخاص الدين يشعرون باللا انتماء، لا يرفضون الحياة فحسب، وإنما يتخذون منها موقفا سلبيا، فهم يعتقدون بأن الكمال والسلام الإنساني كان يمكن تحقيقهما، لولا الاضطرابات النفسية للإنسان المعاصر. الاضطرابات الناتجة عن سوء فهم الحياة. إن اللامنتمين ليسوا مجانيين.. إنهم فقط يملكون فائض من الوعي الناتج عن مواقف سيكولوجية اتجاه العالم …واتجاه البشر المتفائلين …
لذلك اعتبر كتاب “اللامنتمي ” بحثا سيكولوجيا للأمراض الروحية التي يعاني منها الانسان في العصر الحديث
كتاب “اللامنتمي”، من وجهة نظر “كولن ولسن”، هو ضرورة أساسية ومقاربة عميقة للسؤال، كيف يمكن للكائنات الإنسانية أن توسع من مديات وعيها بالأزمة الوجودية؟
بالرغم من أن “كولن ولسن” كتب اللامنتمي في الذكرى الخامسة والعشرين لميلاده، فإنه يعتبر من أهم وأشهر كتبه على الاطلاق واكثرها انتشارا. أثار الكتاب نقاشات متعددة، كونه من الكتب الأولى التي ناقشت نفسية الإنسان المعاصر، الإنسان غير المنتمي لأي عقيدة أو دين، في إطار أدبي روائي ….
درس “كولن ولسن” هذه الشخصيات من منظور سيكولوجي، في إطار المنجزات الأدبية الشهيرة لكبار الكتاب و الروائيين و المفكرين والفنانين المبدعين: كافكا وديستوفسكي وهمنغواي وكامو وسارتر و نينتشه وفان كوك ولورنس وهنري وغيرهم من الأدباء…
يقول في سيرته الذاتية “رحلة نحو البداية ” (إن كتاب اللامنتمي هو الحكي عن أناس يشعرون في دواخلهم، إنهم يعيشون في برزخ بين عالمين، عالم الواقع والعالم المتخيل…)
في المقابل، تعتبر رواية “طقوس في الظلام”، أولى روايات الكاتب “كولن ولسن”، كتبها في عام 1949م. وقد أوضح في العديد من المناسبات بأن “طقوس في الظلام”، رواية ارتكزت على مجموعة من المواجهات عميقة وعقيمة النتائج في ذات الوقت، بين القيم المزيفة والواقع القاسي، واقع حرب عالمية شرسة عديمة الأهداف …
رواية “طقوس في الظلام”، إدانة لمظاهر الظلام والعتمة والعنف، لأن العقل البشري حسب “كولن ولسن”، عاجز على أن يؤثر في أقل مشاكله المعاصرة أهمية، لقد بات العقل البشري ضجرا، شاعرا بالملل مضطربا، متوحشا محبا للقتل والحرب والتوسع… وأكد في أكثر من مرة بأن (العقل البشري كان ولا يزال كلي القوة والقدرة، ولكنه مواجه دائما بحقائق ضعفه وألآمه وعجزه أمام موته المحتوم في النهاية…)
لم يكن هذا الرأي، بالنسبة للفيلسوف الوجودي المعاصر، إلا تمجيدا للعقل، ومحاكيا لآراء الفلاسفة العقلانيين، الذين أعلنوا أن هوية العالم الأخر، الذي يتوقون له هو عالم الكينونة الداخلية، على حد تعبير “كير كيكارد”، الحقيقة هي الذاتية الكاملة، عالم الاقتناع بالجينات العالم البديل عن واقعنا المثير للضجر، بعالم ظاهر أكثر وواقعية، وأكثر قدرة على تحفيز خلق الأفكار، من أجل سؤال: أين يوجد هذا المستوى من الحياة الذي يتجاوز الحياة اليومية؟ حسب “كولن ولسن” دائما، إن حقل الظواهر الغامضة والخارقة للوعي الاعتيادي ستكون المادة الأكثر اثارة، والتي تسعى لها العلوم المستقبلية، منطقة تزيف الوعي البشري، فنحن باعتبارنا كائنات بشرية، ندرك أننا نختزل قدرات عظيمة في داخلنا ولا نعرف عنها شيئا حتى الآن. وهنا تكمن المشكلة، من وجهة نظر الفيلسوف الكبير، وهكذا يظل السؤال العقيم دون إجابة لما يقرب من الفين وأربعة وعشرون سنة، فكل ما عرفه العقل من متعة اكتشاف الحياة المعاصرة، هو خداع للذات، وأفضل ما يمكن للكون وللبشرية أن تفعله هو أن تعود إلى العدم….
