مصطفى مفتاح: فلسطين، لبنان وسوريا… حرب على البشر والعمران وعلى الذاكرة أيضا - Marayana
×
×

مصطفى مفتاح: فلسطين، لبنان وسوريا… حرب على البشر والعمران وعلى الذاكرة أيضا

ما يجري أمامنا أكبر وأخطر مما وقع حتى الآن منذ خضوعنا للاستعمار وتجرع المنطقة نكبة فلسطين، فهل نفكر على الأقل أو نحاول التفكير فيما يجري، لأننا على كل حال لا مكان لنا إلاّ دور الضحايا في مأدبة اللئام الأطلسية الاستعمارية الجديدة.
الخوف يتملكني لأن الأصابع القريبة من الزناد الأخطر، لا يرجى منها أي تعقلٍ أو حساب للإنسانية والكوكب، ولا لنا نحن الذين نعتبر أعداء كامنين أو معلنين للحضارة الشقراء الشمالية الأطلسية.

miftah mostafa مصطفى مفتاح
مصطفى مفتاح

من مساوئ مجتمع التدفق الهائل، في كل ثانية، للأخبار، أنها تشتت الاهتمام وتجعل التّتَبُّعَ وتَذَكُّرَ الأحداث، حتى الاستراتيجية منها، صعبا على الرأي العام بل وعلى الخاصة من المتتبعين. وأغامر باحتساب هذه المسألة ضمن سيئات النظام الرأسمالي، الذي عودنا على تزييف الوقائع وصباغة المصالح والأفعال بألوان المصلحة العامة، وقد يلجأ للإنكار أو لافتعال ما يصرف نظر المراقبين والمعنيين.

في هذا الإطار، وحسب قراءتي التاريخية (كهاو وليس كمُتَمَكِّن)، أرى أن هناك زواجاً بين القطاعات الإنتاجية الصناعية والتجارية والمالية في البنيان الرأسمالي، مع قطاع إنتاج ونشر المعلومات، وقطاع إنتاج ونشر السرديات حول الواقع، سواء كانت أخبارا من طرف ما يسمى بمؤسسات الإعلام المهيمنة[1] أو تحقيقات أو أدبا أو سينما أو فنونا من طرف صناعات السينما والتليفزيون والترفيه عموما الموجهة لعموم الجمهور.

ذلك أن “الإيديولوجية”، باعتبارها وعيا مصطنعا زائفا، تشكل ساحة قد تكون حاسمة لعمل النظام الرأسمالي الغربي، من أجل توسيع وتوطيد هيمنته على العقول، مثل ما هو يهيمن على الإنتاج والتمويل والتوزيع للبضائع والرساميل واليد العاملة، وكذلك التأثير على القرار السياسي والمؤسساتي، وفي المجال الجامعي والبحث في الأقطار الرأسمالية وفيما يسمى “النظام العالمي”.

سيطرة الآني

يبدو العالم اليوم وكأنه في حاضر دائم لا أمس له إلا بشكل متقطع و “انتهازي”. عشنا “طوفان الأقصى” وكأن 7 أكتوبر 2023 هي بداية الحرب الإسرائيلية-الفلسطينية، وكأن عملية الإبادة والتدمير المنهجيين لغزة، ومنذ اختراع “موطن قومي لليهود في فلسطين” في بداية القرن العشرين، كنا وكان العالم في إجازة سلمية: لا هجوم لعصابات الإرغون[2] على يافا و لا نكبة وقعت في[3] 1948 ولا حرب قناة السويس[4] ولا حرب 1967و لا انتفاضات ولا عمليات تطهير في غزة[5] ولا “شارون” في المسجد الأقصى” [6] ولا حروب على مخيمات “جنين”[7] و”بلاطة”[8] و لا مشاريع “اقتلاع الفلسطينيين وتوطين مستوطنين آتين من كل بقاع العالم.

كان هذا طيلة سنة وأكثر، والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وألمانيا وإنكلترا وأستراليا وكل دول الغرب، حكومات ونخبا حاكمة وشركات الإعلام المهيمنة تدافع عن “حق إسرائيل” في الدفاع عن نفسها ضد حماس والفلسطينيين، وتدين أي تذكير بالتاريخ، بتهمة معاداة السامية وتنفذ الأحكام.

بعد الإغارة على جمعية إنسانية صديقة للرئيس الأمريكي[9] طفا الحديث عن بناء وإرساء ميناء عائم أمريكي لإدخال مساعدات إنسانية لغزة عن طريق البحر[10]، بعد أن كانوا يقصفون بها الأطفال! ولم نعرف، ولم يهتم العالم، بِمَنْ مول المشروع، ولماذا عصفت به رياح الإعلام “الإخباري” اليومي من صدارة المشهد.

واستمر القمع والتضييق والرقابة على الإعلام المستقل، وعلى الجامعات وطلابها وأساتذتها والهجوم على كل المتطرفين الغربيين الذين لا يدينون “حماس” قبل مباركة الرب للعشاء.

ثم… عشنا نترقب فوز “ترامب” في الانتخابات الأمريكية.

ثم…  طلع علينا من العدم مشروع “أمركة قطاع غزة” وربطها بكازينوهات “الريفييرا” ويخوتها ونجومها، بعد تنظيفها من البشر الفائضين الذين يُنَفِّرون السياح، فتذكرنا أنه ربما كان هناك حديث يوما ما عن “سنغافورة جديدة” في الشرق الأوسط، ثم نِمْنا.

