على هامش قضية ابن احمد. في ظل خصاص كبير للأطباء: ما يقارب نصف المغاربة عانوا أو يعانون من اضطرابات نفسية
أرقام ومعطيات رسمية كشفت أن ما يقارب نصف المغاربة سبق أن عانوا أو يعانون من اضطرابات نفسية في فترة من حياتهم. إضافة إلى النقص في الموارد البشرية والبنية التحتية الاستشفائية.
أعادت واقعة مدينة ابن حمد إلى الواجهة، مجددا، ملف الصحة النفسية في المغرب، خاصة عندما يُصبح المرض النفسي مرتبطا بتواتر جرائم ضد النفس أو الآخرين.
وقائع تتكرر بشكل مقلق، ما جعل أخصائيين ومتابعين يشددون على ضرورة فتح نقاش واسع حول الصحة النفسية للمغاربة، داعين إلى حتمية إعادة النظر في مكانة الصحة النفسية ضمن أولويات السياسات العمومية، خاصة في ظل تحديات متعددة يواجهها مجال الطب النفسي والعقلي في المغرب.
أمين التهراوي، وزير الصحة والحماية الاجتماعية، كشف في عرضه أمام لجنة القطاعات الاجتماعية أثناء مناقشة مشروع الميزانية الفرعية لوزارة الصحة والحماية الاجتماعية، أن ما يناهز نصف المغاربة يعانون أو قد عانوا من اضطرابات نفسية في فترة ما في حياتهم، مشيرا، من جانب آخر، أن معدل الأطباء النفسيين لا يتجاوز طبيب نفسي واحد لكل 100 ألف نسمة.
وزير الصحة أوضح أن 26% من الحالات النفسية المسجلة عانت من الاكتئاب، فيما 9% من اضطرابات القلق، في حين سجلت الاضطرابات الذهانية نسبة 5.6%، ثم 1 % من مرض الفصام. مؤكدا أن هذه الاضطربات لها آثار اجتماعية واقتصادية وخيمة، وتؤدي إلى الوصم والتمييز، مما يحد من فرص حصول المرضى على العلاج.
ويعاني المغرب، وفق الوزير، من نقص حاد في الأطباء المختصين بالصحة النفسية، حيث لا يتجاوز العدد طبيباً واحداً لكل 100.000 نسمة، مقارنة بالمعدل العالمي البالغ 1.7 طبيب لكل 100.000 نسمة، والمعدل الأوروبي الذي يصل إلى 9.4 أطباء لكل 100.000 نسمة.
فيما يخص البنية التحتية، كشف وزير الصحة والحماية الاجتماعية، أن القدرة الاستشفائية الحالية لا تتجاوز 6.43 سرير لكل 100.000 نسمة، وهي أقل بكثير من المعدل العالمي البالغ 13.3 سريراً لكل 100,000 نسمة. يتوفر المغرب على 25 مصلحة للطب العقلي تضم 825 سريراً، و11 مستشفى للأمراض النفسية تضم 1,343 سريراً، إضافة إلى 3 مصالح استشفائية لطب الإدمان تضم 46 سريراً. وأكد الوزير أن 20% من هذه الأسرّة تظل غير مستغلة بسبب استشفاءات غير مناسبة، مما يؤدي إلى حرمان مرضى آخرين من العلاج.
المجلس الاجتماعي والاقتصادي والبيئي، من جانبه، كشف خلال تقرير له سنة 2023، أن المسح الوطني للسكان من سن 15 عاما فما فوق، أظهر أن 48.9% من المغاربة، يعانون أو سبق لهم أن عانوا من اضطراب نفسي أو عقلي في فترة من حياتهم.
جهود ولكن…
تعليقا على الموضوع، أكدت الأخصائية النفسية، بشرى المرابطي أن وزارة الصحة قامت بجهود حثيثة في السنوات الأخيرة، لكنها جهود لا تعكس واقع الصحة العقلية والنفسية بالمغرب، خاصة ونحن بعيدين، تقول المتحدثة، على ما يوجد عليه الوضع في العديد من الدول.
تضيف بشرى المرابطي في تصريح لمرايانا: “سنة 2015، في جنيف وحدها، كان معدل الأطباء النفسانيين يقارب 500 طبيب نفسي، ونحنُ هنا نتحدث عن 2015، قبل عشر سنوات. إحصائيات 2018 في فرنسا كشفت أن عدد الأطباء المختصين وصل إلى 13 ألف طبيب مختص، في حين أن المغرب ما زال يراوح بين طبيب ونصف طبيب لكل 100 ألف مواطن. بذلك، ما زلنا بعيدين عن المعدل العالمي، وعن بعض الدول المجاروة”.
يضاف إلى ذلك، وفق الأخصائية النفسية، نقص الأطباء العامين الذين يمكنهن أن يشكلوا المرحلة الأولى للطب العقلي، علاوة على نقص الأدوية من الجيل الثالث، وغلاء الأدوية مقارنة مع عدد من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؛ لأننا نعاني من مشكل التغطية التامة لكلفة العلاج، باعتبار أن الأسر تتكفل بما يزيد عن 56% من التكفلة.