هذا الرأي الفلسفي الذي يعتقد به المفكر “كولن ولسن”، هو ما حاول أن يتعرض له بالنقاش والتحليل في كتابه “الحياة ما بعد الموت”، فتزيف الوعي الإنساني وتظليله، هو الدافع الحيواني للإنسان، من أجل الغزو والانتصار، فاتسمت البشرية إلى حد التماهي مع وجهة النظر التي تعتقد بأن الحياة شر، وعلى الإنسانية وأن تستثير نفسها بطريقة غير مباشرة من خلال السجائر والخمور والمخدرات. وتستطيع أن تنسى نفسها في كتاب.
أو فيلم سينمائي، بل إنها تستطيع أن ترفع نفسها أخلاقيا، بأن تسموا إلى نوع من العقيدة الدينية أو النزعة المثالية. وقد تحدث عن هذا الموضوع بشكل مستفيض ومثير في كتابه “الدين والتمرد”
طفيليات العقل.
يتحدث “كولن ولسن” في روايته “طفيليات العقل” عن الزمن المستقبل، زمن انتشار التكنولوجيات المتطورة في مجتمع تكنولوجي استطاع عن طريق قوة العقل وخوارقه الكبرى ضمن عالم أطلق عليه البارا سايكولوجي والتخاطر الذهني عن بعد، في إشارة إلى القدرات الخاصة للعقل الإنساني، ضمن قالب سردي ذو طابع سيكولوجي، يرتكز على الإيحاء بتعرض العقل البشري بين الحين والأخر لطفيليات تقوم بتدمير قوى الانسان العقلية، وتدفع به إلى الجنون وربما إلى الانتحار. وابطال الرواية بعقولهم الخارقة حاولوا خوض حرب طويلة ومعقدة ضد جحافل الجيوش المرئية من الطفيليات والفطريات التي تستخدم كل وسائل الحروب المشروعة وغير المشروعة من أجل التأثير في عقول بعض القادة والسياسيين والعسكريين وتوريطهم في حروب خطيرة… لكن هذه الطفيليات تنتصر في نهاية المطاف على العقل البشري بكل ما اوتي هذا العقل من دهاء ومكر وحيل!
لقد جرف الحماس لقوة العقل البشري علماء القرن 19 وأعلنوا قائلين: (لقد قهر عقل الانسان كل العقبات وتغلب على كل المصاعب، وإذا استمر في هذا الطريق، فإنه لن يفشل في أن يصبح كاملا ذات يوم، بل وربما قد يصبح إلاها …)
يؤكد “كولن ولسن” بأن الرومانيكيين والوجوديين من بعدهم، أجابوا في ازدراء على ما كان يعتقده العقلانيون، انهم يتجاهلون المشكلة الكبرى، بأن عقل الانسان لا يستطيع أن يؤثر في أكثر مشاكله أهمية، لقد شعر العقل البشري بالضجر وحب الحرب وتنافسه مع نفسه، وأصبح الانسان مضطربا ومشوشا إلى درجة لا أمل فيها. وربما كان الفكر كلي القدرة والقوة، لكنه ليس سوى مزمار مفكر تواجهه على الدوام حقائق آلامه وضعفه وموته المحتوم في النهاية…
الوجودية المعاصرة.