ثم… كان هناك ضجيج عن مشروع خط أنابيب يصل آسيا والشرق النفطي الغازي بشواطئ الأبيض المتوسط ثم أوربا، فطَنَّتْ في آذاننا قصَصٌ عن حقول غاز متنازع عليها في قبرص بين أوربا وتركيا، وحقول أخرى تطفو وتختفي عرض شواطئ لبنان، وحقول “لا نزاع حولها” عرض إسرائيل ومصر… وغابت غزة.

وتصيبنا الأخبار المتسارعة في شبكات الأخبار التي لا تنام هي وأقمارها الاصطناعية بالدوار، فننام ونستفيق على خطة عربية تُحَرِّرُ ها وتديرها تحت حماية دولية، وتنزع سلاح المقاومة، فتقصف الطائرات مواقع أخرى مأهولة بالمدنيين والأطفال في سوريا “المحررة” ولبنان المعافاة من “حزب الله”.

وتقرض قبائل الميز العنصري من جنوب افريقيا، كوكبة من كبار الأثرياء، يساعدون الرئيس الأمريكي على حربه ضد الهجرة وقناة باناما والوكالة الأمريكية للتنمية وػرونلاند[11] والتجارة الحرة والصين والجامعة والبيئة والخدمات العمومية والموظفين، فنتثاءب حتى لا يخنقنا القرار بتجريم “المحكمة الجنائية الدولية” أمريكيا، والاستعداد لطرد سفير جمهورية جنوب إفريقيا.

ونصطف في طابور انتظار آخر التفسيرات والتحليلات النفسية، وننسى أن الرأسمالية لا إيديولوجية لها سوى مصالحها وثقتها بأن رجالها خير الحضارات وأرقى البشر.

وننسى أن العدو الرئيسي للولايات المتحدة اليوم هو الصين، وأن لهذه الأخيرة “طرقها الحريرية” التي تنسجها القوة الآسيوية العظمى رابطة بين مناطق في قارات العالم، وللتواجد في البحر الأبيض المتوسط وموانئ اليونان القريبة أهمية كبيرة تجاريا واقتصاديا. لهذا، فأهمية غزة وفلسطين تتجاوز الثوابت العنصرية الاستعمارية إلى الصراع الاستراتيجي الدائر اليوم في كل مناطق العالم، من بحر الصين إلى باناما، ومن القطب الشمالي إلى أستراليا وكوريا الشمالية.

نفهم ربما جزءاً من القطع التي بعثرها هجوم 7 أكتوبر 2023 في لعبة الشطرنج أو “المونوبولي”[12] الدولية الدائرة أمامنا.

فهل نعي أن الفرص، لكي نتقي كل الضربات المنبعثة من هنا وهناك، ضئيلة جدا، ولن تشفع لنا استراتيجية الهروب ومحاولات إغراء صناع القرار الغربي بأننا رهن الإشارة للعب أي دورٍ يعطى لنا، فيما يُخَطّطُ للنظام العالمي والعلاقات الدولية من فوضى مدمرة.

ربما أن ما يجري أمامنا أكبر وأخطر مما وقع حتى الآن منذ خضوعنا للاستعمار وتجرع المنطقة نكبة فلسطين، فهل نفكر على الأقل أو نحاول التفكير فيما يجري، لأننا على كل حال لا مكان لنا إلاّ دور الضحايا في مأدبة اللئام الأطلسية الاستعمارية الجديدة.

وأريد أن أقول في ختام هذه المقالة، إن الخوف يتملكني لأن الأصابع القريبة من الزناد الأخطر، لا يرجى منها أي تعقلٍ أو حساب للإنسانية والكوكب، ولا لنا نحن الذين نعتبر أعداء كامنين أو معلنين للحضارة الشقراء الشمالية الأطلسية.

[1] mainstream
[2] عصابة مسلحة كان يقودها ميناحيم بيغن نفذت هجوما مدمرا على مدينة يافا
[3]  النكبة والتهجير الكبير للفلسطينيين
[4] هجوم فرنسا وبريطانيا وإسرائيل على مصر حين أمم جمال عبد الناصر قناة السويس
[5] حروب شارون على غزة في السبعينيات
[6] زيارة أرييل شارون الاستفزازية للمسجد الأقصى
[7] أولى تجارب الحرب الإسرائيلية المخططة للقضاء على المدنيين وفتح المخيم للجيش واستعملت فيه تقنية المرور العسكري عبر جدران البنايات وأسطحها وسقوفها عوض الطرق وتتم نفس العملية منذ أسابيع الآن.
[8] من تجارب الحرب الإسرائيلية المخططة للقضاء على المدنيين وفتح المخيم للجيش وكان عند مدخل مدينة نابلس واستعملت فيه تقنية المرور العسكري عبر جدران البنايات وأسطحها وسقوفها عوض الطرق
[9] الهجوم على منظمة “إنسانية” أمريكية “المطعم الدولي
[10] عبر ميناء غير قار تجلبه وتشيده أمريكا عبر أسطولها في المنطقة
[11] Groenland, منطقة قطبية شمالية تابعة للدانمارك بطمح الرئيس الأمريكي لضمها لاحتوائها على معادن استراتيجية وموقعها الجغرافي المهم
[12] لعبة monopoly

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *