ماذا نعرف عن اضطراب ثنائي القطب؟
عندما تكون مصابا بمرض نفسي، فالمشكل ليس في المرض في حد ذاته، وإنما في تعامل المحيط مع ذلك، وهذا ما يظهر لدى المصابين باضطراب ثنائية القطب.
المخصتون يؤكدون على أن نسبة الشفاء تتعلق أيضا بمدى الدعم الذي يتلقاه المريض من المحيطين به، ولربما هذا ما لا يجده أغلب المصابين، ما يدفعهم إلى التفكير في الانتحار وإنهاء حياتهم.
كتب محمد حبيب، الباحث في علم النفس، في تدوينة له: “بين نوبة من النشاط المفرط، وأخرى من الحزن العميق، يعيش المصاب باضطراب ثنائي القطب صراعا داخليا لا يرى… في هذه اللحظات بالذات، قد تظهر أفكار انتحارية صامتة، لا لأن المصاب يريد الموت، بل لأنه لم يعد يحتمل الألم”.
ما هو اضطراب ثنائي القطب؟
الاضطراب ثنائي القطب (BD)، المعروف سابقا باسم “الاكتئاب الهوسي”، حالة صحية عقلية، يُصبح معها المزاج في حالة تقلبات جذرية حادة، أحيانا ينطوي على ارتفاعات عاطفية؛ وهذا المقصود باسم الهوس أو الهوس الخفيف، في حين يدخل الشخص المصاب بشكل متناقض في نوبات من الاكتئاب. كما يمر المريض أيضا ببعض الفترات من المزاج الطبيعي.
ثنائية القطب تتحدد من خلال إصابة شخص بالاكتئاب، فتجده يشعر بالحزن واليأس وفقدان الاهتمام أو المتعة في المشاركة في مختلف الأنشطة، ثم تجده في فترة أخرى، أو في نفس اللحظة، يشعر بالإثارة والسعادة الشديدة، أو الامتلاء بالطاقة، ما يؤثر على الشخص في سلوكه اليومي والقدرة على التفكير بشكل واضح.
حاليا، لا توجد أرقام مضبوطة حول عدد المصابين بالمرض. لكن منظمة الصحة العالمية كشفت أنه، سنة 2019، كان هناك شخص واحد تقريبا من بين كل 150 شخصا بالغا (أي 40 مليون شخص أو 0,5% من سكان العالم) من المتعايشيين مع الاضطراب الثنائي القطب. في حين تشير أرقام أخرى إلى أن العدد وصل إلى 46 مليون شخص سنة 2023.
دراسة لمجلة Psychiatria Danubina كشفت أن التقديرات تشير إلى أن 25 إلى 50% من مرضى اضطراب ثنائي القطب سيحاولون الانتحار مرة واحدة على الأقل خلال حياتهم.
يمكن أن تحدث الإصابة في أية مرحلة عمرية. لكن، عادة ما يجري تشخيص الإصابة أثناء سنوات المراهقة أو أوائل العشرينيات.
تشير الدراسات إلى أن هناك ثلاثة أنواع مختلفة من اضطراب ثنائي القطب، تختلف في نوعية النوبات التي تصيب المريض.
يظهر النوع الأول من خلال نوبة هوسية قد تستمر على الأقل لمدة 7 أيام، وبأعراض هوسية شديدة قد تتسبب بإدخاله المستشفى، كما قد يعاني في نفس الفترة من نوبات اكتئابية حادة تستمر لمدة أسبوعين على الأقل.
النوع الثاني من الاضطراب، يعاني من خلاله المريض من نوبات متناوبة من الاكتئاب والهوس الخفيف. لكنه لا يمر أبدا بنوبات الهوس التي يتميز بها النوع الأول. في حين يُعرف النوع الثالث بـ”اضطراب دورية المزاج”، وهي نوبات من الهوس الخفيف والأعراض الاكتئابية التي قد تستمر لمدة سنتين على الأقل. وهي مختلفة في أعراضها عن النوع الأول والثاني.
حول الأسباب
لا يزال السبب الدقيق حول الإصابة باضطراب ثنائي القطب غير معروف؛ لكن الدراسات ترجح بعض العوامل التي قد تكون سببا في ذلك، والتي قد تكون مادية أو بيئية إو اجتماعية.
تتدخل الجينات الوراثية في الإصابة، حيث إن 80 إلى 90% من الأفراد المصابين بالاضطراب، لديهم على الأقل قريب، إما مصاب بالاكتئاب أو بالاضطراب ثنائي القطب.
يربطُ علماء الصحة، من جانب آخر، بين الإصابة والظروف الاجتماعية؛ مثل المشاكل الشديدة في الحياة اليومية (العمل، العلاقات، مشاكل مادية…)، أو أحداث مؤثرة في حياة المصاب؛ كوفاة أحد المقربين.
قد تكون الإصابة متصلة أيضا باختلال التوازن الكيميائي لمستويات الناقلات العصبية المسؤولة عن التحكم في وظائف الدماغ؛ مثل الدوبامين أو السيروتونين.
بشكل أقل شيوعا، فإن الاضطراب يمكن أن يكون بسبب حالة أو إصابة عصبية معينة؛ مثل حدوث سكتة أو إصابة دماغية رضية (تنجم إصابة الدماغ الرضحية عادةً عن خبطة أو هزة عنيفة يتعرض لها الرأس أو الجسم) أو التصلب المتعدد (مرض يسبب تآكل الغلاف الواقي للأعصاب. يمكن أن يسبب التصلب المتعدد خدرًا، وضعفًا، وصعوبة في المشي، وتغيرات في الرؤية وأعراضًا أخرى).
تتعدد الأعراض والمرض واحد
المُصاب باضطراب ثنائية القطب يمر، كما ذكرنا سابقا، بموجات حادة من الهوس والهوس الخفيف والاكتئاب. ولكل حالة من هذه الحالات أعراضها الخاصة.
الهوس والهوس الخفيف مختلفان، حيث إن الأول أكثر حدة من الثاني. إلا أن لهما نفس الأعراض.
قد تشمل نوبات الهوس والهوس الخفيف ثلاثة من الأعراض أو أكثر، من بينها: الشعور بإحساس مشوه بالرفاه أو الثقة بالنفس بشكل مفرط، علاوة على انخفاض الحاجة إلى النوم، إضافة إلى اتخاذ قرارات غير سليمة في مواقف دقيقة ومعينة.
من جانب آخر، يُصبح المصاب أكثر تحدثا وبشكل متسارع على غير المعتاد، كما يكون جسده أكثر نشاطا أو طاقة أو انفعالا.
بالنسبة لنوبات الاكتئاب الحاد، فإنها تسبب أعراضا بالغة الشدة بحيث تسبب صعوبة في أداء الأنشطة الاعتيادية اليومية.
تظهر أعراض الاكتئاب الحاد من خلال اكتئاب المزاج؛ حيث يشعر المصاب بالحزن أو الفراع أو اليأس أو البكاء، ما يجعلهُ سريع الغضب والعدائية، علاوة على فقدان الاهتمام أو عدم الشعور بالسعادة في جميع الأنشطة التي يقوم بها.
زيادة على ذلك، يظهر على المصاب شعور بالقلق أو التصرف بشكل أبطأ من المعتاد، أو التعب الشديد، من خلال فقدان الطاقة على القيام بأنشطة بسيطة وعادية، إضافة إلى الشعور بعدم القيمة أو الشعور بالذنب الشديد، أو الشعور بالذنب عندما لا يكون ذلك ضروريًا، مع صعوبة التفكير أو التركيز، أو عدم القدرة على اتخاذ القرارات. كل هذا يؤدي في فترة معينة إلى التفكير في الانتحار أو التخطيط له أو محاولة الانتحار.
هل هناك علاج؟
هناك عدة وسائل علاجية للاضطراب ثنائي القطب، لذلك يشدد الخبراء على ضرورة الحصول على العلاج بمجرد ملاحظة الإصابة باضطراب في الصحة العقلية؛ لأن ذلك يمكن أن يساعد في إيقاف تفاقم الاضطراب.
توجد طائفة من خيارات العلاج الناجعة المتمثلة عادة في توليفة من الأدوية والتدخّلات النفسية الاجتماعية والتدخّلات النفسية. لذلك، من الأفضل الجمع بين الثلاثة؛ حيث إن الأدوية ضرورية للعلاج، لكنها عادة ما تكون غير كافية في حد ذاتها لبلوغ مرحلة الشفاء التام.
مع ضرورة معاملة المصابين بالاضطراب الثُنائي القُطب باحترام وكرامة، ولابد من إشراكهم على نحو هادف في خيارات الرعاية، بوسائل منها اتخاذ قرارات مشتركة فيما يخص العلاج والرعاية، وتحقيق التوازن بين مستوى فعالية الأداء والآثار الجانبية وتفضيلات الفرد.
يذهب الخبراء إلى أن هناك عددا من الأدوية والعقاقير التي يمكن استعمالها في علاج الاضطراب. يعد العلاج بالليثيوم أهمها؛ حيث يخفف من الآثار الحادة لنوبات الهوس والاكتئاب، ويمنع معاودتها، إضافة إلى أنه يقلل من مخاطر الانتحار وإيذاء النفس.
منظمة الصحة العالمية، أضافت إلى ذلك مثبتتات المزاج (مثل الليثيوم والفالبروات) ومضادات الذهان التي تساعد في التدبير العلاجي لنوبات الهوس الحاد. يلزم رصد حالة المريض سريرياً ومختبرياً في حال وصف دواء الليثيوم لعلاجه، وينبغي ألا تستعمل الفتيات والنساء الحوامل أو المرضعات أو القادرات على الإنجاب دواء الفالبروات، كما يلزمهن أن يتجنبن استعمال الليثيوم والكاربامازيبين أثناء الحمل والرضاعة الطبيعية قدر المستطاع.
لا تأخذ هذه الأدوية فاعليتها إذا لم تكُن مصاحبة بتدخلات نفسية ونفسية اجتماعية، من خلال الاستفادة من تغييرات في نمط حياتهم، تشمل الانتظام في النوم وممارسة النشاط البدني واتباع نظام صحي دقيق، وذلك يتأتى عبر تدخلات، مثل العلاج السلوكي المعرفي، والعلاج النفسي أو الثقيف النفسي.
بالنسبة للتدخلات النفسية الاجتماعية، فتشمل تقديم الدعم في مجال العمل والإسكان ودعم الأقران والتدريب على إتقان المهارات الاجتماعية والحياتية، لأنها تعمل على تعزيز الأمل لدى المصابين بالاضطراب الثُنائي القُطب ودعم استقلاليتهم وتمكينهم شخصياً ودمجهم في المجتمع.