لقد كان “كولن ولسن” دائم التأكيد بأن التأثيرات الذهنية العظمى على مساره الإبداعي كانت من جانب فلسفة” برنارد شو” وفلسفة “نينشه” التفاؤلية التطورية … (فأنا لا أحب الحياة حبا خاصا، إنها تضجرني. ورفض الحياة لا يعني بالضرورة اختيار الموت، فليس هنالك عالمان مختلفان وإنما توجد وجهتا نظر مختلفتين…)
لأن هذا العالم، كما يرى “كولن ولسن”، عالم عقيم، ودائري، وينتهي إلى حيث بدأ بصورة ما. إنها مشكلة (الاسكندر) الذي كان يطالب بعوالم جديدة لغزوها…
ويضيف الفيلسوف الوجودي المعاصر بقوله: مهما ابتعدت عن نقطة بدايتك أكبر مسافة ممكنة، فسوف تعود بالتأكيد لتجد نفسك حيث بدأت، إنها تجربتنا في العالم المتخيل عالم الإبداع، تمنحنا بديهية أخرى، فحالما تدخل عالم العلم أو الرياضات أو الفلسفة والفن فسوف تفتح من حولك مساحات افتراضية لا حدود لها، ويصبح العقل قادرا على الوصول إلى أعماق متزايدة البعد باستمرار، فعقل الإنسان يستطيع أن يتأمل الكون في عالم الإبداع، وأن يبحث عن الحقيقة الضائعة دون جدوى.. لقد كان “برنارد شو” على حق، لابد أن يتوافق هذا العبث السخيف، فلابد أن يكون الإنسان قادرا على الاعتماد على أن يعيش لمدة 150 عاما على الأقل، لابد أن يعيش الإنسان الخلاق هذا القدر من السنيين. بالرغم من أن الإنسان العادي يتوقف عن النمو في العشرين وهكذا فإن مائة وثلاثيين عاما أخرى من الحياة لن تكون كثيرة النفع..
غزارة الإنتاج:
تقارب مؤلفات “كولن ولسن ” الستين كتابا تناولت مختلف العلوم، فقد كتب الرواية وكتب في الموسيقى والفلسفة والمسرح وعلم النفس والنقد الأدبي وروايات الخيال العلمي:
دائرة معارف الجريمة 1961م
راسبوتين وسقوط ال رومانوف 1964م
مقالات موسيقية 1964م
مقدمة في الفلسفة الوجودية 1966م
مسرحية ستراتنسبريك 1968م
برناردشوا إعادة تقيم 1969 م
معالم جديدة في علم النفس 1972 م
هرمان هسه 1973 م
العباقرة 1976 م
مسرحية اسرار 1979م
الحرب ضد النوم، بحث في فلسفة كريديائيف1980 م
دليل الاحتمالات 1981 م
الطريق إلى العوالم الحقيقية 1982 م
تاريخ الجريمة في الجنس البشري 1983م. ورحلة “نحو البداية” التي حاول فيها الكاتب تدوين أجزاء من حياته واراءه في الحياة.. (لقد كتبت 22 كتابا في عشر سنوات بما فيها سيرتي الذاتية، ولقد كتبت بهذه السرعة لأني شعرت بأنه كان لدي الكثير جدا مما أريد أن أقوله، وأنني سأنفجر إذا لم أقله. لقد كتبت بسرعة مفرطة، تشبه سرعة اتجاه العالم نحو الجنون ….)
ففي سنوات مراهقتي، كنت أشعر بمشكلة ” فاوست”، كانت تمر بي لحظات تمدني بها قصيدة أو فكرة بالمفتاح المفقود لبوابة عقلي المغلقة، وفجأة أصبح العالم الخارجي شيئا لا أهمية له، أنزل بعقلي إلى مكانه الملائم، كمجرد خلفية عارضة لحياتي الحقيقية، من أجل ممارسة حريتي، وكان من المفروض أن يكون هنالك إحساس قاهر ومسيطر بضرورة الحصول على إجابة على مشكلات الحياة المعاصرة.
رحل الكاتب إلى عالم ” الحياة ما بعد الموت ” سنة 2013م بعد أن أرهقته الأسئلة العقيمة وبعد أن أدهشته طفيليات العقل المعاصر…
لقد كان من الصعب أن يكون المرء قديسا ليتحمل كل هذا الآلام، والأكثر صعوبة من ذلك الكف عن طرح الأسئلة …
*السهلي بلقاسم: أستاذ الصحافة السمعية البصرية. جامعة سيدي محمد بن عبد الله. فاس
المراجع:
– كتاب اللامنتمي، كولن ولسن، ترجمة زكي حسن.
– رواية طفيليات العقل، كولن ولسن، ترجمة محمد درويش.
– رواية رحلة نحو البداية، ترجمة دريني خشبة
– رواية ما بعد الحياة، ترجمة محمد جلال عباس