الدعاء عند المغاربة: طقس اجتماعي ثقافي وبحث عن قوة قادرة على التغيير - Marayana - مرايانا
×
×

الدعاء عند المغاربة: طقس اجتماعي ثقافي وبحث عن قوة قادرة على التغيير

الدعاء عند المغاربة، حقل تتداخل فيه معطيات تتجاوز المعطى الديني والعقدي.
هو ممارسة تواصلية، وممارسة ثقافية اجتماعية قد تحيل في أحيان كثيرة على لحظات الضعف والانكسار.
الدعاء، بالنسبة للكثيرين، بحث عن المتجاوز والغيب الذي بإمكانه التغيير.

الدعاء ممارسة شعائرية وثقافية عند عموم المغاربة. أحيانا، تزيل الحزن وأحيانا تبعث على الفرح. قد تُصادف في الشارع مُسِنا يمدك بدعوات تدفعك لمساعدته. وأحيانا، قد يكون دعاء من مسن أو طفل محط اهتمامك وتساؤلاتك.

لا يقتصر الدعاء على صغير أو كبير أو شيخ.  وربما لا يرتبط بذهنية إسلامية بقدر ما يُمكن أن يكون طقساً إنسانيا يزيل الهم والحزن. كيف نفسر هذا الطقس؟ هل هو ثقافة دينية إنسانية؟ وما تأثيره في نفوس من يكونون بحاجة له؟

فعل جماعي تواصلي

ياسين بوشوار، باحث في الأنثروبولوجيا، يقارب موضوع الدعاء مع مرايانا من فكرة أساسية هي كونية الدعاء، فالحديث عن الدعاء لا يرتبط بالمسلم فقط، بل يرتبط بمعظم الديانات. لكل ديانة نمط مختلف من أنماط الدعاء، والأصل فيه هو التوسط بين العبد وربه.

يقول بشوار: “في الإسلام، الدعاء لا يعتبر فعلاً بشريا فقط، فهو من صميم الدين، والشاهد هنا هو ما جاء في القرآن، “ادعوني استجب لكم” وكذلك “وإذا سألك عبادي عني فإني قريب”.

حسب الباحث، ليس هناك شك أن الباحث في السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا، يدرك أن مركزية الدعاء من مركزية الصلاة. وإذا ما حاولنا النظر إلى واقعنا من خلال الملاحظة، فإننا نكتشف بشكل بسيط أن الدعاء يرافق الإنسان في كل مسارات الحياة، سواء مارسه الشخص أو مورس في حقه.

يمكن هنا أن نستأنس بوجهة نظر السوسيولوجي مارسيل موس حول الصلاة، حيث يعتبرها فعلاً وطقساً وأسطورةً. بهذا التصور يمكن أن نسقط فكرة مارسيل موس على الدعاء باعتباره عقيدة، لارتباطه بالنص القرآني.

في مقدمة كتابه “الصلاة ــــ بحث في سوسيولوجيا الصلاة”، يعرف موس الصّلاة مستنداً إلى أربعة عناصر وهي “في المقام الأوّل فِعْلٌ… ينطوي دائمًا على جهد، وعلى صرف طاقة جسديّة ومعنويّة في سبيل إحداث مفاعيل معيّنة… أضف إلى ذلك أنّها فعل تقليدي بوصفها جزءاً من طق كما أنّها تتّسم أيضاً بفعاليّة كامنة فيها؛ لأنّها هي التي تَحُثُّ الإله على التدخّل في اتّجاه معيّن… وأخيراً، فإنّ فعاليّتها هي نفسُها فعاليّة الطقوس الدينيّة، لأنّها تتوجّه إلى قُوىً دينيّة”.

بالعودة لبوشوار، فإنه يقول: “يرتبط الدعاء بالطقس الجماعي المؤسس للهوية الدينية الجماعية. الدعاء عند الفرق المتصوفة يختلف عن غيره من الفرق الدينية، غير أنه يتأسس بشكل كبير على الجماعة رغم رفض فرق دينية للدعاء الجماعي”.

حسب الباحث، يمكن كذلك أن نقارب الدعاء من وجهة نظر إيميل دوركايم، من خلال ثنائية المقدس والمدنس. حيث يمكن أن يكون الدعاء تجسيدا لنظامين، واحد مقدس وآخر مدنس، وعادة ما يلجأ المؤمن للدعاء عند الضعف، وهنا يتجسد المدنس. يلجأ الناس للدعاء هنا باعتباره موضوعا للتواصل بين المقدس والمدنس.

يتجه الباحث في قراءة موضوع الدعاء إلى أن وظيفة الباحث في هذا الجانب، هي الوقوف عند محاولة النظر إلى الدعاء من مستويين، الأول أنماط وتعبيرات الدعاء، والمستوى الثاني وظائفه وتمثلات الأفراد تجاهه.

قبل الحياة وبعدها

تتجه أبعاد الدعاء إلى كونه، في ذهنية المؤمن، يستمر ما وراء الحياة. أي أنه استمرار لما قبل الحياة وأثناءها وما بعد، وهذا ما يشكل نوعا من التأثير النفسي ويصاحب من يعتمده قبل ولادته وخلالها وبعد موته.

في هذا الصدد، يقول بوشوار إن الدعاء حدث مستمر عابر في الزمان والمكان، ومؤثر في مسار الفرد والجماعة بناء على الإشارات الدينية والنصوص الدينية التي تحيل على ذلك.

حذر إبستمولوجي

مصطفى بنزروالة، الباحث في علم الاجتماع، ينطلق من محاولة الكشف عن لبس حول التعاطي مع قضايا الدين والتدين، حيث يقول في حديث لمرايانا: “الاشتغال على القضايا السوسيولوجية والأنثروبولوجية دائما ما تحتاج منا نوعا من الحذر، لا في طرح الأسئلة ولا في الإجابة عنها”.

حسب بنزروالة، فنحن، عندما نتحدث عن ظاهرة أنثروبولوجية أو وإشكال مرتبط بالجماعة التقليدية، أو بما يسمى في حقل السوسيولوجيا بالجماعوية التقليدية، المرتبطة بالقبيلة، بالعشيرة، بالدين، بالطقس، فالأمر من الناحية المنهجية يحتاج نوعا من الحذر الابستمولوجي.

يضيف الباحث في علم الاجتماع: “عندما نقول مثلا المغاربة، هكذا بالجمع، وكأننا نتحدث عن بنية واحدة ثابتة بخصائص محددة وتدين واحد وثقافة ثابتة، لا نأخذ فيها طابع التعدد وطابع التغير وطابع البنية الاجتماعية المغربية المركبة”.

الدعاء ليس تدينا

بالعودة لطقس الدعاء، فإن بنزروالة يشرحه باعتباره ممارسة طقوسية شعائرية دينية، مرتبطة بالدعاء كممارسة دينية في الأصل، لكنها أخذت لبوسا وأخذت معاني ودلالات، في كثير من الأحيان، تتجاوز ما هو ديني لتصل إلى ما هو ثقافي مرتبط بسياقات اجتماعية محددة.

يقول الباحث: “عندما نتحدث عن الدعاء، فلابد من الاشارة إلى أنه ممارسة تعبدية طقوسية شعائرية تلبست بلبوس الثقافة وتلبست بلبوس المعايير الاجتماعية، خاصة في الأوساط المحافظة وخاصة في هامش المدن والقرى وفي المجالات الضاحوية”.

هل يُمكن أن يكون كل ممارس لطقس الدعاء متدينا؟ طبعا لا. هنا، قد نفهم أن الدعاء ممارسة اجتماعية وثقافية مأثورة. قد يكون الإنسان غير متدين، لكنه في حياته اليومية يستعمل الدعاء كثيرا. إذ، حتى في العلاقات الاجتماعية العادية بين الأفراد، بعيدا عن الممارسات الدينية، تجد الدعاء حاضرا.

كلام وتداول يومي

يقول بنزروالة في هذا السياق: “الدعاء وارد في لغتنا الدارجة. في بعض الأحيان، ندعو الله دون أن نعي. ندعو الله في ممارستنا اليومية لأن الدعاء أصبح حاضرا بقوة لدرجة أننا، في بعض الأحيان، لا نلقي له بالا”.

“عندما نقول مثلا “بخير لاباس، الله يسهل عليك، الله يحفظك”، فالدعاء دارج في لغتنا اليومية”، حسب الباحث.

يشير بنزروالة أيضا إلى أن الدعاء لا يرتبط بالبعد الديني، بل يرتبط بممارسة تواصلية عند المغاربة. قد تطلب من أحدهم شيئا بسيطا أو معلومة، فيرد عليك بدعاء.

علاج وتداوي نفسي

حسب بنزروالة، إذا ما حاولنا الانفتاح على المقاربة الدينية، فالدعاء فيه نوع الطلب. الأصل مثلا، حتى من مرجعية دينية، أن الدعاء فيه نوع من التذلل والتواضع والخشية، وكذا الرهبة واللجوء. كما يتضمن نوعا من الاعتقاد بأن هناك قوة خفية قادرة على تغيير وضع ما.

أما بالمنطق النفسي، فالدعاء، حسب الباحث، قد يُعبر عن لحظة ضعف، وكأننا نقول إن التدبير الذاتي الإنساني قد انتهى، والجهد قد استنفد، وما ننتظره هو قدرة غيبية قادرة على فعل كل شيء.

عموما، فالدعاء وفقَ ما اتفق عليه بنزروالة وبوشوار، تتداخل فيه معطيات تتجاوز المعطى الديني والعقدي، فهو استمرار في الزمان حسب بوشوار، وممارسة ثقافية اجتماعية حسب بنزروالة.

لكن السؤال هنا هو الغاية من الدعاء، فهو، في كل الأحوال، ملاذ ومناجاة بعد انتهاء القدرة الفردية والذاتية للأفراد، وهذا ما اتجه إليه بنزروالة.

ربما الدعاء وعي بأن هناك قوى أعلى من الذات، قادرة على الفعل. كما أنه نوع من الاعتراف بالضعف وانتهاء القدرة التعبيرية للإنسان والبحث عن المتجاوز والغيب الذي بإمكانه التغيير.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *