مسالك المعنى: كتاب جديد للكاتب سعيد بنكراد
أصبحَ الإنسانُ كائِناً عَاقِلاً عندمَا انفصَل عن الطَّبيعةِ واسْتطابَ له الـمُقَامُ في عَوالِمَ رَمزِيّةٍ كانت هِي شرطَ إِنْسانيَّتِه. فكان، بذلك، مُنتَجاً من مُنتجَات الثَّقافة. من خلالِها، امتلَك القُدرةَ على التَّأْثير …
أصبحَ الإنسانُ كائِناً عَاقِلاً عندمَا انفصَل عن الطَّبيعةِ واسْتطابَ له الـمُقَامُ في عَوالِمَ رَمزِيّةٍ كانت هِي شرطَ إِنْسانيَّتِه. فكان، بذلك، مُنتَجاً من مُنتجَات الثَّقافة. من خلالِها، امتلَك القُدرةَ على التَّأْثير فِي مُحيطِه وتسْخيرِه لِغايَاتٍ أخرى غَيْر غايات البقَاء ضِمْن مُحيطٍ صَامِتٍ. بذلك، كانت الثَّقافةُ شَامِلةً لكلِّ مَعارِفه ومعْتقداتِه وعاداتِه وتقاليدِه وأنْمَاطِ عَيشِه وخِبْراتِه، فرْداً وجَماعَةً. يشملُ ذلك الفَنَّ والحِرف ومُجمَل الصّنائعِ التِي أوْدعَهَا تصوُّراتِه عن الحيَاة والـمَوْتِ وإكراهاتِ العَيْشِ اليوميِّ[1].
وفق هذا، كانت العلامةُ في كلّ صيغِها هي الشَّكْلَ الرمْزِيَّ الذي يَقُوم بِدَور الوسِيط بَيْن الإنسان وعالَمِه الخارجيِّ، وكانت هي الأدَاةَ ذاتها التي اسْتعْملهَا فِي تَنظِيم تجْربَته بعيدًا عن الإكْراهات التي يفْرضُها الاحْتكاكُ المباشر مع مُعطيَات الطَّبيعةِ الخام. بل يُـمْكِن القوْل، اِسْتنادًا إِلى التَّعْريف السَّابق، إنّ الكلامَ هو الذي حوَّله إِلى كَائِنٍ يَعِي وُجودَه ويعِي وُجُودَ الآخرين ووجُودَ المحِيطِ في الوقْتِ ذاتِه.
إنّ الإنسانَ هو الكائنُ الوحِيدُ الذي يتَساءَل عن كيْنونته ويَضعُهَا ضِمْن ممكنات المعنَى خارج الفيضِ الطبيعيِّ.
وليْس غريبًا أن يُقابِل الفلاسفةُ بين “الطَّبيعةِ” و”الثَّقافةِ”. فقد كانت الأُولى فِي تَصوّرِهم مُعْطًى سابقاً على وُجُود الإنسانِ في اللّغةِ وفي المجتمعِ، أَمَّا الثانيّة، فتُمثّلُ أشكالَ التَّوَسُّط بَيْنه وبين عالَمِه، فهي أساسُ تاريخِه في الأرضِ. لقد تَعلَّم من خِلالِهَا كَيْف يَلبسُ وكيْف يَأكُل وكيْف يُميِّز بَيْن عوالم الأعلى والأسفلِ، وبين اليمينِ واليسار، ويفرِّقُ بين سلميّاتِ الدفءِ والبرودة، وتعلّم أيضاً كيف يميّزُ بين الألْوان والأشْكال ويحدّدُ وقعَها على وجدانِه. وضمنَ أشكالِ التوسّطِ هاته، ابتدع اللّغةَ فأَودَع العالم داخلها فصارتْ هي الدلِيلَ على وُجُودِ الواقع في عَيْن المتكلِّم والرَّائي والسَّامع. لقد امتدّ سلطانُها إلى كُلِّ شَيْء، إلى ظَواهِر الكوْن وأشْيائِه وكائناتِه، لقد أَصبَح الكوْنُ ناطقاً فيها.
حدث ذَلِك فِي التَّسْميات وفِي الأفْعال وفِي الصِّفَات، وامتدّ بعد ذلك ليَشملَ كلّ ما يُمكنُ أنْ يأتي من حالاتِ التَّرادفِ أيضاً. فالتعدّد الدلاليُّ ليس ترفاً في الكلامِ، إنّه هو الذي مَكَّن الأشْياءَ والكائنات مِن الحُضور فِي الكوْن مِن خِلَال مجموع حالاتِها، أي ما يُشكّل كينونةً تُبنى ضمن خبرةٍ الإنسانِ في النّفعيِّ والمجازِيّ وفي الـمُستهامِ. إِنَّ الألْوان ذاتهَا لا يُمكنُ أنْ تَتَميَّز عن بعْضِها البعْض إِلَّا فِي اللغَة. أَمَّا فِي النَّفْس، فَهِي حالات اِنْفعاليَّةٌ عَابِرةٌ. لقد “أصبح الأزرقُ أزرقَ عندما استضافتْه الكلِمةُ ” أَزرَق”، فاستناداً إليها تمّ تقْطِيعُ الشَّبح داخل الـمُتّصلِ اللّوْنِي”[2]. وهذا معناه أنّ الألوانَ خارج أسْمائِها لن تَكُون في العينِ سِوى مَظاهِرَ لِلأشْياء أو غطاءٍ لمجموعةٍ من الأهواءِ، فالأحمرُ مفصولاً عن كلّ الألوانِ الأخرى لا يُمكنُ أنْ يكونَ دالّا على شيءٍ آخر عدا الحُمْرةَ فيه.
وذاك شـأنُ الرَّوائح أيضاً، فهي صَامِتةٌ في ذاتها، ولكنّها ناطقةٌ في اللّغَة وناطقةٌ فِي الأنف الذي يشمُّ، فهو الذي يُميِّز بيْنهَا، إنّهَا تركيبةٌ كميائيّةٌ لا تقولُ عن نفسها أيّ شيءٍ، ولكنّها فِي الوعْي طَيّبَةٌ وَخَبيثَةٌ وَكَريهَةٌ ومُشهِيةٌ، قد تُوحي بأفراحِ الحياةِ، كما يُمكِنُ أنْ تُحيلَ على الأحزانِ والمآتم والموتِ. يتعلّقُ الأمرُ بصيغةٍ أخرى للقولِ إنّ العالم لا يَدُلّ على نَفسِه، إنّه لنْ يُصْبِحَ مرئيّاً إلّا عندما تلتقطُه العينُ مجسداً في مداراتِ اللّغةِ. فكُلُّ ثَقافَةٍ هِي لُغَة، ولا وُجُود لِلغةٍ في انفصال كلّيٍّ أو جزئيٍّ عن الثَّقافة.
لِذَلك، لا فَاصِل بَيْن الأدواتِ والعلاماتِ، فكلاهُما يُشكِّلُ أَدَاةً لِلتَّوَسُّط بَيْن الإنسانِ وعالَمِه، وهما أيضاً شَرْطَ انْفصالِه عن الكائنات الأُخرى. لِذَلك، لَيْس غريبًا أنْ يَربِطَ الكثِيرُ من الباحثين بَيْن الأدَاةِ وبين سيرورةِ التأنسُنِ في الأرضِ. “فالثَّقافة وُلدَت عندمَا منح الإنسانُ العاقلُ وظِيفَةً جَدِيدَةً لِحَجرٍ، ووفْق هذه الحاجة، مَنحَه اِسْمًا وحدّدَ له وظيفةً بِعيْنِهَا”[3]، وسيتعرَّف عليْه الآخرون بِاعْتبار الحاجاتِ التي يُمْكِن أنْ يُلَبّيها. “إنّه موجّهٌ نحو غائيّة استعماليّةٍ، إنّه ما يُسهمُ في تغييرِ العالم”[4]. وهذا المضافُ هو الذي مَنحَ الأفْرادَ قُدرَةً على تَبادُل الخبرات والتّأثير في محيطهِم. “إنّ وُجُودَ الـمجْتَمع يَقتَضِي تَحوُّلَ كُلّ وَظِيفَةٍ إِلى عَلامَةٍ دَالَّة على هذا الاسْتعْمال”[5].
وهذا مَعْنَاه أنّ “الثَّقافة تُؤثِّر فِي كلّ ما يُحيطُ بالكائنِ البشريِّ، فَهِي التي تُغيِّر من طبِيعَةِ العلاقةِ بينه وبين ما يُحيط بِه”[6]، فنحن نَلِج العالمَ من خلال حُجُبٍ أو مَصافٍ تُخلِّص الكونَ من مادِّيَّته وتُحوِّله إِلى معانٍ فِي الوجْدان. فالعلاماتُ لا تُسمِّي فقط، إنّهَا بِالإضافةِ إِلى ذلِك تُعيدُ صِياغةَ الأشْياء في الـمُجرد المفْهوميِّ لِكيْ يُصْبِحَ عابراً لِنفْسه وعابِرا لِلَّذي يسْتعْمله. بعبارة أُخرَى، “إنّنا نَتَحكَّم فِي الأشْياء عَبْر العلاماتِ، أو بِواسِطة أَشيَاء نُحوِّلُها إِلى علامَات دالّةٍ على الأشْياء. وذاك سبيلُنَا إِلى وَضْع اليَد على السُّلْطة السِّحْريَّة للكلَام الإقْناعيّ”[7]. إنّ الشّيءَ يَحضُر في العينِ من خلالِ وظيفتِه، إنّه يصلحُ لوظيفةٍ ما، وذاك شرطُ وجودهِ خارج نفسهِ.
استناداً إلى ذلك، وجبَ التّعاملُ مع المعنَى، كما تُنتجُه اللّغةُ والأشياءُ وسلوكُ النّاس، باعتبارهِ كياناً هارباً من حالاتِ التّعيينِ والوصفِ المباشرِ، فهو يَهفو دائماً إلى استيطان الظلّ واللاّشعورِ والأفعالِ المنفلتةِ من كلّ رقابةٍ. فالإنسانُ وحدَه، من بين كلّ الكائناتِ الحيّة، يُداري كينونَته في الرّمزيِّ والاستعاريِّ وفي كلّ حالاتِ التّعبير المجازيِّ. وهذا الهروبُ الدّائمُ خارج الذّات وخارج إكراهاتِ الأشياءِ هو الذي يُحّددُ حجمَ الدّلالات وسُمكَها وكامِلَ امتداداتِها الصّريحةِ والضمنيّة في الكلماتِ وفي السّلوك الإنسانيّ، النّفعيّ منه واللّعبي على حدٍّ سواء. وَهذَا قَدرُنا، “فوجودُنا فِي هذَا العالم، يَقتَضِي أنْ نَكُون أَسرَى المعْنى، فلَا فَكَاك لَنَا مِن سُلْطانه. إِنَّنا لا نَستطِيع القيَامَ بِأيِّ شَيْء أو قَوْلَ أيِّ شَيْء دُون أن يَكُون لِهَذا الشَّيْء اِسْمٌ فِي التَّاريخ”[8].
فقد تَختفي هذه المعاني أحياناً في تفاصيلِ تمثيلاتٍ استعاريّةٍ مجرّدةٍ، وقد تتخذُ أحياناً أخرى حالاتِ تَشخيصٍ يُحيل على فعلٍ مباشرٍ يُوهمُ بالحقيقة “الكليّة” للوجودِ الإنسانيّ، ولكنّه لن يكونَ، في جميع هذه الحالات، سوى محكيّاتٍ تَحتمي بها الذّاكرةُ وتَستعيدُ من خلالِها زمنّيةً ولّت إلى الأبد. ففي كلّ جزئيّةٍ تعبيريّةٍ، وفي كلّ أسناد القولِ تختفي إحالاتٌ لا رابطَ بينها وبين التجلّي المباشرِ، عدا ما يُـمكنُ أنْ يكشفَ عنه الإرثُ الوجدانيُّ الذي نسيَه العقلُ أو تناساه.
وهو ما يعني أنّ المعنى ليس كيانا جاهزاً، وليس معطىَ مرئياً تُدركُه الحواسُّ دون وسائطٍ، وليس كما ثابتاً يُصنّفُ استنادا إلى ما يؤكدُ أو يُثبتُ أو يَنفي هذا السّلوكَ أو يردُّه إلى هذه القيمةِ أو تلك. إنّه سيرورةٌ خاضعةٌ في وجودِها وفي تحقّقها لمجموعةٍ من الشّروطِ، حاولت السّميائيّات تحديدَ بعضها باعتبارها القواعدَ الضمنيّةَ المنظِّمةَ للفعلِ المباشِر والمتحكِّمةَ في طُرقِ الإحالةِ على بعده التّاريخيّ وخلفيّاته اللاّشعوريّة وعمقِه الأسطوريّ على حدّ سواء.
وذاك هو المدخلُ الرئيسُ الذي سيُمكّننا من التّحول من تلمُّسِ ما يَـمْثُل أمام الحواسّ باعتبارهِ سلسلةً من المراجعِ الخرساءِ، إلى محاولةِ الإمساكِ بالهويّاتِ الدلاليّةِ التي يتسلّلُ من خلالِها الشيءُ والواقعةُ والكائناتُ إلى العالم الإنسانيّ. ذلك أنّ هذا العالمَ يتحدّدُ من خلالِ قدرةِ كلّ الأشياءِ والكائناتِ التي تؤثّثه على إنتاجِ الدّلالات، فخارجَ هذه القدرةِ لن يكونَ العالمُ كلُّه سوى مجموعةٍ من الكياناتِ الخرساءِ التي تَتحرك خارجَ الزّمنيّةِ، فوجودُها الوحيدُ الممكنُ هو وجودُها في الخبرةِ الإنسانيّةِ.
فنحن نبحثُ في محيطنا، من خلالِ مساءلةِ البداهيّ والعاديّ والمألوفِ، عن هويّة أخرى غير ما تقولهُ الذّات عن نفسِها، وغير ما هو مُثْبتٌ في الانتماءاتِ والعقائدِ الكبرى التي لا نتذكّرها إلاّ في المناسباتِ أو في الطقوسِ التي نمارسُها خوفاً من آتٍ، أو أسىً على زمنٍ ولّى ولن يعودَ أبداً. إنّنا نحاولُ ردَّ الظاهرِ إلى جوهرهِ، والكشفَ عمّا يختفي وراء الواجهاتِ: إنّ المعنى لا يُسلّم نفسَه طواعيّة، إنّه يختفي في المألوفِ لكي يُغطّي على ما يمكنُ أنْ يُنتجَه السّلوكُ النفعيُّ من دلالات رمزيّةٍ.
وفق هذه المحدّداتِ الأوليّةِ، يُمكن قراءةُ الفصولِ التي نُقدّمها في هذا الكتابِ. فلم يكن هاجسُنا، ونحن نُسائل مجوعة من الوقائع التي تمثّلُ جزئيّات من الحياةِ في الفضاءِ الثّقافيّ المغربيِّ/العربيّ، الوصولَ إلى دلالةٍ كليّةٍ ونهائيّة، ولم تكن رغبتُنا هي وضعَ اليدِ على حقيقةٍ خاصةٍ بهذه الوقائع. إنّ ذلك يتنافى مع تصوّراتنا النظريّةِ ولا يُعدُّ جزءاً من غاياتِنا. فما يمكن قولُه عنها هي أنّها لا تشتملُ على معانٍ جاهزةٍ، وليست محدودةً بأفقٍ واحدٍ للقراءةِ. إنّها، ككلّ الوقائعِ، متعدّدةٌ، إنّها سلسلةٌ من السيّاقاتِ التي يُمكنُ استثارةُ بعضِها استناداً إلى فرضيّاتٍ للقراءةِ، واستبعادِ أخرى إلى أجلٍ مسمّى تُمليه سِياقاتٌ أخرى للتّلقي. ذلك أنّ كلّ فرضيّة ليست سوى محاولةٍ لتجسيدِ حالةٍ دلاليّةٍ من خلالِ بناء قصدٍ جديدٍ ليس معطى من خلالِ التّنظيمِ المباشرِ للوقائعِ.
وستكونُ نصوصُ الذّات، ما يُصنّف ضمن اللّغةِ وما يكشفُ عنه السّلوكُ، هي سبيلَنا إلى ذلك، فهي لا ترسمُ حدودَ حياةٍ “واعيّةٍ”، بل تُقدم غطاءً استعاريّاً لجزئياتِ الحياةِ “الواقعيّة”، ففي هذا الغطاءِ يختفي جزءٌ من القناعاتِ التي لا يُعبِّر عنها السّلوكُ بشكلٍ صريحٍ، بل تَتراءى من خلالِ لا وعيِه.
[1] -انظر التعريف التي تعطيه اليونيسكو للثقافة.
[2] – 29 Jurgen Pesot : Silence on parle, éd Guerin,1979, p.
[3] – Umberto Eco : La structure absente, éd Mercure de France , 1972, p. 26
[4] – Roland Barthes : L’aventure sémiologique, éd Seuil, 1985, p.251
[5] – Roland Barthes : L’aventure sémiologique, op cit, p.251
[6] -29 Jurgen Pesot : Silence on parle , p.
[7] – أومبيرتو إيكو : العلامة، تحليل المفهوم وتاريخه، ترجمة : سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، بيروت 2007، ص206
[8] – Maurice Merleau-Ponty : Phénoménologie de la perception, éd Gallimard, 1945, pp. xiv-xv