من جانب آخر، أوردت بشرى المرابطي مشكلا آخر، يتعلق بغياب الدوريات الخاصة، إذ إن 50% من المشردين يعانون من اضطرابات ذُهانية تؤثر على سلامة المواطنين.
في سياق متصل، اعتبر الأخصائي النفسي، فيصل طهاري، أن الوعي بالصحة النفسية اليوم أفضل بكثير مقارنة بالماضي، خصوصا في ظل الدور الذي يلعبه الإعلام سواء المسموع أو المقروء أو حتى التيليفزيون في انتفاحه على موضوع الإشكالات النفسية. لكن…
يضيف الأخصائي النفسي الاكلينيكي في تصريح لمرايانا: “تظل المناطق القروية أو البعيدة عن محور الوسط، أقل وعيا بالصحة النفسية في ظل التراث الثقافي المبني على الفقهاء والأولياء والأضرحة، وعلى ربط الاضطرابات النفسية بالمشاكل الروحية، وهذا ما يؤثر على سرعة الاستشفاء وتفشي الاضطرابات أكثر حين نكون بعيدين عن التشخيص المبكر”.
إضافة إلى ذلك، حسب نفس المتحدث، هناك نقص حاد على مستوى الأطباء النفسانيين وتكوينهم على مستوى كليات الطب والمستشفيات الجامعية، أضف إلى ذلك الخصاص الذي يعرفه المعالجون النفسانيون الذين يشخصون ويعالجون بتقنيات العلاج النفسي.
يضيف المعالج النفسي فيصل طهاري في تصريحه: “هناك عائق أكبر يرتبط بغياب إطار قانوني منظم للمهنة، وهذا مشكل يعاني منه المغرب، وهو ما يفتح الباب أمام المشعوذين والبعيدين عن التكوين الأكاديمي الرصين”.
إلى جانب ذلك، اعتبر فيصل طهاري أن ارتفاع عدد الذين يعانون أو سبق أن عانوا من أمراض نفسية، يعود أيضا، إلى التطور الذي عرفته المجتمعات… تطور له كلفة وضربية على المستوى النفسي.
يتابع الأخصائي النفسي: “هناك ارتباط بين ارتفاع نسبة الاضطرابات النفسية والواقع المُجتمعي، الحياة أصبحت أكثر تعقيدا وسوق الشغل وظروف العمل، صعبة، لكون البُعد الاقتصادي حجر أساسي في تحقيق التوازن النفسي. إضافة إلى صعوبة الوصول للأهداف الحياتية. في ظل هذه الأسباب وأخرى، ترتفع الاضطرابات النفسية، وربما تكون الأرقام أقل من الواقع، بحكم أننا كمهنيين نشاهد واقعا آخر يوميا”.
ما المطلوب؟
الأخصائية النفسية بشرى المرابطي، اعتبرت أن نقط مراكز الإدمان والمراكز الاستشفائية تتوزع بين المدن الكبرى، وهنا يُطرح السؤال حول المناطق النائية المهمشة في كل شيء، حتى في سياسات الصحة النفسية.
بشرى المرابطي تابعت في تصريحها لمرايانا حول المطلوب: “هناك حاجة ماسة لوجود سياسة عقلية نفسية، وخطة عرضانية بين جميع القطاعات الحكومية دون استثناء. إضافة إلى ضرورة استثمار خريجي شعب علم النفس الحاملين لدبلومات متخصصة من أجل مساعدة فريق الطب العقلي والنفسي في التكفل بمرضى الصحة العقلية والنفسية”.
تضيف المتحدثة: “المطلوب، توفير مراكز نهارية بالإضافة إلى مراكز الاستشفاء الكلية، والتي من شأنها أن تساعد في علاج هؤلاء الأشخاص. علاوة على ضرورة توفير نقط استشفاء الطب العقلي والنفسي، بشرط ألا تظل منحصرة في المستشفيات الجامعية بل أن تكون في جميع المستشفيات حتى في مستوصفات الأحياء”.
نقطة أخرى أشارت إليها الأخصائية النفسية، تتعلق بتوفير أخصائي نفسي مدرسي، على غرار بعض الدول الأوروبية التي قطعت أشواطا في ذلك.
أخصائي نفسي مدرسي، حسب المتحدثة، من شأنه أن يستوعب الإشكالات ويواكب المراهقين والأطفال في مرحلة المراهقة بما تتميز به من ضغوطات، كونها مرحلة هشة معرضة لأن تظهر فيها الكثير من الاضطرابات العقلية والنفسية.
من جانبه، شدد الأخصائي النفسي فيصل طهاري على دور الحكومة، خاصة الوزارة الوصية، من خلال توفير مؤسسات الاستقبال والرعاية النفسية بكل المدن، بل بكل الأحياء لتسهيل الولوج للعلاج النفسي والطب النفسي. وهو ورش يجب أن يكون في صلب أولويات الحكومة؛ لأن المغرب يحتاج أن يطور من عنصره البشري، وذلك يتأتى بالاهتمام بالصحة العقلية والنفسية للمواطنين.