مهدي عامل ومحمد عابد الجابري: قراءة التراث أم القطيعة معه؟ - Marayana
×
×

مهدي عامل ومحمد عابد الجابري: قراءة التراث أم القطيعة معه؟

لا يزال التراث يطرح إشكالات عديدة وعوائق حول بناء الحداثة، رغم أن المشاريع الفكرية التي تصدت للتراث وأجبرته على النقد عديدة.
مهدي عامل واحد ممن انتقدوا الفكر اليومي، ومعه محمد عابد الجابري، في سعي إلى تقديم طرح يسير نحو مجتمعات تحدث قطيعة مع الماضي وتبني الحاضر لاستشراف المستقبل.

كيف يُمكن إحياء التراث؟

سؤال اشتغل عليه مفكرون عرب على مدى قرون طويلة، وكانَ محط نقاش وأزمة ماضٍ وحاضر ومستقبل. بين استنجاد أمجاد الماضي، وحاضر ممزق ومستقبل مجهول، يعيش المثقف العربي، ومعه الذات العربية الباحثة عن جواب، شتاتاً وأزمة مركبة.

أزمة مُركبة عنوانها الأكبر: إذا كان الحاضر سيئا والمستقبل مجهولا، فهل نضطر للعودة إلى الماضي، علّنا نجد فيه خارطة طريق؟ تلك أزمة التراث… العيش في ماض خلفه الأجداد وقدسه الأحفاد.

غير أن الأزمة، على حدتها، لا تزال محفوفة بالمخاطر: مخاطر الخوف من النقد، ثم مخاطر قراءة التراث من جديد؛ وهو ما يجعله متعاليا، ليس لأنه عالم ولكن فقط، لأنه ثابت فوق النَّقد، مقدس لا يطاله التمحيص.

التراث في مرآة عامل

سلطة الدين وبالدين، هكذا يُمكن أن نصفَ الأمر. هنا نستحضر محاضرة للمفكر مهدي عامل يقول فيها: “السلطة، بالدين، تبدو مطلقة. وهي المقدسة، في الغيب وبالغيب. وهي السلطة، فوق الرفض وفوق النقد. سيفها على الرقاب مسلّط، والرقاب خاضعة، راضية. فمن تمرّد، فعلى سلطة الدين يتمرد. إذّاك يُحَلُّ دمُه. حتى لو كان الحلّاج، أو السّهرَوَردي. أما ابن تيميه، أو الغزالي، أو من شابههما، فعلى التمرد والمتمردين، في كل عصر، يُشهران سلاح الدين، سلاح السلطة، فيكبلان العقل، يرهبان الروح، ويئدان الجسد”.

يضيف عامل: هكذا كانت الثقافة تجري في صراع بين اثنتين: واحدة هي ثقافة الأسياد، بتياراتها المختلفة المتباينة، وأخرى هي ثقافة المقهورين، بأنواعها المتعددة”.

في هذا السياق، يشرحُ سفيان البالي، كاتب ومترجم، في حديث لمرايانا، أن مهدي عامل يحيلنا على تصور شمولي عن تعامل المفكر الماركسي مع التراث باعتباره تراثان وثقافتان، ما يحيل إلى النية المعلنة في تنقيح التراث مما يحتويه من شوائب لا تتوافق مع “التوجه التحرري” لنظرية ماركس في نسختها العربية.

يتجه البالي إلى أن القومية العربية تُقِر أن النهضة العربية لن تكون إلا باتحاد عربي في دولة واحدة، وبناء واقع يقوم في نواته على إعلاء شأن العروبة وتقديسها. غير أن ذات الأيديولوجيا نفسها، لا توحد الرؤى حول علاقات العروبة بمكونات الواقع، التي أهمها الدين الإسلامي، الذي ومن هذه الزاوية، يعتبر عنصرًا مهمًّا، لِما لعبه من دور العلة الأولى لبناء دولة العرب القديمة.

يُميز الباحث بين قوميتين، الأولى علمانية والثانية قومية إسلامية. ويتفق أصحاب التيارين على أن التراث العربي مشوب بشوائب عجمية، واردة من الشعوب غير العربية التي ضمتها الدولة الإسلامية خلال امتدادها الأقصى الذي عرفته في قرونها الأولى، ويردون مأساوية الواقع العربي في ارتباطه مع التراث، إلى تداخل سمات حضرية دخيلة معه.

حديثنا عن فكر مهدي عامل يقودنا لكتابه “نقد الفكر اليومي”، الذي جاء خلال سنوات الثمانينيات التي عرفت صعود التيار الديني الداعي إلى العودة للتراث وعودة الدين لمجده.

بالمناسبة، عنوان كتاب “نقد الفكر اليومي” هو عنوان لم يختره مهدي عامل. لأنه اغتيل قبل أن يكتمل مشروع كتابه في ماي 1987. بعد ذلك، تكلفت “لجنة نشر تراث مهدي عامل” بجمع الكتاب ووضع مقدمته وخاتمته.

النَّقد أفقاً للتحرر

في المقابل، إذا ما اتجهنا عند محمد عابد الجابري، فإن نظرته للتراث تتجه إلى التحرر، منه حيث يقول في كتابه “نحن والتراث قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي”: “نحن لا نمارس النقد من أجل النقد، بل من أجل التحرر مما هو ميت أو متخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي”.

في كتاب “نحن والتراث، قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي”، يبرز مستويات قراءة التراث. ينطلق الجابري من المستوى السلفي، إذ يقول: “التيار السلفي في الفكر الحديث والمعاصر، التيار الذي انشغل أكثر من غيره بالتراث وإحيائه واستثماره في إطار قراءة إيديولوجية ساخرة، أساسها إسقاط صورة المستقبل المنشودة للمستقبل الأيديولوجي على الماضي ثم البرهنة انطلاقا من عملية الإسقاط هذه على أن ما تم في الماضي يمكن تحقيقه في المستقبل”.

يوضح الجابري أن القراءة السلفية للتراث قراءة لا تاريخية، وبالتالي لا يمكن أن تنتج إلا نوعا واحدا من الفهم للتراث هو: الفهم التراثي للتراث، يحتويها وهي لا تستطيع أن تحتويه لأنها: التراث يكرر نفسه.

على المستوى الماركسي، يقول الجابري: “إن الليبيرالي ينظر إلى التراث العربي الإسلامي من الحاضر الذي يحيا، حاضر الغرب الأوروبي، فيقرأه قراءة أوروبية النزعة، أي ينظر إليه من منظومة مرجعية أوروبية، ولذلك فهو لا يرى فيه إلا ما يراه الأوروبي”.

ماضٍ لا يُشكل الحاضر

يقطع الجابري بين الماضي والحاضر لبناء المستقبل. في هذا السياق، يقول في كتاب “التراث والحداثة”: “لا يمكن تبني التراث ككل، لأنه ينتمي إلى الماضي ولأن العناصر المقومة للماضي لا توجد كلها في الحاضر”.

ليس من الضروري أن يكون حضور عناصر الماضي في المستقبل هو نفس حضورها في الحاضر، وبالمثل لا يمكن رفض التراث ككل للسبب نفسه، فهو إن شئنا أم كرهنا، مقوم أساسي من مقومات الحاضر، وتغير الحاضر لا يعني البداية من الصفر.

انصب الجابري على مقاربة إشكالات التراث، فقد أراد ألاَّ نعيش فكرة الاغتراب، بل أن نمتلك التراث بأدوات معرفية بعيدا عن امتلاك الطقوس التراثية وغيرها من الممارسات التي لا تساعد على الانعتاق.

يسائل الجابري الحداثة حيث يقول: “سؤال الحداثة سؤال متعدد الأبعاد، سؤال موجه إلى التراث بجميع مجالاته وسؤال موجه إلى الحداثة نفسها بكل معطياتها وطموحاتها… إنه سؤال جيل بل أجيال. سؤال متجدد بتجدد الحياة”.

سعى الجابري إلى إنقاذ العقل وتخليصه من العيش في التاريخ، وهو ذاته الفعل الذي اتجه له مهدي عامل بمقاربته الماركسية للتراث، وانطلاقا من مهامه في كشف مواطن الخلل في التراث الذي كان ولا يزال موضع سؤال الماضي والحاضر والمستقبل.

سعى الجابري إلى قراءة التراث دون قطيعة معه؛ وقد طرح هنا إشكالية التجاوز. في المقابل دعا عبد الله العروي إلى إعمال مبدأ القطيعة مع التراث نظرا لاستحالة إيجاد توافق لنهضة تتأسس على مشترك بين النقيضين.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *